سؤال السنة الثامنة من الثورة السورية المستحيلة

قبل سنوات، من بين سبع، في بدايتها، وفي منتصفها، وقبل سنة، والآن، كان السؤال: ماذا لو بقي الأسد بعد كل هذا الدمار وهذه التضحيات؟

لم تكن الإجابة على السؤال سهلة، على الرغم من حالة الشك التي تثيرها المعارضات العسكرية، بشقيها السياسي والعسكري، بل بشقوقها، وتصدعاتها، وأدائها الذي يصب مزيداً من الشك على نار الثورة التي تحاول الإبقاء على جذوة الأمل.

أكثر من ذلك، كان الجواب على السؤال بالإيجاب مرعباً لكل السوريين، وللذين غادروا البلاد خاصة، فهذا يعني أن هذا الاحتمال سيكون آخر عهدهم ببلادهم التي غادروها، ولا أمل لهم بالعودة إلا بزوال الأسد، وسلالته، من الحكم، عبر زلزال، أو بركان.

عشت هذا السؤال الافتراضي مرتين على الأقل، فقد طرحه علي صديق في تموز 2011، قبل أيام من مغادرتي دمشق، وكان جوابي الواثق أن السوريين كسروا حاجز الخوف إلى الأبد، ولن يكون في مقدور الأسد إعادة احتجازهم في البلاد التي كان يعتبرها مزرعة ورثها عن أبيه.

وطرح السؤال ذاته صديق آخر في بيروت في نهايات عام 2014، لكن بشكل آخر، وتولى هو الإجابة عليه: بشار الأسد سيبقى، لكنه استوعب الدرس، بمعنى أنه سيخفف من قبضته الأمنية على السوريين، ويمكن أن تنشأ في سوريا أحزاب وحركات سياسية تخفف من وطأة تفرد الحزب القائد والحاكم إلى الأبد.

لكن هذا السؤال الفاجع عام، والإجابة عليه بالإيجاب تعني أن السوريين سيواجهون إذلالاً مضاعفاً من قبل النظام الأسدي حتى من مرحلة ما قبل 2011، وسيكون اتجاه الانتقام، إنْ حصل، معكوساً هذه المرة، بحيث يتحول ما كانت تخشاه "أقليات" من انتقامات في حال انتصرت الثورة، إلى انتقام مرعب سيتوجه إلى الحاضنة "السنية"، باعتبارها سبب كل خراب سوريا، وستغذي هذا الحقد متلازمة نشوة الانتصار البربرية، والخوف، المعهودة في مثل هذه الحالات.

لكن هذا السؤال يبقى افتراضياً، على اعتبار أن الثورة لم تعلن هزيمتها، والنظام لم ينتصر، فسوريا مقسمة الآن على أيدي روسيا وحلفائها، بما فيهم تركيا، وأميركا وحلفائها، بما فيهم إيران وميليشياتها، مع مناطق ظل تتبع لفصائل معارضة معتدلة، أو متطرفة، ما يعني أن إمكان انقلاب أحد الطرفين، وقلبه الطاولة على الطرف الآخر مسألة واردة.

ففي الغوطة الشرقية الآن رهان في اتجاهين يرى الأول أن مصيرها مصير حلب، ويرى الثاني أن الغوطة مختلفة عن حلب، وأن الحاضن الشعبي للفصائل التي ينتمي أفرادها إلى مدن الغوطة سيجعل المقاتلين أبعد ما يكونون عن الاستسلام، مع رهان خفي على تهور النظام في استخدام صريح ومثبت للسلاح الكيماوي، ما يعطي أميركا وحلفائها الذريعة لضرب النظام أمام عيني روسيا التي قد تكون محرجة من فعلة حليفيها الأسدي، أو الإيراني. وليكون هذا الافتراض فاتحة لحل سياسي ستسعى إليه موسكو تفادياً لأي صدام غير مرغوب فيه مع أميركا وحلفائها الأوروبيين.

وبعد إصابة ما يناهز أربعة آلاف في الغوطة، معظمهم مدنيون، قُتل منهم 661 في آخر أسبوعين، وبالتزامن مع بلوغ عمر القرار الأممي 2401 أسبوعين، جاء أول تقرير للأمين العام للأمم المتحدة حول الهدنة التي لم تطبق حتى ساعة واحدة، على الرغم من هدنة الخمس ساعات يومياً التي أعلنتها روسيا من طرف واحد، ولم تلتزم بها، أو تلزم قوات النظام الأسدي وميليشياته بها. تقرير أنطونيو غوتيريس لأخذ العلم، ولاستعراض خطابات صقورية من روسيا والنظام في مجلس الأمن، وردود فعل أميركا وبريطانيا وفرنسا عليهما، دون أدنى توقع لرد فعل عقابي على عدم تطبيق هدنة الـ2401 من قبل مجلس الأمن الدولي كهيئة اعتبارية مهمتها الإشراف على السلم والأمن والدوليين.

