لن ترحمكم إيران

كلما التقيته كان صديقي الشاعر العراقي تركي كاظم جودة يكرر دعاءه "سلط الله عليك مَن لا يرحمك" وكان يقصد الرئيس العراقي الراحل صدام حسين أو النظام السياسي الحاكم في العراق برمته.

لم يكن جودة شيوعيا ولا إسلامويا. كان مستقلا ونافرا مما يحيط به من قطيعية يأنف من شم روائح عفونتها. وكان أيضا محبا للعروض الشعرية والحياة النزيهة بالقوة نفسها.

لا أدري ما الذي حل به اليوم. أعتقد أنه في أسوأ حالاته بعد أن تمت الاستجابة لدعائه بطريقة لم يكن يتوقعها.

فبعد أن غزت الولايات المتحدة العراق وحطمت دولته وحلت جيشه وخطفت قادة نظامه السياسي وأعدمتهم سلمته لأسوأ أبنائه. نهازو الفرص القذرة الذين لا يتورعون عن القيام بأي شيء اشباعاً لنزعاتهم الهمجية وأطماعهم التي ليست لها حدود.

حين وقع عليهم الاختيار، اختبرتهم الأجهزة الأميركية بكل دقة وعمق. وضعتهم تحت المجهر وفحصتهم جيدا بحيث أنها حين أطلقت أيديهم كانت مطمئنة إلى أنهم لن يتركوا شيئا إلا والحقوا به الخراب.

ما لم يفعله المحتل من خلال قواته التي ارتكبت جرائم تعجز اللغة عن وصف بشاعتها فعله أولئك العراقيون الذين قدموا على مركب الغزو وشعارهم "جئنا لننتقم" وهو شعار أضفوا عليه الكثير من الهالات الطائفية حين رفعوا راية "يا لثارات الحسين" بما يشير إلى أن حربهم على العراقيين لن تنتهي.

معهم حلت اللعنة بأرض العراق.

وإذا ما كان عراقيون قد استبشروا خيرا بإزاحة النظام العراقي السابق وإن حدث ذلك طريق الغزو الأميركي الذي انطوى على ثمن باهظ فإن الانتقال إلى مرحلة اللعنة الإيرانية التي هي لعنة أبدية قد أصابت أولئك العراقيين الأبرياء المخدوعين بمقتل. ومن المؤكد أن صاحبي الشاعر كان واحدا منهم.

لقد تبخرت الآمال برحمة متأخرة حين جاء مَن لا يرحم العراقيين ليحكمهم.

فإيران التي تهيمن على العراق حاليا لن ترحم أحدا من العراقيين، شيعة كانوا أم سنة، عربا كانوا أم أكرادا.

بالنسبة لإيران فإن العراق واحد. ليس هناك عراقان أو ثلاثة. ذلك العراق هو الذي ترى فيه إيران صورة العدو مكتملة. فهي ليست معنية بما روجه حملة ثقافة الاحتلال من مفردات كان الغرض منها تمزيق النسيج الاجتماعي العراقي تحت دعاوى طائفية مضللة.

إيران تعرف أن الجنود والضباط الذين حاربوها ضمن صفوف الجيش العراقي عبر ثمان سنوات كانت أغلبيتهم من الشيعة. وهي تعرف أيضا أن معظم سكان الجنوب العراقي الذي تسكنه غالبية شيعية لا يطيقون سماع مفردة "عجمي" التي تطلق على الإيرانيين.

لذلك فإنها لا تسعى إلى استرضاء شيعة العراق بل تسعى إلى استعبادهم من خلال الأحزاب الموالية لها ورجال الدين الذين يوظفون مرويات التناحر المذهبي في عملية القبول بإيران باعتبارها حامية للمذهب وسده الأخير الذي إن انهار ينهار المذهب.

شيعة العراق في موقف صعب الآن. لقد تم اختطافهم من أجل المذهب فإذا بهم يقعون في إسر إيران، الدولة التي ترى فيهم عدوا.

وهنا بالضبط تكمن المسافة التي تفصل بين الطبقة السياسية الحاكمة وبين الشعب. هناك شيء من السم الإيراني في كل ما تتخذه تلك الطبقة من قرارات صار على الشعب العراقي أن يتجرعه. وهي وصية خمينية خالدة. فمثلما تجرع مؤسس الجمهورية الإسلامية السم حين قبل بإنهاء الحرب مع العراق صار على الشعب العراقي برمته أن يتجرع السم ذاته.

إنها لغة الانتقام عينها. غير أن إيران هذه المرة لن تستثني أحدا من العراقيين. فإذا كان نوري المالكي قد طارد أتباع يزيد بأتباع الحسين فإن إيران لا تجد فرقا بين الفريقين. كلهم هدف لها.

لقد سلط المحتل وليس الله على العراقيين مَن لا يرحمهم فعلا.

أما كان في إمكان العراقيين أن يغيروا من مسارات ذلك المصير؟

نعم كان في إمكانهم أن يقوموا بذلك، غير أنهم لم يفعلوا بسبب تمكن الغواية الطائفية منهم. لقد خانهم التفكير والتقدير والفهم حين قدموا الطائفة على العراق. وكانت إيران تحفر لهم قبرا بحجم رغبة أحزابهم الدينية في الانتقام.

لو أن أحدا في البصرة صرخ محتجا على حرب الإبادة في الفلوجة لما انتهى العراق ضيعة فارسية.