مرآة عاكسة عند الشاعر بدل رفو

ذكريات طفولته طغت على كل لحظات الصمت التي تنتابه في محطات حياته الخريفية وأخذت تستبدل أفكاره وتطغى على كلمات شعره وسطور قصائده.
حاتم خاني
دهوك

قد يكون أحد الأعمدة التي يرتكز إليها شعر الاغتراب هو اشتياق الشاعر إلى أيام طفولته وشبابه التي عاشها في الوطن، وارتباط تلك الأيام بمعالم وطنه ومدينته وحيه بكل منغصاتها وحلاواتها، وإحساس الشاعر برغبة جامحة لديه تظهر بين سطور معظم القصائد التي ينظمها في تذكر تلك الأيام وتعلقه الشديد بأحداثها، حتى إن الأحداث التي كانت تعتبر في حينها أحداثا مؤلمة تبدو في مخيلته وكأنها أجزاء متسلسلة في حياته يجب المرور بها حيث تحولت هي الأخرى إلى ذكريات ذات ملمس شفاف ناعم بعد أن كانت في تلك الأيام العتيقة تشكل مأزقا تؤرق له عيشه.

ومهما مر الشاعر في تلك البلاد البعيدة وهو في غربته بخذلان وأوقات عصيبة، ومهما تنوعت جولاته ورحلاته في أصقاع الدنيا ومدنها، وأيا بلغت محاولاته ليطفئ حنينه وشوقه لأيام طفولته ووطنه الأم وذلك باغتراف ثقافات الشعوب التي يزورها وانغماسه بتلك المناهل التي يعتقد بأنه قد يبتعد عن ذلك الحنين الجارف لطفولته لكيلا يعود إلى تذكر بدايات حياته، إلا أن أزقة مدينته حيث تطبعت عيناه الصغيرة حينها على رؤيتها لا تبرح تطرق ضفائر مخيلته وتحبس أفكاره بنفس الاتجاه الذي يتحكم في غربته ومهجره وهو مسار الوطن والحنين إلى الطفولة العذبة التي أصبحت هي متنفسه وهي رحلاته وأحلامه وأوهامه واللغة التي لا يغدو إلا ويتكئ على أرصفتها وينطق بحروفها وأصبحت ذكریات هذه الطفولة‌ مرآة‌ عاكسة ملتصقة في عقله وجوانحه تمنعه من الانخراط مع تلك السيول الجارفة من الكتّاب الذين يلوكون في أمور الوطن المتشابكة ويتيهون في لغو الكلام عن البلاد كما أنها تقيه من أفكارهم التواقة للحرية الواهمة، وبذلك يحافظ على خطواته بعيدة عن الانجرار في ذلك السراب كي لا يستسلم لعبودية الحزن ويفقد كل أمل بغد أفضل.

كلما سَحقتَ انكسارات وهزائم ..

سافرت صوب أبعد العوالم..

أطفأت حرائق شوقك للطفولة

للوطن الأم،

وأنت جبتَ الدنيا ..

سكبتَ فيه ثقافات الشعوب

وكسرت أضلاع الحنين

كي لا تسافر للبدايات،

وقتها ..

ستتدحرج الطفولة وأزقة مدينتك

في عينيك ومخيلتك..

تتنفسها عمراً..

رحلات في دمك..

موانئاً للغاتك،

لتغدو الطفولة مرآةً وسوراً تقيكَ

من سيل كتبةِ التقارير،

كي لا تختمر خطواتك

لظلالٍ عطشانةٍ للحرية،

ويتعمد الحزن بالعبودية،

ويبدو أن الشاعر قد تخبط للحظة ما بين كلماته وما بين بعض سطوره حيث ابتعد عن الترابط  اللغوي وعن تسلسل معاني قصيدته وذلك لرغبته بالابتعاد عن أولئك الكتاب المشار إليهم، فبعد أن كان ينأى بنفسه عن الاستسلام للحزن وعن التلون بألوان كتّاب السلطة، يقفز إلى سطر ذو معنى مختلف ليبدي رغبته برؤية المدن وقد تلونت برائحة ورود النرجس المعروفة في وطنه، وتتهادى مع إيقاعات العشاق والعرائس وأفراحهم وابتهاجاتهم.

