نحو ثقافة عالمية جديدة: دبلوماسية تبادل المزيج الثقافي

أعتقد أن المفهوم الشائع لـ"الدبلوماسية الثقافية" يخلط كثيرا بينها وبين مفهوم "السياسة الثقافية" للدولة على المستوي الخارجي (الدولي)، أى فيما يخص تصور البلدان لكيفية تقديم مزيجها الحضاري والثقافي للآخرين، وتحديدا من حيث قدرتها على توظيف ذلك في بناء علاقات النفوذ والتدافع في المجتمع الدولي، وأعتقد أن هذا المفهوم الأوروبي يجب تجاوزه، والمبادرة منا برؤية حضارية جديدة لا تتبنى الهيمنة وتحترم المساحات الخاصة بكل الثقافات البشرية وتقبل تدافعها كسمة طبيعية، لكنها توجهه في إطار التفاعل والتعارف والبحث عن المشترك قدر الإمكان، لا فرض النمط وهيمنته، وهذا لب تصوري لمفهوم مصري جديد لـ"دبلوماسية ثقافية" تحتضنه البلاد وتروج له وتتبناه تحت مسمى: "دبلوماسية تبادل المزيج الثقافي".

المفهوم الغربي: منصة لفرض النفوذ

فقد اعتبر العديد من الدول الغربية مفهوم "الدبلوماسية الثقافية" أحد منصات فرض النفوذ والهيمنة الناعمة عن طريق المنح والعطايا والمراكز الثقافية وبرامجها المنتشرة في دول العالم الأقل تطورا (البلدان خارج أوروبا ومستعمراتها السابقة قديما). في حين حاولت اليونسكو تقديم مفهومها الخاص عن "الثقافة العالمية" في تصور مضاد له، مخصصة الموارد لكيفية حفاظ كل دولة على تراثها الثقافي اللامادي أو ما يمكن أن نسميه "المزيج الثقافي" المتفرد لكل دولة وفق "مستودع هويتها" الخاص، حيث لكل دولة مزيجها وظروفها الخاصة التي تمنحها هويتها الثقافية المتفردة.

متلازمة حضور القيمة والقيمة المضادة في الحالة الأوروبية

وسنجد أن التوصيف الرسمي الغربي لمفهوم الثقافة وتوظيفها السياسي (الدبلوماسية الثقافية)، يقابله توصيفا مضاد الحد بعيد (غير رسمي) تطرحه منظمة اليونسكو كأكبر منظمة أممية تهتم بالسياسات الثقافية في العالم. في سمة تتكرر في النموذج الأوروبي كعادة معظم تمثلات المزيج الحضاري/الثقافي الأوربي بعد صعوده منذ عصر النهضة، من حيث حضور القيمة والقيمة المضادة. فإجمالا هنا "الدبلوماسية الثقافية" الغربية إما تصدر ذاتها وتسعي لهيمنتها (رسميا من معظم الحكومات)، أو تقدم مفهوما لحماية الآخر ودعمه (بشكل غير رسمي من اليونسكو).

في حين أن "الدبلوماسية الثقافية" تحتاج حقيقة لدفعة أخرى وتصور آخر من مركز حضاري خارج أوروبا (الرسمية وغير الرسمية) لتعطيها معناها الجديد، يجوز أن يكون ذلك المركز في أحد إرهاصات المشاريع الحضارية الجديدة خارج أوربا، ربما مصر والصين وأفريقيا وأميركا اللاتينية، فكل منهم تصلح لاحتضان المفهوم الجديد إذا وعت له.

النموذج البديل: تبادل مكونات "المزيج الثقافي" وبناء المشترك

"الدبلوماسية الثقافية" الحقيقية يجب أن تكون "دبلوماسية تبادل المزيج الثقافي"، التي تقوم على التعامل مع الآخر وفق فهم "المزيج الثقافي" الخاص به واحترامه والتعلم منه، ثم تقديم "المزيج الثقافي" الخاص بالذات له وفق مفهوم: الفهم والفهم المتبادل وبناء مساحة التواصل الإنساني المشترك والبحث عن "المشترك الثقافي"، كأرضية لتطوير معظم جوانب العلاقات الإنسانية المتعددة الأخرى.

ويجب هنا التوقف كثيرا عند تصور فهم الآخر في "الدبلوماسية الثقافية"، ففهم الآخر كفيل بتجاوز العديد من مساحات سوء النية او افتراض نية السيطرة، ويقدم أهم أساسيات علم الاجتماع الإنساني وهو: احترام الآخر، احترام الآخر لا ابتلاعه والهيمنة عليه، وهو أساس لفكرة "الدبلوماسية الثقافية"، ففي ظل العلاقات الدولية وعندما تتعامل مع طرف ما فإن فهمك لتاريخه الثقافي و"مستودع هويته" كفيل بإعطائك معظم مفاتيح التعامل معه أيضا، وفق المشتركات والمحتملات الثقافية الممكنة، هو بالأساس يجب أن يكون ألف باء العلاقات الإنسانية والثقافية الجديدة في القرن الحادي والعشرين، هو مفتاح النجاح والفشل على المدى الطويل وليس على المدى القصير.

