الواقع الثاني وبوح القوافي في رحاب 'لوح السيريالزم'

كُلُّ الخُطُوطِ تَباعَدَتْ وتَفَرَّقَتْ

• بين قوسين:

يسطر الشاعر - طبيب الصدر - د. وحيد زايد، بين قوسين بوحه الشعري النبيل، بدأ قوس ديوانه الأول بمفتتح مثل (بلقيس) معادلًا موضوعيًا ملكيًا لصروح الشعر السامقة، يقول:

ذَرُونِي أنثُرُ الأشْعارَ ورْداً ** ومُوسِيقا وعِطْراً وجَمالَا

عابرًا في سبيله إليها بوابة المجاز الشعري، يقول:

وأبْسطُ تحتَ بِلقيسَ بِسَاطاً ** عَقِيقاً أحْمراً دَمًّا مُسَالَا

فصاغ صورة شعرية تتشكل من صور جزئية – عنقود عنب - تحتفي بجوهر الدماء الزكية، أما القوس الشعري الآخر فكانت القصيدة التي يحمل اسمها الديوان "في لوح السيرياليزم"، وقد يبدو من علامة الديوان الكلية تلك أن القصائد سيريالية تنشد المعاني المجردة في تهويم شعري، لكن تلك القصيدة تكشف عن المفتاح الفني الحاكم ليس فقط للقصيدة بل للديوان جميعه، حيث إن القيمة الجوهرية في الديوان هي التوسل بالقوافي لبناء الوعي الحتمي بفكرة "الاستقامة"، باعتبارها طوق النجاة في سفين الإنسانية التي يتلاعب بها صخب موج قاتل، شكلته خيوط العنكبوت، والقصيدة محكمة رمزية، عبارة عن كناية كلية للإنسانية في مناشدة الخلاص، يقول:

كُلُّ الخُطُوطِ تَباعَدَتْ وتَفَرَّقَتْ

فِي كُلِّ صَوْبٍ واتِّجَاهْ

حَتَّى بَدَتْ

حِينَ انْجَلَتْ فِيها الحَيَاهْ

كالأُخْطُبُوطْ

كُلُّ الخُطُوطْ

وبعد قليل من إيضاح شأن تلك الخيوط السامة، يقول عن الاستقامة:

لَكِنَّنِي

قَبْلَ السُّقُوطْ

أبْصَرَتْ عَيْنَايَ خَطّاً شَامِخاً

وَسْطَ الخُطُوطْ

فبَعَثْتُ صَوْتاً صَارِخاً

وأنا أَمُوتْ

أبْصَرْتُهُ

ورَفَعْتُ كَفِّي كالْغَرِيقْ

ولم تكن لحظة القبض عليه بيد من حديد هي النهاية السعيدة، بل كانت البداية حيث يرسم خارطة طريق للعمل الشاق الذي يستلزم جهدًا:

فأخَذْتُ أنْظُرُ مِن جَدِيدْ

للطَّرِيقْ

فإذا بِهِ دَرْبٌ طَوِيلْ

يَمْتَدُّ خَلْفَ المُشْتَرَى

ويَمُرُّ عَبْرَ المُسْتَحِيلْ

والحقيقة أن الذات الشاعرة قصدت للوضوح والبساطة الآسرة، بوسيلة شعرية ناجزة، حيث وظيفة اللغة الإيضاح كشأن الاستقامة التي تصل لهدفها من أقصر طريق (أقرب مسافة بين المبدع والمتلقي)، في ثوب تناص من روح النصوص الشريفة، حيث استدعت قصة (بلقيس) وهي تطأ الصرح الممرد من قوارير، والرسول - صلي الله عليه وسلم - وهو يقدم وسيلة تعليمية لإيضاح الطريق المستقيم والأخرى النافرة الهالكة.