وهنا نعتقد أن اندفاعه الشديد للتعبير عن رفضه لخوض الآخرين في تلك المسائل التي يعتقد هو أنها لن تجدي نفعا قد قاده للوقوع بهذا الاضطراب وهذا الاختلاف في ترابط قصيدته، وقد نختلف في حيثيات هذا الأمر مع الشاعر إلا أننا نفسر رغبته كما هي.

وألا تتلون المدن بعطر النرجس

بإيقاعات رقصة العناق،

كأفراح وإبتهاجات العرائس والعشاق..

ويستمر هذا الاضطراب وهذا التداخل بين جمل القصيدة فيوصلها إلى عقد لا يمكن حلها أو تقريبها مع بعضها، أو ربط المعاني السابقة مع تلك التالية، ونضطر نحن أيضا أن نفسر السطور الثلاثة التالية على أن الشاعر قد زار باريس وأنه قد علق كلمات عشقه لطفولته (يتصور ذلك) على حائط الحب الموجود في حي مونمارتر بباريس وفي يوم ممطر وبلغته الكوردية ليشارك لغات العالم الأخرى المكتوبة على ذلك الجدار وليترجم لهم مدى تعلقه ومدى ارتباطه العميق بتلك الطفولة.

وعلى تفاصيل جدار الحب في باريس

علقتُ كلمات عشقي لطفولتي في يوم ممطر..

الشاعر يقول إنه يحب طفولته حبا جارفا تحول إلى إدمان بحيث يرن جرس هذا الحب باستمرار في كيانه

يقول الشاعر إنه يحب طفولته حبا جارفا تحول إلى إدمان بحيث يرن جرس هذا الحب باستمرار في كيانه، ونعتقد أنه قد بدأ يدمن على هذا الوجع الناتج من هذا الحب ويتلذذ به ويرتوي منه كلما أراد أن ينهل بعض السعادة من ماضيه السحيق الذي أصبح أسيرا له وملتصقا به حتى الثمالة.

"أحبك رغم أجراس الوجع وماض سحيق"!!

***       ***

المزج بين خريف العمر الذي بلغه الشاعر وبين ذكريات طفولته، تكاد لا تخلو منه أشعاره حتى أننا قد نتوهم عند قراءة قصائده كلها، أننا نقرأ نفس القصيدة وقد تتكرر نفس الكلمات فيها أيضا ولكن بإيقاع مختلف وبسردية أخرى، وفي معظم محطات العمر التي يتوقف فيها، يؤكد لنا الشاعر أن صمته أثناء توقفه في تلك اللحظات تنير له دروبه وتوجهاته ومسارات هواه وشغفه وهيامه وعلاقته بالخطوات التي تقوده في تلك الدروب، بالإضافة أن تلك اللحظات هي التي تلهمه وتدفعه لكتابة قصائد غربته ليدرج فيها نشاطات أيامه ويصف تجاعيد الشيخوخة التي تخط آثارها على وجهه وكأن وجنتيه ساحة لعب لحياته وأحلامه، وآثار الشيخوخة هذه بدأت تؤلمه وتوجعه يوما بعد يوم يتقبل طرقاتها وهو مقتنع بها ولا يواسيه في ذلك إلا ذكريات طفولته التي تمتزج مع قطرات دمه الجارية في عروقه.

صمتُ محطات خريف العمر..

قناديل دروبي وقبلاتي وأرضي.

أنت تباشير قصائد الغربة ..

هديل الأيام ..

ملامح الشيخوخة على مدرجات ملاعبٍ

تلاعب حياتنا وأحلامنا .