أسباب فشل نموذج " الدبلوماسية الثقافة" الغربية على المدى الطويل

المقاربة الغربية لـ "الدبلوماسية الثقافية" تعمل لحد بعيد على فرض أنماط ثقافية دخيلة على ثقافات دول العالم (خارج المركز الأوروبي)، وهذه المقاربة هي مقاربة مرحلية ومؤقتة للغاية قد يكسب من ورائها الغرب بعض المكاسب المرحلية من فرض الأنماط والهيمنة على المدى القصير، لكنها على المدى الطويل ستؤدي لرد فعل عكسي وقوي وعنيف ضدها، لأن بعض هذه الأنماط معادي للمزيج الثقافي لتلك الدول غير الأوروبية و"مستودع الهوية" التاريخي الخاص بها.

لكن مقاربة "الدبلوماسية الثقافية" العادلة القائمة على فهم الآخر، من الأساس لن تنزع للسيطرة وفرض النمط، إنما ستقوم على احترام ما عند الاخر والتواصل معه، وستعمل على تقوية أنماط مشتركة بعينها تكون متصالحة مع "المزيج الثقافي" و"مستودع الهوية" الخاص بكل دولة، حينها سيتحول كل بلد من أطراف "عملية التعاون" لحماية تلك الأنماط الثقافية المتبادلة بشدة، والدفاع عنها ضد محاولة اختراقها.

ويجب أن تتحول مقاربة فهم الآخر في "الدبلوماسية الثقافية" إلى مقرر أساسي يجب على معظم العاملين في مجال العلاقات الدولية الإلمام به.

مجال "الدبلوماسية الثقافية المشتركة" الجديدة

يمكن أن نقسم "الدبلوماسية الثقافية" كمقاربة لفهم الآخر وتبادل "المزيج الثقافي" إلى نوعين بين الدول، الأول هو "الدبلوماسية الثقافية المشتركة" وتكون بين الدول ذات التاريخ المشترك وفق التأكيد على "العناصر الثقافية" المشتركة، وجعلها أساس التفاهم وزيادة مساحات التعاون والفهم المتبادل، وهذا النوع يشمل مثلا الدول العربية، دول حوض المتوسط، دول حوض النيل، الدول الأفريقية، الدول الأوروبية، وهكذا، وينطبق الحال على كل مجموعة ذات تاريخ مشترك يوجد بينها عناصر ثقافية مشتركة.

والمثال تلك العناصر الثقافية المشتركة للتوضيح بين تلك الدول، فسنجد مثلا أن هناك مجموعة من العناصر الثقافية المشتركة لدى الدول العربية المختلفة، فيمكن تتبع مدارس الخط العربي كسمة تراثية في كل البلدان العربية وآليات حفظة ودمجه في مختلف نواحي الحياة المعاصرة، والتعرف على التجربة الخاصة بكل بلد مع أشهر الخطوط المستخدمة وطرق استدامتها وحفظها في كل بلد. وممكن أن يتمثل ذلك في روايات السيرة الهلالية في مجموعة الدول العربية بشمال أفريقيا. أو عادات وتقاليد البادية في المنطقة العربية ككل ما بين الخليج والشام وشمال أفريقيا، بما تحمله من عناصر ثقافية وصناعات إبداعية متعددة تشمل الحلي وطرق الطبخ والمشغولات اليدوية والعادات الاجتماعية والمرويات الشفوية في الحالات المختلفة للحزن والفرح، الخ.

مجال "الدبلوماسية الثقافية التقابلية" الجديدة

أما بين الدول والمجموعات الحضارية والثقافية التي لا يوجد بينها تاريخ مشترك، فإن الدبلوماسية الثقافية تعمل في نطاق المقابلة والبحث عن مسار "العناصر الثقافية" المتمايز والمتباين نوعا فيما بين كل مجموعة، ثم البحث في وسائل دمجه والمزاوجة بين الطريق الخاص لكل دولة والتجاور بين تلك العناصر الثقافية المتقابلة والتأكيد على المزاوجة والدمج.

