الطائفية السياسية.. عقيدة الأفق المسدود

بعد عقد ونصف من الدماء يتوصلون إلى تحريم الطائفية

ان إحدى الحالات الغريبة بالنسبة للوعي السياسي المعاصر تقوم في انتظار ومعاناة الاكتشاف المباشر لحقائق بديهية. بمعنى الوصول بعد عقد من الدماء والقتل والتجريم والعداء الغبي وإثارة مختلف الأحقاد وما شابه ذلك من ضغينة الغريزة البدائية للتوصل إلى ان الرذيلة لا يمكنها ان تكون فضيلة!

والطائفية السياسية هي من بين اشد النماذج تخريبا وتخريفا للوعي السياسي المدني، وذلك لانها تجمع بين قوى بدائية وتخريبية بقدر واحد. فالطائفية تبقى في نهاية المطاف جزء من تركيبة لا علانية. ومحاولة دمجها بالفكرة السياسية أو تقديمها عبر فكرة سياسية تعني تخريب وتدمير ما في الفكرة السياسية نفسها بوصفها تنظيما وتدبير للمنزل والمجتمع والدولة.

إن الطائفية السياسية هي النتيجة الملازمة للانحطاط السياسي والدولتي والوطني والأخلاقي. كما أنها التعبير النموذجي عن بقاء وفاعلية وسيادة الغريزة والبنية التقليدية في العلاقات الاجتماعية والوعي والثقافة بشكل عام والسياسية بشكل خاص. وجميعها تتعارض وتتناقض مع فكرة الارتقاء والتقدم والحداثة والمستقبل والنزعة الإنسانية والحقوق المدنية. ذلك يعني أن الطائفية السياسية التي مازالت تنخر الكيان الاجتماعي والسياسي للعراق العربي، التي أخذت تتطابق مع حالة «الوعي الذاتي» لبعض القوى السياسية، بما في ذلك القومية والليبرالية(!) هي الصيغة الأكثر تخلفا وانحطاطا للطائفية. مع أن الطائفية هي بحد ذاتها تعبير عن التخلف والانحطاط في العالم المعاصر، وتتناقض مع مضمون الفكرة الإنسانية والحداثة والدولة الشرعية وفكرة المواطنة.

بغض النظر عن كل التوصيفات الممكنة لطبيعة الطائفية السياسية في العراق المعاصر، فان مما لا شك فيه هو كونها ظاهرة لها تاريخها الخاص. وهو تاريخ يتعارض مع ابسط مقومات تكون العراق الثقافي. وذلك لان الطائفية السياسية فيه ليست محاولة للبحث عن تناسب أو «اعتدال» يحفظ إمكانية العيش المشترك، كما هو الحال بالنسبة للمناطق التي تتعايش فيها «نسب» من الطوائف. بل يمكننا توكيد العكس، بمعنى أنها الصيغة التي تفتعل وتصنع نسبا لا ضرورة لها من حيث الجوهر. الأمر الذي جعل منها «منظومة» الخراب وليس «العيش المشترك». من هنا تحول الطائفية السياسية في ظروفه الحالية إلى القوة الفاعلة في توسيع «منظومة» الانحطاط المادي والمعنوي الشامل.

إن جذور الطائفية السياسية في العراق تكمن أساسا في أربعة مقدمات هي كل من بنية الدولة الحديثة، والنظام السياسي الاستبدادي، والبنية التقليدية للمجتمع والثقافة، والراديكالية الحزبية. مما يتطلب بدوره بلورة رؤية منظمة تنطلق من إدراك هذه المقدمات ووضع البدائل لها عبر تأسيس وبناء الدولة والنظام السياسي والمجتمع والثقافة وتذليل نفسية وذهنية الراديكالية السياسية (الحزبية) على أسس عقلانية وشرعية جديدة. بمعنى تذليل مقدماتها من خلال بلورة منظومة متكاملة في الموقف منها. خصوصا إذا أخذنا بنظر الاعتبار أنها احد المصادر الكبرى لانحلال العراق وحالة الفوضى الفاعلة فيه.

كما أن هذا البديل هو ضمانة إرساء أسس التطور المستديم والديناميكي. الأمر الذي يحدد بدوره الانطلاق من إدراك الأولويات. والأولوية هنا هي للنظام السياسي وكيفية إدارة الدولة. فتجربة ما يسمى بالمصالحة الوطنية من خلال توافق وشراكة القوى السياسية في ظل هيمنة النفسية الطائفية وذهنيتها لا تعمل في الواقع إلا على تعميق الفرقة وتوسيع مداها الباطني وجعلها نظاما مقبولا لديمقراطية مشوهة. بينما تكشف تجارب الأمم عموما عن أن دكتاتورية "متجانسة" أفضل من ديمقراطية مشوهة. بعبارة أخرى، إن أنصاف الحلول وأنصاف المثقفين وأنصاف المتعلمين اخطر بكثير من شخص غير مثقف وغير عالم وغير متعلم.

