عن لغز غزّة والمواقف المتباينة مما يحصل فيها

الشعب الفلسطيني يتعرض لحملة تدمير مرعبة وغير مسبوقة بسبب الاصوليات والمشاريع الطوباوية.

يرى الكثيرون ان الموقف العربي مما يجري في غزة يمثل تخاذلا وخيانة! فيما ينظر كثيرون ايضا للأمر من زاوية مختلفة، لكن تحتاج الى توضيح يمكن اجماله بنقاط سريعة.

1- اعترف العرب جميعا (عدا العراق) بمن فيهم منظمة التحرير الفلسطينية، الممثل الشرعي للشعب الفلسطيني وقتذاك، بإسرائيل بعد حرب الخليج 1991 في مؤتمر مدريد للسلام. ومن ثم قدّم العرب في مؤتمر قمة بيروت العام 2002 مبادرة للسلام وحل الدولتين.

2- لم تعترف حماس بالمبادرتين وبأي شكل من اشكال السلام مع اسرائيل وظلت تتحدث عن تحرير كامل الاراضي الفلسطينية. وقد رأت منظمة التحرير ومعها اغلب الانظمة العربية ان موقف حماس هذا سيضعف الجانب الفلسطيني في المفاوضات ويقوي الجانب الاسرائيلي من دون ان يغيّر شيئا على الارض بسبب غياب التوازن الإستراتيجي بشكل كامل بين طرفي الصراع.. سياسيا واقتصاديا وعسكريا، بفعل الدعم الاميركي الغربي ومن ثم العالمي بعد اعتراف العرب بإسرائيل.

3- ظلت حماس تمارس سلطتها في قطاع غزة بعيدا عن السلطة الفلسطينية في الضفة الغربية، التي انبثقت على خلفية اتفاق غزة – اريحا واتفاق اوسلو الذي يعارضه اليمين المتطرف الاسرائيلي ويراه كثيرا على الفلسطينيين! وقد صار موقف حماس يغذي اليمين الاسرائيلي هذا ويأتي بنتائج عكسية، كونه راح يدفع به الى السلطة لمواجهة التطرف الاسلامي الفلسطيني او كما يروج هو لذلك. وقد وصل التنازع على السلطة بين حماس والحكومة الشرعية في الضفة الغربية الى ما حصل في العام 2007 حين تم طرد ممثلي منظمة التحرير من المؤسسات في غزة بطريقة مخزية ومثيرة، لاسيما الذين اخرجوهم من مبنى الأمن الوقائي اسرى ونصف عراة! وشكلت حماس حكومة اسلامية هناك.

4- اقامت حماس شبكة علاقات خارجية متناقضة وغير مفهومة، ترى اغلب الدول العربية انها اخذت الشعب الفلسطيني وقضيته الى المجهول، حيث ان لها علاقة قوية جدا بدولة قطر التي ترعاها وتدعمها ماديا وتستضيف قادتها في الدوحة، بينما قطر نفسها لها علاقة قوية جدا بإسرائيل وتستضيف ساستها ومسؤوليها الأمنيين الكبار باستمرار كما يعرف العالم كله! وايضا لحماس علاقة قوية بتركيا التي تعترف بإسرائيل منذ الخمسينيات، وما زالت علاقتها مستمرة على الرغم من تسلّم الاخوان المسلمين، وهم حلفاء حماس، السلطة هناك منذ عقدين. ولها علاقة مميزة ايضا مع إيران التي ترى اغلب الانظمة العربية، لاسيما بعض دول الخليج المهمة ومصر والاردن، ان لها مشروعا توسعيا، وقد جعلت من القضية الفلسطينية والوحدة الاسلامية قناعا عقائديا له.

5- اتخذت حماس قرار الحرب وعملية "طوفان الأقصى" في لحظة تاريخية حرجة للغاية، حيث اغلب الدول العربية المحيطة بفلسطين باتت واهنة تماما، اقتصاديا وعسكريا، وشعوبها منهكة. فالعراق تم تدميره على مدى ثلاثة عقود واكثر، وبدأ للتو يستعيد عافيته، وسوريا ما زالت مدمرة ومبعثرة بعد الحفلة الدموية التي مازالت تنوء تحت ثقلها، بالإضافة الى الحصار الاقتصادي الذي قوّض قدراتها، بينما حليفها الروسي منشغل بحرب شرسة يواجه فيها الغرب وحلف الناتو منذ نحو عامين. والأمر لا يختلف مع لبنان الذي بات واهنا تماما وعلى مختلف الصعد. ومن حولها الاردن بقدراته المحدودة والمطبّع مع اسرائيل وكذلك مصر المطبّعة والغارقة بالمشاكل والديون. فأي عمق استراتيجي تبقّى لحماس لكي تنتظر منه النجدة؟

6- اغلب الانظمة العربية ظلت تنتظر بفارغ الصبر انتهاء الحرب بتدمير حماس واخراجها من الميدانين العسكري والسياسي معا. لكن استمرار الحرب لهذه المدة الطويلة والخسائر المرعبة بالأرواح بين الفلسطينيين الابرياء احرج الجميع، بمن فيهم الاميركان والغرب، ووضع الحكام العرب في موقف صعب للغاية. لكننا نرى ان اليمين الاسرائيلي يحاول ان لا ينهي ورقة حماس تماما لكي لا يكون في مواجهة مع العالم الضاغط باتجاه انفاذ حل الدولتين، وهذا ما يجعل الحرب اليوم في مرحلة برزخية وهي مشتعلة في اروقة القرار السياسي الدولي مثلما هي مشتعلة في الميدان العسكري، قبل ان يستقر رأي الكبار وحراكهم في الغرف المغلقة على صورة معينة ستطرح بصيغة مشروع يقدم من قبل اميركا او غيرها، لتبدأ المرحلة الجديدة التي سيدخلها الفلسطينيون والعرب بشكل عام وهم في موقف ضعيف بعد ان تم التبذير وبإفراط بالأرواح والطاقات والاموال والزمن الطويل أيضا.

الحرب خيار استراتيجي تقرره الدول وليست المنظمات وغيرها، وبعد ان تستنفد كل الوسائل الأخرى، وتضع استراتيجية شاملة لمواجهة العدو. فأين هي استراتيجية حماس، عسكريا واقتصاديا وسياسيا؟ وأين هم حلفاؤها أو ممن كانوا يدعون ذلك؟

قلوبنا تتمزق على الشعب الفلسطيني الذي يتعرض لحملة تدمير مرعبة وغير مسبوقة بسبب الاصوليات والمشاريع الطوباوية.