مثلا في سياق "العناصر الثقافية" والمقابلة بينها ما بين الدول التي لا تملك تاريخا مشتركا مباشرا، يمكن القول أن عنصر "الورق وصناعته" يصلح كأساس في "الدبلوماسية الثقافية" القائمة على احترام الآخر وفهمه بين مصر والصين، فسنجد ان مصر تملك تاريخها الخاص وما يوجد حوله من عناصر التراث الثقافي اللامادي في صناعة ورق البردي، كما تملك الصين تاريخا مماثلا في صناعة ورق الكتابة المماثل من سيقان البامبو وبعض المواد الأخرى، هنا يمكن المقابلة بين الورق ومنتجاته تاريخيا كعنصر ثقافي تقابلي بين مصر والصين، والبحث في فنون دمج كل منهما واستعراض تاريخ كل منهما وعمل المعارض لذلك وتحويله إلى صناعة إبداعية تحافظ على ذلك العنصر الثقافي بين البلدين.

والمثال نفسه ينطبق على الطب الشعبي الصيني والمصري وعادات وطرق كل منهما، فيمكن استعراض الطرق المتقابلة في كل موروث وتبادل اختبار كل وصفة وأثرها في الموضوع نفسه، وهكذا.

مساحات وعناصر ثقافية متنوعة (مشتركة وتقابلية)

وعلى مستوى التقابل نفسه في العناصر الثقافية تلك، يمكن أن ينطلق لمجال فنون الأداء في مهرجانات لإعادة تمثيل التصور الشعبي لعنصر ثقافي ما في مجموعة من الثقافات، فيمكن مثلا لمصر أن تعقد مهرجانا ما بين قارات العالم لعرض التصور الشعبي في شكل أداء تمثيلي لفكرة "الغول" أو "العفريت" في ثقافة أوروبا والهند والصين وأفريقيا وأميركا اللاتينية.

ويمكن مثلا الدعوة لنفس المهرجان التمثيلي عن "حدوته حجا" وتصوره في دول الشرق الأوسط (إيران- تركيا- العراق- الشام- مصر)، أو الدول العربية (كعنصر مشترك وليس كعنصر تقابلي).

وعلى مستوى الغناء في عناصر "الدبلوماسية الثقافية" التقابلية، يمكن عقد المهرجان لأغاني أعياد الميلاد القديمة وما يصاحبها من طقوس واحتفالات راقصة بين مجموعة الدول العالمية في مهرجان خاص بالغناء وفنون الحركة.

وهو ما يمكن أن يطبق تقابليا على العديد من العناصر الثقافية الأخرى في فنون الأداء المهرجاني مثل: طقوس الحرب والتصالح في مجموعة من الثقافات.

وفي السياق التقابلي نفسه يمكن عمل مهرجانات للطهي عن عادات الطبخ التقابلي لدى مجموعة من الثقافات في تعاملها مع المكونات الأساسية للحياة مثل اللبن ومنتجاته في كل ثقافة- اللحوم وطرق حفظها وطهيها التراثية في كل ثقافة- التمور وطرق حفظها والمنتجات المرتبطة بها في كل ثقافة- البحر وعادات الصيد وحفظ الأسماك لدي مجموعة من الثقافات. ويمكن هنا الفصل في مستوى المقابلة (أو المقارنة) بين مهرجانات البيئة الصحراوية وعناصرها، ومهرجانات البيئة الزراعية وعناصرها، ومهرجانات البيئة البحرية أو النهرية وعناصرها، ومهرجانات البيئة الجبلية وعناصرها.

وفي كل ما سبق يجب حضور المرونة والتعدد في ثلاثية: عرض، وحفظ، واستدامة تلك العناصر الثقافية، و"الجمهور المستهدف" عند العرض، و"الجمهور المستهدف" في طرق الاستدامة والدمج في المجتمع المعاصر.

"الدبلوماسية الثقافية" في الممارسة الفردية

وعلى المستوى الفردي يمكن أن تكون فكرة "الدبلوماسية الثقافية" والفهم للآخر مقاربة ناجحة للغاية في إدارة العلاقات الدولية، وحسم العديد من مساحات جس النبض وأطر التفاوض أو اختبار نقاط القوة وتحديد المساحات والمكانة.

شخصيا وفي مجال "العمل العام" استفدت من ممارستي لمفهوم "الدبلوماسية الثقافية" في تكوين وإدارة العلاقات تحت ضغط والتعامل مع الملفات العاجلة، منها موقف مع وفد ثقافي من إريتريا في القاهرة، حين في محاولة لضبط مجال التفاوض وفق فهم تاريخ الآخر ومزيجه الثقافي ومحددات سلوكه، ذكرت الموقف التاريخي لإريتريا في تسعينيات القرن الماضي وبداية استقلالها، عندما كان هناك توجه بالانضمام لجامعة الدول العربية، ليتغير بعدها أسلوب التعامل تماما.