• جناحا البوح الشعري:

ولم يكن التشغيل الفني في الكتاب الأدبي قاصرًا علي فكرة التقويس الرامز، بل كان مرتكزًا علي عطاء "جماعية القصائد" بحيث تمنح قيمًا مضافةً جديدة من تكافلها، إضافة إلى وهجها الفردي، ومعبرة أيضًا عن دور الشعر في حياة شاعرنا، فهو وسيلة دائمًا لغاية، منها إضفاء البهجة الرقيقة الباسمة في إطار مد جسور التعارف والتواصل الإنساني (قصيدة عرس نموذجًا)، حيث عرض في غرض شعري نير "قصائد الصداقة"، والتي نأمل أن يقدمها ديوانًا مفردًا خاصًا بها، ومنها التأريخ لمشاعر قلبية صافية، والتعبيرية في الخطاب الشعري عن أفراح وتباريح عامة وخاصة، فكان بوحًا شعريًا كالنمير العذب، فبين القوسين، نجد هذا الطرق المبهج بقصيدة (كن واثقًا)، وبها بيت يتماس مع كناية الديوان الكلية، يقول البيت اللافتة:

كُن واثِقاً كالَّليْثِ لَسْتَ بِعاجِزٍ ** لمَ تَنْزَوِي خلْفَ الحَياةِ حَيَاءَ

وفي نهج القصيدة الفني أن الأنواع الأدبية تتجاور ولا تتنافي، ولا يسحق بعضها بعضًا، ولكل مذاقة وألقه وطاقته التعبيرية، فالقصيدة التقليدية ما زالت تغذي الوجدان إذا كانت محكمة تشتمل تسريبات الصدق الفني والمنطق الشعري، إضافة لجلال البناء الإيقاعي، ولم تكن قاتمة تكسر عظام الأمل بل تنشد الواقع الثاني.

ورسم الشاعر لقصدية درب الخاص الذي يفضي للعام، والعام الذي يتجول في فؤاد الشاعر فيموج بالتأثر، فيكون جانبًا سيريًا للذات الشاعرة، وهذا التمازج البارع عبر عنه كثرة الهوامش التي تحيل القراء ليعايشوا أجواء التجربة الشعرية بجناحيها، وليتذوقوا قطرات من سيرة الوطن العروبي والإسلامي جميعًا، شاكيًا متألما موضحًا سر الداء والدواء، ثم يسرد هوامش على درب السيرة والحنين في خطية زمنية تبدأ بقصائد الطفولة والمرح وعرس الصديق وشراء سيارة والحب، ثم السفر وخمسون .. ثم ستون عامًا، والسفر والترحال إلى السعودية وليبيا، وأشواق اللقاء، ثم الموت مع ظلال التأمل في فلسفة الحياة.

ولا يمكن الإشارة في كلمة وجيزة لكافة الثيمات الموضوعات الفنية والإنسانية في رحاب الإفضاء الشعري العام والخاص معًا، خاصة مع إمتلاء خزان تجارب الذات الشاعرة، والتي انهمرت شعرًا، ويكفي أن نشير لنموذج "ماتت رومانا" هذه الفتاة البائسة التي اجتمعت عليها الدواهي، فجري التأريخ الشعري الإنساني في أبيات رائقة عذبة:

مَاتَتْ رُومَانَا

ولَمَّا يَبْكِهَا أحَدٌ

فجَاءَ الشِّعْرُ مُمْتَطِياً

بُحُورَ الفَنِّ رُكْبَانَا

ودَقَّ طُبُولَ ثَوْرَتِهِ

بِكُلِّ العَزْمِ أشْجَانَا

وأطْلَقَ مِنْ مَرَارَتِهِ

عيُوناً مثْل بَلْوَانَا

وبعد قليل:

فقالَ الشِّعْرُ قَوْلَتَهُ ** كَفَى الظُّلْم الَّذِي كَانَا

ولَا تَثْرِيبَ فانْطَلِقُوا ** وقُومُوا أصْلِحُوا الآنَا

فكانَ النَّاسُ مِنْ حَجَرٍ ** وكانَ الشِّعْرُ إنْسَانَا

وتنبع فكرة أنسنة الشعر للتعزي وسبيلًا للفعل الناجز في مقابل وبسبب تشيُئ الإنسانية وماديتها، ولا نترك مجال الكتابة دون تمحيص قصيدة المركز لإنارة فكرة الواقع الثاني.

