درس من تاريخ السودان للعراق

ساءت احوال السودانيين تحت الحكم العثماني المصري، وتحديدا في عهد الخديوي اسماعيل ومن ثم ابنه الخديوي توفيق، اللذان كانا يحكمان وادي النيل، بعد ان وحّد محمد علي، مصر والسودان، بعد أن غزا السودان في العام 1819 وضمه لمصر، حيث اثقلت كواهل الناس الضرائب الباهظة التي كانت الحكومة تفرضها عليهم، اضافة الى سوء الادارة، وكان المناخ العام في البلاد يبحث عن منقذ. وهكذا بدت الفرصة مواتية لرجل اسمه محمد بن عبدالله الذي تجول في انحاء السودان وراعه ما رآه من ظلم وفساد، فقرر ان يغير هذا الحال. لقد كانت ثورته ذات طابع ديني، وعرفت بـ"الثورة المهدية"، لادعائه بانه المهدي المنتظر، فتجمع الناس حوله، وتمكن في العام 1885 من تحقيق هدفه، ودخل محمد المهدي، او هكذا عرف اسمه لاحقا، العاصمة الخرطوم، محررا قبل ان ينقل عاصمة حكمه الى ام درمان.

وبعيدا عن صحة ادعائه المهدوية من عدمها، ينقل عن الرجل كونه من الزاهدين في الحياة، غير المنغمسين في ملذاتها، وكان متفانيا يحمل قضية، ناضل من اجلها وانتصر، لكن الغريب حقا، ان محمد المهدي، طلب من السودانيين ان يبايعوه في ام درمان على الزهد في الدنيا (!) منطلقا من نزعته الصوفية، ورؤيته الخاصة للحياة. وقد بايعه الكثيرون في بداية الامر، وتمكن من تثبيت حكمه قبل ان يعاجله الموت بعد انتصاره بفترة قصيرة، لكن نهج حكمه امتد من خلال خليفته عبدالله بن محمد التعايشي، الذي اطاح الانكليز به وبالثورة في العام 1899، أي بعد اربعة عشر عاما فقط على انتصارها.

الدرس المستخلص من تلك الثورة، ان الناس حين تعيش حماسة التغيير يكون انتماؤها للفكرة اكثر من قراءتها للواقع، وبعد ان تنتهي الحماسة ويعود الجميع لممارسة حياتهم الاعتيادية، يصطدمون بمتطلبات معاشهم اليومي، وهنا تكون الثورة او الفكرة امام استحقاقات لا مناص من التعامل معها بواقعية، بعيدا عن أي تهويمات او وعود مثالية. يقول احد الكتاب السودانيين، ان اخفاق الثورة المهدية وهزيمتها بعد سنين قليلة على نجاحها، يعود الى ان قادتها لم يجعلوا مصالح الناس الدنيوية هدفا رئيسا لها، لاعتقادهم ان الزهد هو الحل لكل مشكلة! وانقل هنا بالمعنى. لذا غابت تلك الحماسة عن الناس، حين تعرضوا الى الغزو البريطاني، كونهم وببساطة لا يملكون ما يستحق الدفاع عنه، او ليست لديهم الاسباب الكافية للصمود، فدعوة الناس للزهد لا تكفي لبناء دولة قوية، ومن الصعب جعله ثقافة مجتمعية، لكن من مستدعيات القيادة، ان يكون المسؤول متحليا بهامش من الزهد وبعفّة النفس، حين تكون بين يديه اموال العباد والبلاد.

في السنين الاخيرة، كثرت انتقادات بعض المنتمين او المحسوبين على قوى الاسلام السياسي في العراق، للقوى المدنية والعلمانية، وصار هؤلاء يتحدثون عن خطورة هذا المد، الذي يرونه مهددا للدين او للثقافة الاسلامية في المجتمع، كما يدعون ويروجون! وتحول هذا الخطاب في الآونة الاخيرة الى تحريض غير مباشر يهدد السلم الاهلي في البلاد. في المقابل، نقرأ لبعض العلمانيين او المدنيين، طروحات حادة، في الاعلام ومواقع التواصل الاجتماعي، تجاه الاسلاميين، تتهمهم بانهم سبب ما حل بالبلاد من خراب. لا شك ان الحوار الثقافي بين الاديان بمختلف مسمياتها، وبين القوى السياسية مختلفة التوجهات، بمن فيهم العلمانيين والاسلاميين، مسالة ضرورية لاغناء الحياة، واثراء لرؤية النخب الحاكمة والمثقفة معا، لكن تبادل الاتهامات وحدها لا تغني أي حوار، والتهديد وان كان ضمنيا يبقى مرفوضا، كونه لا يخدم اية جهة، ولن يحل الازمات.

الشيء الاهم، الذي اردنا قوله هنا، هو ان مأزق القوى السياسية التي حكمت العراق منذ العام 2003، لا يتمثل بوجود المنافسين خارج السلطة سواء من العلمانيين والمدنيين او غيرهم، بل بسوء ادارة هذه القوى للدولة، وبالفساد الذي وصل الى مستويات غير مسبوقة، فاغلب المسؤولين لم يكونوا على قدر معقول من الزهد والعفة، ليصبحوا مثلا للناس على طريقة محمد المهدي، وهم لم يطلبوا، اصلا، من الناس ان يكونوا زاهدين في الحياة، بل وعدوهم ببناء دولة ديمقراطية يسودها العدل وتعمها الرفاهية. فهل تحقق شيء من هذا؟ اعتقد ان الاجابة معروفة للجميع بمن فيهم الاشخاص الذين نصبوا انفسهم حماة للدين، من دون ان يدركوا ان اعظم انتصار للدين وللقيم، هو في حفظ حقوق الاخرين، وصيانة الامانة. وان هذا الواقع لا يمكن استمراره بمحاولة اقصاء هذا الطرف او تلك الجهة عن المشهد تحت ذريعة انها غير مؤمنة او كافرة.. الخ من الاتهامات الجاهزة، بل بتصحيح المسار، الذي عجزت هذه القوى عن تصحيحه، لان اغلبها جانبت مبادئها المعلنة وتركتها مجرد شعارات لاتسمن ولاتغني عن جوع.

نحتاج حقا الى مناخ سياسي صحي لنتنفس.. فهل من مستجيب؟!