ناقد مغربي يتلمس تجليات المخاتلة في الأنساق السردية العربية

المتخيل الملتبس ومخاتلات الهامش

يرى الناقد المغربي الأكاديمي عبدالرزاق المصباحي أن الخطية كانت سمة ملازمة للسرد الكلاسيكي، فخضع لتراتبية زمنية منطقية حتى حينما يتحول إلى الإسترجاع أو الدائرية أو التقطيع كان القارىء يستطيع إعادة بناء الأحداث قابضا على مسارها الأصلي، لكن حينما صار السرد على تخوم الشعر وتداخلت السيرة مع الرواية وتهدمت الحدود بين الأجناس الأدبية حدثت المخاتلة، فوجد المتلقي نفسه أمام نصوص هجينة مخاتلة، سواء في بنيتها بسبب التداخل الأجناسي، أو في ثيماتها نتيجة الالتباس في مفهوم الذات في المنجز السردي التجريبي، وتحولات الهوامش إلى مراكز حيث يتم تبئير حكايات المهمشين في محاولتهم الانفلات من المركز المتحكم في حيواتهم ومصائرهم.

• البنية والوعي

وفي كتابه الجديد “الأنساق السردية المخاتلة: شعرية السرد، تذويت الكتابة، مركزية الهامش”، (دار الرحاب الحديثة – لبنان) يقدم الأكاديمي عبدالرزاق المصباحي دراسات نقدية عن عشرين عملا سرديا، منطلقا في تعاملاته مع النصوص من ذلك المفهوم للمخاتلة. وتتوزع بين القصة القصيرة، والقصة القصيرة جدا، والرواية، والنص الرحلي، حيث يحاول الناقد تلمس تجليات المخاتلة في الأنساق السردية عبر الأقسام الأربعة للكتاب وأولها: "تجديد البنيات والوعي في القصة القصيرة و القصيرة جدا".

والناقد في مقاربته لكتاب "عزف منفرد على إيقاع البتر" للمغربي عبدالحميد الغرباوي، يلحظ أن الكاتب أطلق على كتابه صفة "نصوص" وليس مجموعة قصصية، وهو بذلك لم يتهرب من بنيات الخطاب القصصي بل عبر عن وعيه بخصوصية نصوص مجموعته التي تحتفي بالهشاشة، سواء هشاشة الروح المنسحقة بسبب قبح العالم وسطوته، أو هشاشة النصوص ذاتها حيث تقوم بالتبئير على الهامشي والإنساني وإيقاع حركاتهما وسكناتهما.

وعن مجموعة "لياليّ على الرّصيف" للسعودي محمد آل فاضل يقول أن نصوصها "تستضمر الكثير من هذا الإفصاح المسجور برغبة ظاهرة في نقد وإعادة تشكيل صورة العالم المتشظية التي كان سببها الفائض من الفوضى والمفارقات والآلام واللامعنى".

كذلك فالوعي الإجناسي عند محمد آل فاضل يتواءم مع تمثله لوظيفة المتلقي الحديث الذي يتسم بكونه متطلبا في الأغلب، وله دور بالغ في رتق الفراغات وفك الشفرات التي تضمّنها النصوص، فيقول في تقديمه المقتضب إن "الملتقي يشعل فتيل النص الكامن أحيانا" وإن الكمون أحد معادلات المستضمر الذي قد يكون إنسانيا أو ثقافيا أو فنيا أو كل هذه القيم مجتمعة. ويخلص إلى إن نصوص المجموعة مشبعة برهان نقد الأنساق الثقافية سواء تلك الساكنة في كلام الناس أو سلوكهم، ومن هنا تكتسب نصوصها قيمتها العالية والنوعية.

أما القاص المغربي أنيس الرافعي، فيوغل في التجريب الذي لا ينبني على تكسير بنيات الكتابة انسجاما مع موجة التجديد، بل إن التجريب عنده واع بمقاصده وبآليات الكتابة أيضا، وهي آليات طيعة في يده يصرفها أني أراد ويشكل عبرها آفاقا مختلفة لتلقي عمله، تحفز القارئ على الاجتهاد في البحث عن الإمكانيات القرائية المتاحة وعلى التأمل أيضا.

• مخاتلات الهامش

تحت عنوان "المتخيل الملتبس ومخاتلات الهامش" قدم الكتاب قراءات لعدد من الروايات المغربية من منظور مختلف، فرواية "كان وأخواتها" لعبدالقادر الشاوي، حاول الخروج بها من القراءة الأيديولوجية التي جعلتها، فقط، رواية مؤسسة لأدب السجون في المغرب، فقرأها المؤلف منطلقا من مفهوم الحرية، فالنص تحرر من سلطة الحكاية ومن المثالية التي تقدس الذات السردية في الأعمال السيرية، أما المخاتلة فنتجت عن التداخل بين الرواية والسيرة، فقارىء الرواية قد يجد فيها ما يغريه بتجنيسها كسيرة ذاتية، فثمة تشابهات كثيرة بين المعلوم من سيرة الروائي وبين ما تحكيه الرواية عن الشخصية "ش"، وهو التجنيس الذي اعترض عليه السارد الناقد في فصل "الإعراب" لكن الروائي الموجود خارج النص جنسه باعتباره رواية، بما يؤكد على سطوة التخييل في العمل باعتبارها تساميا على المرجعي الذي يستغله في العمل دون أن يطابقه، فعلى القارىء إذن أن يتحرر من مطابقة الساردين مع المؤلف، فالساردان نفساهما خاتلا فيما يخص ضمير الحكي، والذي التبس كثيرا بين ضميري المتكلم والمخاطب.