إن الوحدة الوطنية والوفاق الوطني والجامعة الوطنية ليست لعبة الوفاق السياسية بمختلف أشكالها من محاصصة وتوافق وشراكة ولا حتى المساومة السياسية بأفضل أشكالها، بل النتاج الموضوعي والضروري لتكامل الشعب والدولة والمؤسسات الحقوقية والشرعية في عملية بناء الهوية الوطنية، أي كل ما يتعارض مع الطائفية السياسية أيا كان مظهرها وممثلها ودعواها العلنية.

فالسؤال الممكن في ظروف العراق الحالية عن سر غياب النخبة الوطنية عند جميع أطراف ما يسمى بالعملية السياسية لا يقوم فقط في غياب الفكرة الوطنية عندها، بقدر ما هو غيابها في الوسط الاجتماعي. بعبارة أخرى، ان الشعب العراقي ليس عراقيا، أي ليس وطنيا. بمعنى انه لم يرتق بعد إلى مصاف الفكرة الوطنية بوصفها منظومة شاملة ومستقبلية بقدر واحد.

ان فكرة الشعب الوطني هي فكرة المجتمع المدني أولا وقبل كل شيء. ومن ثم هي فكرة دنيوية. وليس بإمكان أية فكرة دينية في ظروف العراق الحالية ان تقوم بهذه المهمة. وذلك لان الفكرة الدينية تبقى في نهاية المطاف مجرد عقائد محكومة بقيم "أبدية" لا ابد فيها لغير الوهم والخذلان. وذلك لانها لا تحتكم إلى العقل التاريخي الثقافي بوصفه معاناة حرة وبحث دائم عن نماذج واقعية وعقلانية للبدائل. والقضية هنا لا تقوم في عدم رغبة أتباع وأصحاب الفكرة الدينية على هذه المعاناة، بقدر ما إنهم يجهلونها، أي أنها لا تندرج ضمن وجودهم المادي والمعنوي. بمعنى أنها لا تندرج ضمن منظورهم وخيالهم وحسهم وعقلهم. وذلك لانها تقع من حيث الجوهر خارج إطار الفكرة الدينية وخصوصا في مستواها الطائفي والتقليدي – العائلي.

بعبارة أخرى، إن كل "الزعماء الدينين" المنحدرين من عوائل "مقدسة" لا يمثلون من حيث الجوهر سوى زيف المعاناة والمسار الوهمي المتملق للماضي والمتسول عليه بوصفهم موجودات طفيلية صرف. من هنا تحولهم، كما هو جلي في أوضاع العراق الحالية والصراع العلني والمستتر الذي جرى فيه على امتداد أكثر من عقد من الزمن، إلى إحدى العقبات الكبرى التي لا يمكن عبورها صوب المجتمع المدني والمجتمع الوطني (العراقي) دون تذليلها ورميها بوصفها بقايا عوالم قديمة لم تنقرض بعد. وهو السر القائم أيضا وراء سعيها المهموم للبهرجة المزيفة والمتناقضة، بمعنى لمعان الوجوه القديمة بمساحيق الدعاية والإعلام الحديثة (المستوردة) والولع المثير للغثيان بالخطاب التقليدي للدفاع عن "المقدسات" والإعجاب بالبديهيات كما لو أنها اكتشافا غريبا، أي كل ما يعبر عما يمكن دعوته ببقايا التقاليد الميتة ومومياء "الأئمة" و"المرجعيات" الكاذبة والاستعداد الدائم للتقلب والتغير بمعايير المصالح الدنيئة للغريزة.

ان البديل الواقعي والممكن والوحيد أيضا هنا يقوم في إرساء أسس الفكرة الوطنية على مستوى الفرد والجماعة والمجتمع والثقافة والنظام السياسي والدولة. وهذا بدوره لا يمكن بلوغه دون برنامج مستقبلي يتعلق بإعادة تأسيس العلاقات الاجتماعية والاقتصادية على أسس حديثة ومدها الدائم بقوى علمية خالصة للوعي عبر منظومة متكاملة للتربية والتعليم.

إن بلوغ هذه الحالة، كما تكشف تجربة العراق الحالية تفترض أيضا سياسة تتسم بنوع مما يمكن دعوته «بالإجبار الشرعي" للجميع على ممارستها والوقوف أمام نتائجها وتقبلها كما هي من اجل إعادة النظر فيها واستخلاص الدروس والعبرة منها.

كل ذلك يكشف عن أن الطائفية السياسية تؤدي بالضرورة إلى حالة الطريق المسدود. فهي تقف بالضرورة بعد تدمير كل ما يمكن تدميره أمام مخرجين، أما إدراك حالة الطريق المسدود وأما الانتحار. وكلاهما، رغم اختلافهما، يعبران من حيث الجوهر عن حالة همجية ومخجلة بقدر واحد.

ميثم الجنابي

كاتب وباحث عراقي