وعلى أرض الغوطة، الحرب كرٌّ وفرٌّ، كما حصل في آخر شهرين من معركة حلب قبل أكثر من عام. وبعد أنباء عن سيطرة قوات النظام الأسد وحلفائه والميليشيات على ثلث مساحة الغوطة البالغة 110 كيلومتر مربع، تأتي الليلة التالية، ولمرات عدة، بتفاصيل عن مقتل عشرات من القوات المهاجمة في كل مرة، لكن دون تأكيدات من جهات محايدة عن صحة ذلك. وللتذكير بتفاصيل معركة حلب الشرقية، ففي أكتوبر 2016، كانت الفصائل المعارضة تتحدث عن السيطرة على حلب الغربية، بعد اقتحامها كلية المدفعية، والأكاديمية العسكرية، لكن شهرين بعد ذلك كانا كافيين للطيران الروسي لإفراغ حلب الشرقية من كل العناصر المعارضة المسلحة، وعلى رأسهم جبهة النصرة، تبعهم عشرات الآلاف من المدنيين، ثم سقطت حلب كلها في يد النظام وروسيا.

واليوم، لا شيء يؤكد أن فصائل الغوطة استوعبت دروس العنجهية التي جعلت النظام يتكلم بلسان المنتصر في آخر سنتين. هذا على الرغم من أن تعداد مقاتلي الفصائل هناك يتجاوز عشرين ألفاً ممن يتمتعون بخبرة السنوات القتالية، وبتسليح معقول، لكن تقاسمهم مناطق النفوذ بين جوبر ("فيلق الرحمن" يعد حوالي تسعة آلاف)، ودوما ("جيش الإسلام" يعد حوالي عشرة آلاف)، إضافة إلى مئات المقاتلين من "حركة أحرار الشام"، و"هيئة تحرير الشام" القاعدية، يربط هذه القوة بسيرة التناحر الدموي بين الفصيلين الرئيسيين، الأمر الذي يقلل من احتمال توحدهم في هذه المعركة المصيرية.

وفي التفاصيل أن التنسيق موجود الآن بين "الفيلق" و"الحركة" في جبهة جوبر التي تبدو هادئة نسبياً، على خلاف جبهة دوما، على طريق المشافي، التي تشهد يومياً قصفاً ومناوشات، فيما يتركز ضغط قوات النظام والميليشيات من الشرق لمحاصرة الغوطة من جهاتها الأربع. وتواجه قوات النظام حالياً في هذه الجهة "جيش الإسلام" منفرداً، وإذا تمكنت القوات المهاجمة من السيطرة على بلدة "مسرابا" ستشطر الغوطة الشرقية إلى قسمين، شمالي (حرستا ودوما)، وجنوبي (عربين، زملكا، وحي جوبر).

ومن غير المرجح أن تفضي دعوة "الهيئة الشرعية لدمشق وريفها" إلى إعلان "النفير العام" إلى نتيجة سريعة، بعد مناشدة الهيئة الفصائل العسكرية إلى "التوحد، وإلى تبييض سجونها".

أما مسألة المراهنة على صمود هؤلاء المقاتلين المنتمين إلى الغوطة الشرقية، باعتبار أن معركتهم ستكون دفاعاً عن الأرض والعرض، فقد لا تصمد أمام الكثافة النارية لقوات النظام وحلفائه، مدعوماً بالطيران الروسي. ففي سوابق كثيرة انهارت دفاعات هؤلاء المقاتلين بعد وقت ليس طويلاً، فاختبرت حاضنة الثورة خيبة الأمل، دون أن تستوعب الفصائل هذه النتائج حتى بعد حدوثها، ليقتصر رد فعل كل منها على تخوين الأطراف الأخرى لتبرئة نفسها، أو لاتهام طرف آخر بالتسبب بالهزيمة.

لكن، وعلى الرغم من اختلال التوازن العسكري لمصلحة النظام وحلفائه في كل معارك السنوات السبع، كانت الفصائل تحقق انتصارات تكتيكية مهمة، من دون أن تستوعب أن نصف طريق لا يؤدي إلى مكان، فارتهنت لإملاءات الممولين، والاستزلام لدول بعينها، وللمال، مع وجود شبهات خيانة وعمالة للنظام نفسه.

وفي النتيجة، سيبدأ العام الثامن من الثورة بتوقعات متشائمة جداً، إذا اقتصرت عناصر التوقع على قوة الفصائل، وإمكان توحدها، واستقلال قراراتها السياسية والعسكرية، وارتباطها بالمستوى السياسي الأكثر تشتتاً من وضع الفصائل العسكرية.

أما الأمل الوحيد الذي يمكن أن ينسف معادلة التشاؤم تلك، فهو مرة أخرى التدخل الخارجي. ولأن سوريي الثورة، وفصائلها، متفرقون، فالرهان البعيد والوحيد الآن على حدوث خلاف كبير بين روسيا وأميركا، خلافٍ علني يلجم طموحات البيت المافيوي الروسي، على أعتاب الانتخابات الرئاسية هناك، وكأس العالم في يونيو المقبل.