أما رواية "سوق النساء" لجمال بوطيب، فقد عمدت الدراسة إلى تفكيك بنيتها من خلال دراسة علاقتي التماثل والتجاوز بين النص وبنية الخطاب، وخلص إلى أن الرواية تجريبية، وقد وصفها بأنها "قصيدة تجري بين غابات السرد، لكن يفضحها المجاز والجناس والقوافي"، فالشعر يسكن تراكيب الرواية ومعجمها، فتصير الكتابة نفسها كتابة بالشعر وعنه تتلخص في نقد واقعه.

أما رواية "زاوية العميان" لحسن رياض، فتعرض ما يسميه الناقد "السيرة التخييلية للهامش" حيث تتضمن صراعا بين الأنساق والقيم داخل الهامش نفسه، وينفتح على صراع أكبر بين أطراف النسق السياسي الذي كان مشوبا بكثير من التطاحن المدمر بين السلطة وخصومها عبر الشارع بتأطير من النقابات والأحزاب السياسية المعروفة، وهذا الصراع انتقل إلى الفئات المهمشة ومنهم هداوة، إذ يرصد السارد كيف "صار حي النوايل مثل قرية دخلها الغزاة" بعد أن عاث فيه رجال مدججون بالعصي والسيوف ينتمون إلى جبهة حماية المؤسسات الدستورية "الفديك" في صراعها التاريخي المعروف مع أحزاب المعارضة آنذاك ممثلة في حزبي الاستقلال والاتحاد الوطني للقوات الشعبية.

و"تحت عنوان قضايا ثقافية في الروايات المعاصرة" يضم الكتاب دراسات تحاول الكشف عن البعد التمثيلي للواقع في روايات معاصرة، كإشكال الفحولة الاجتماعية والهوية وإعادة قراءة التاريخ وتجديد الأنساق السردية ومنافحة سلطة المؤسسة، ومنها رواية "في الهنا" لطالب الرفاعي، وفيها يحضر الروائي باسمه الحقيقي وبالأسماء الحقيقية لأفراد من عائلته الصغيرة، مما ينفرز عنه الحكم على العمل بكونه سيرة ذاتية وغيرية، أيضاً، بالنظر إلى سرد حياة كوثر وعلاقتها بمشاري اللذين دخلا في علاقة حب معقدة يتداخل فيها العاطفي بالطائفي وبالسعي الأنثوي للتحرر من سلطوية المجتمع الذكوري. وفيها مواقفه وعلاقاته بالناس وبالكتابة هي موضوع السرد.

ويرى الناقد أن السارد وظف، بدهاء، تقنية الميتا – سرد، إذ يشير في الفصل الافتتاحي إلى إلحاح فكرة الرواية عليه تزامناً مع سماع مقطع موسيقي من فن "السامري"، حيث يقول "لحظة خطرت لي الرواية قفز اللحن إلى رأسي". أي إن الفقرات التي تسبق تسليم السرد لكوثر هي وحدها فسحة الكاتب/ السارد لسرد قصته مع الكتابة أو عذل بعض رواد طريقها الذين أحدثوا بعض الخدوش في الروح والقلب، قبل أن ينتقل إلى بنية الانكسار الكبرى التي تمثلها كوثر.

• تجديد الأنساق

القسم الأخير من الكتاب كان عنوانه "تجديد الأنساق الفنية في محكى السفر" ويضم دراستين عن أدب الرحلات، الأولى عن كتاب للروائي والباحث المغربي شعيب حليفي هو "كتاب الأيام: أسفار لا تخشى الخيال"، وهو عبارة عن ثمانية نصوص في أدب الرحلات لرحلاته التي قام بها الى عدد من الأقطار العربية، كتبها حليفي ليس لتسجيل انطباعات شخصية عن أفضية قادته إليها ظروفه أو ضرب من استكشاف جغرافي بخلفية على شاكلة الرحالة القديم بل هو سفر يخترق مسارب غير مطروقة صوب الخيال، نحو الروح التي تحقق بغيتها في التحليق الحر والسفر المديد نحو العمق بغية استكناه الخفي والمستضمر، نحو استكشاف هويتها المفتقدة في الواقع.

وهو سفر، أيضاً، عبر اللغة السردية المُخيّلة ذات الروافد التناصيّة المتنوعة: أدب الرسائل، والأغاني الشعبية المغاربية، والأغاني العصرية الشرقية، أشعار العرب القدامى والمحدثين، بوصفها بنيات خطاب جزئية منسوجة بكثير من الحذق والفنية ضمن بنية خطابية كبرى هي النص الرحليّ الباذخ تخييليا والمشدود بقوة إلى أصله. (خدمة وكالة الصحافة العربية)