وأيضا في سمينار اللقاء الحضاري مع الصين ومنتدى الحفاظ على التراث الثقافي اللامادي، حيث في ظل مساحات التعارف وتحديد المراكز أثناء واحدة من النقاشات عن التنوع الثقافي وتوظيفه في الصين، كان المتحدث أكاديمية من التبت لكنها كانت تتحدث باستخفاف شديد للمجموعة العربية ككل عن توظيف ثقافة التبت في "المزيج الثقافي" الخاص بالصين، حيث استدعيت على الفور من فهمي لـ "الدبلوماسية المشتركة" و"مستودع هوية" الآخر، الموقف التاريخي من الثقافة الخاصة بالتبت قديما والمقارنة بينه وبين الموقف الآني، ليتغير أسلوب المتحدث على الفور ويكتسب الجدية والاحترام.

وفي السياق نفسه في إحدى الجولات الميدانية عند استعراض شكل كتابة اسم قائد عسكري أو سياسي ما، طرحت على المتحدث أوجه الشبه بينه وبين طريقة "الخرتوش" التي اتبعها قدماء المصريون في كتابة أسماء الملوك على الآثار، لبناء الثقة والبحث عن "المشترك" والمقابل لنفس العنصر في الثقافة المصرية ومزيجها الخاص، وهو ما اعطى للوفد المصري مكانة خاصة ككل.

وفي موقف آخر جمعني بمجموعة من الأصدقاء الأفارقة، وفي سياق احتفال جماعي ما كان الرهان على احترام الآخر وثقافة الاحتفال والرقص الخاصة بهم، ولم أتردد في أن أتخلى عن صورتي التقليدية الرسمية الجامدة وشاركتهم الرقص بطريقتهم التعبيرية ذاتها وبالإيحاءات نفسها واندمجت في "مزيجهم الثقافي" واحترمته تماما، مما جعل سمة "الاحترام" تنتقل مني إليهم وقدروني تقديرا شديدا متبادلا فيما بيننا للآن.

وعربيا جمعتني عدة مواقف بالأشقاء من ليبيا وفلسطين والسودان وغيرهم، وكانت نقطة الحسم هى فهمي واحترامي لـ"المزيج الثقافي" و"مستودع الهوية" الخاص بكل منهم، مع ليبيا على سبيل المثال احترمت التنوع الأمازيغي وأن النمط العربي السائد ليس محوا لمستويات الهوية الأخرى وتنوعها.

وكذلك الموقف في محك ثقافي ما مع أحد المثقفين البريطانيين، الذي اعتقد أن لكوني مسلما سوف أرفض مزيجه الثقافي في بعده السياسي كماركسي، ولن أساعده في العثور على ترجمة عربية لكتاب ما، فعلى العكس احترمت "مزيجه الثقافي" الفردي، وأخبرته أن العالم العربي متنوع فكريا وبه ماركسيون ماديون، ورغم أنني لست منهم واختلف معهم إلا أنني سأساعدك، وبالفعل بحثت عن الكتاب وأرسلته له، مما ترك انطباعا مدهشا خالف الصورة النمطية المسبقة لديه عن العربي.

مصر وتبني "دبلوماسية تبادل المزيج الثقافي"

كل مشروع حضاري جديد يجب أن يكون له تمثلات معبرة عنه تجعله يكسب الاحترام على المستوى الدولي، إذا تبنت مصر "دبلوماسية تبادل المزيج الثقافي" في ظل "التدافع الحضاري" الحالى مع الغرب ومفهومه عن الهيمنة وفرض النمط الناعم وآلياته رسميا، فإن مصر ستحظى بكل الدعم العالمي خاصة وأن مصر تملك "المشتركات الثقافية" على المستوى الإقليمي، وتملك "المتقابلات الثقافية" المتنوعة والمتعددة على المستوى العالمي، بما يؤهلها لتصبح مركزا عالميا فعالا للترويج وتبني "دبلوماسية تبادل المزيج الثقافي"، تلك الروح القائمة على احترام المزيج الثقافي للآخر وحفظ وصيانة "التراث الثقافي اللامادي" عن طريق تبادل الخبرات والمكونات الثقافية بين مختلف دول العالم، لتكون كل تجربة هي وعاء حماية للآخر بما هي في الوقت نفسه وعاء حماية لنفسها.

ويبقى العدل واحترام الآخر والتنوع داخل الإطار الواحد هو جوهر قبول الآخرين لذلك الطرح الثقافي، الذي أطرحه ولا يقوم على الهيمنة أو فرض النمط (من مركز ما على أطراف ما حتى لو كان المركز هو الحاضنة التاريخية والطبيعية لإقليمه)، وتظل مكاسب تبني مصر لذلك المفهوم هي المحبة الخالصة واحترام المزيج الثقافي لدى الآخر حقيقة، والتعلم منه وتبادل خبرات الوجود الإنساني وتقديم "نمط جديد" لما يجب أن تكون عليه صورة الثقافة عالميا وإنسانيا.