مطارقٌ تلاحقنا حتى وإن طاحت بنا الأيام

ولكن !! طفولتي تتدفق كشلالٍ في دمي !!

***      ***

يعتقد الشاعر أن رحلاته وجولاته حول العالم أفضل دواء له ليبتعد عن شيخوخته التي بدأت تلف أيامه برداء من الحزن ولينسى حنينه الطاغي لطفولته، ولازال هذا الدواء يصاحبه ويكون شفيعا له، لكن على الرغم من زياراته للمناطق الباردة جدا، بحيث شعر بانجماد أطرافه، وجولاته في المناطق الحارة متمثلة بحرارة بركان ايتنا في صقلية، واختلاطه بفقراء ومعدمي الهند حيث شاهد أطفالها الحفاة التواقين إلى رغيف خبز، وزياراته المتكررة لبعض المدن التي يحبها في بلاد مختلفة عن بلاده، كل تلك المحاولات لم تشفع له ولم تغنه عن وجع الحنين وتوق الاشتياق إلى أيام الشباب حيث كان يندمج مع دور الكتب ويبحث عن دواوين الشعر لذا يعود من كل تلك الأسفار ليحط من جديد في بلاده ووطنه لينغمس مع آلام هذا البلد حيث لا شئ يكتمل فيه، فلا الأحلام قد اكتملت فيه يوما، ولا إحساس بنهاية الاستعمار أو انقراض لمرتزقة الكلمة وكتاب السلطة أو تجار الأدب الذين لا زالوا يرتزقون باسم هذا الوطن الجريح.

في مرافئ الدنيا ..

أحيانا تحت جلودنا قطب منجمد ..

وأحيانا بركان (ايتنا) في صقلية،

وأحيانا رغيفُ خبزٍ وأقدام حافية.

أحيانا.. تغوينا وتُداعبنا هدنة قصيرة

لرحلةٍ صوب الماضي وأحلام الشباب،

حين كنا نلهث من كل حدب

وصوب خلف دواوين الشعر ودور الكتب القديمة.

لا شئ يكتمل في بلادي الأولى..

لا حلم العمر ..

لا نبضات لنهاية الاستعمار..

لمزتزقة الكلمة وتجار الشعر باسم الوطن،

وركوع الفن والأدب في خانة الخنوع.. !

عدنا وعاد الشاعر إلى ظمأه نحو طفولته حيث لازال يعتقد (أحيانا) أنه لم يتمتع به ولم يرتوي من عذوبته، وأن لياليه التي عاشها كانت حزينة كظلام تلك الليالي، وحتى تمتعه بالحرية التي يعيشها الآن لم ولن تخفف عنه آلامه أو تزيل أوجاعه عند اتساع خيالاته نحو مدن وطنه التي تركها خلفه، وقهوته التي يسكبها قد فقدت لذتها وكأنها قد صبت في فنجان مكسور ولم تعد تعينه على القراءة كعهدها.
 

يا ظلي العطشان.. لطفولةٍ لم أعشها ..

يا طرق الليل الحزينة..

يا حرية لم تستطع أن تُفككَ طلاسم أوجاعي

على عتبات المدن القديمة.

يا فناجين قهوتي المكسورة

من دون أن تُقرأ .

أيا طفولتي ..

أيا قناديل صمت محطات خريف العمر.. !!

فذكريات طفولته طغت على كل لحظات الصمت التي تنتابه في محطات حياته الخريفية وأخذت تستبدل أفكاره وتطغى على كلمات شعره وسطور قصائده والجمل التي يريد أن يربطها مع بعضها البعض حتى أضحت هي قناديله المقبلة. 
وأصبحت:

أحزان الوطن

وأوجاع الطفولة

والأم خريف العمر

تدق عليه أجراسها بدوام نبضات قلبه حتى لو كان ذلك في بلاد الحرية.