• صباح الشعر:

(إن الصباح صباحى) قصيدة - أحسبها مركزية في الديوان، لأنها خلاصات البوح الشعري العام والخاص، وتنبع أهمية هذه القصيدة أنها تسوق بوحًا شعريًا منطقيًا، وتنفي أي تسربيات قاتمة لوجدان القارئ، وتؤكد قصدية الذات الشاعرية في الدفع إلي رحاب الواقع الثاني، لذلك اتسمت القصيدة بروعة الاستهلال وتكرارية البيت الذي غرس غرسًا في فؤاد القارئ، ويحمل قيمة القصيدة وقصديتها النبيلة، وقد لا يتذكر السامع أو القارئ بعض أبيات القصيدة ولكن يظل البيت العلامة جرسًا إيقاعيًا يختال في ضميره، يقول:

قل لليهود تفردت بالساح ** لا تهنئى إن الصباح صباحى

لم تمارس الذات الشاعرة جلد الذات رغم اقرارها بالواقع (تفردت بالساح) لأن هناك ما يسمى (الواقع الثانى)، وهى سمة لصيقة بالآداب القيمية، فهي ليست أحلاما مخدرة، أو أماني شاعرة تهوم في رحاب اللامعقول، بل كانت واقعًا متحققًا فنيًا، ويستمد هذا الواقع – اليقيني - أدلته من النصوص الشريفة (وإن جندنا لهم الغالبون)، ولا تفلت الذات الشاعرة فرصتها بالطرق على الحديد الساخن بعد البيت الافتتاحي الجهير المتوثب بالحماسة والإباء، فيسوق في قياس منطقي أدلة عقلية لا يمكن إنكارها من كون أن للحياة سننًا، وأن الأيام دول، بل ومن المثل السائر (ما طار طير وارتفع، إلا كما طار وقع)، يقول:

علت اليهود ومن علا عن حده ** لا بد هاو من عل لبطاح

وقد يتبادر للأذهان أن الذات الشاعرة تدعو للمكث في انتظار الأقدار تدبر لها وهي خاملة لا تعمل! بل أرادت القصيدة أن تعمق معناها بداية بالقياس المنطقي الدامغ، فيتجذر في فؤاد القارئ حتمية الواقع الثاني، ويشير لفكرة أخرى تلازم أيضا تلك الواقعية، وهي أن الصمود في المحنة دليل انتصار، إشارة لما أسميه (الأبرياء يحكمون العالم) بثباتهم رغم المهلكات .. يقول:

إن البطولة في الكفاح لصامد ** رغم المهانة مثخن بجراح

كما يضع خريطة طريق للخروج من المحنة، ويرى أن الأمور بالخواتيم، وأن الصراع غير منته طالما لم ينهزم المغلوب نفسيًا أمام عدوه، يقول:

لا ترفعن يد الفخار لفائز ** قبل النهاية كل فوز ماح

وتتداعى معانى القصيدة تمجد كفاح البطولة في الصراع الإمام (فلسطبن) وتدعو للأمل، وأرى أن القصيدة استوفت معناها لهذا البيت الجميل:

فارفع زمان المجد هامك عاليا ** واخلع على الشهداء خير وشاح

وتلك بعض ثمار هذه القصيدة الجميلة، وهى مطولة فيها روح النشيد وأصالة الشعر العربي الموهوب، الذي نجد شواهد كثيفة عليه في هذا الديوان العذب.