العمامة هوية أم زي؟

كنا نلقب رائد التنوير المُعمم جمال الدين بالأفغاني، أو الحسيني، أو الأسد آبادي، والثائر الليبي عمر بن مختار بن عمر الهلالي بالمختار، والثائر المغربي محمد بن عبد الكريم بالخطابي، وقائد ثورة العشرين الميرزا محمد تقي بالشيرازي. من المؤكد أن العمامة لم تكن تعريفاً ولا هوية، ولا لقباً، لم تكن أكثر من "غطاء للرأس"، توارثه الناس ضمن ما توارثوا. لم يقتصر لبس العمامة فيما مضى على علماء الدين، أو المشتغلين بالأمور الدينية، بل كانت زياً عاماً للجميع تقريباً. هي زي الشاعر والكاتب، التاجر والمرابي، الفيلسوف وعالم الرياضيات، المؤمن والملحد، الخليفة والسلطان والمكاري، الزاهد والخليع، لا بل أن النسوة كن يرتدين العمامة، وبالأخص المغنيات والراقصات، وما زالت النسوة في الأرياف يرتدينها. ما يفرق الناس ليس لبس العمامة بل نوعية العمامة، فمن عمامة غالية الثمن منسوجة من الحرير الخالص، ومواشاة بالذهب، ومطهمة بالدر والأحجار الكريمة، إلى عمة من القماش الرخيص والجنفاص. نوعية العمامة هي ما يميز الناس وليس العمامة لذاتها، ونوعية العمامة تبين موقع مرتديها في السلم الاجتماعي.

إرتبطت العمامة في تاريخنا بموقف قيض لأسباب عديدة أن يكون ثورياً في الأغلب الأعم، وإن لم يندر أن يكون مُخجلاً ومعيباً في أحيان كثيرة. وإذا كان كل طغاة الماضي مُعممين، فإن كل ثوار الماضي كانوا معممين أيضاَ، ورحلة العمامة لا تبدأ بأبي جهل، ولا تنتهي بوعاظ السلاطين، مثلما لا تبدأ بالامام الحسين بن علي، ولا تنتهي بحسن نصرالله.

بمقابل العمامة الوطنية والمقاومة، والمواجهة للظلم كان ثمة عمامة أجيرة ومرتزقة، مُداهنة ومُرائية، يتستر بها مرتديها، ويفعل ما يشينها، ومثلما يرتدي البعض زي الأحرار وهم عبيد في الحقيقة فثمة من يرتدي العمامة ليتاجر بها، ثم يخلعها في مجالس اللهو والسمر، ويعتاش عليها عبر خداع السذج من الناس.

ظل الأمر هكذا إلى ما قبل قرنين من الزمن حيث بدأنا نتعرف على الزي الغربي، وكالعادة المعروفة حيث يتأثر المهزوم بالمنتصر إنتشر الزي الغربي بيننا. ومما لا شك فيه أن هذا الزي كان مناسباً ومقنعاً وإلا لما شاع وإنتشر، ليس عندنا وإنما في العالم كله، لكنه ما كان ولن يكون هوية لنا، مثلما هو ليس هوية لغيرنا. هو بإختصار لا يتضمن أي وصف أكثر من من كونه زيا حاز مقبولية، فلا هو يشير إلى صلاح، ولا إلا علم ومعرفة، ولا ظالم أو مظلوم، ولا مُسغِل أو مُستَغَل، ليس من يرتديه ثوري أو تقدمي، وليس من لم يرتديه رجعي أو متخلف، الأغلبية الساحقة من أحرار وثوار وتقدمي عصرنا الحالي هم ضمن من كانوا يرتدون هذا الزي، الذين يمكن أن نطلق عليهم تسمية الأفندية، والأغلبية الساحقة من مجرمي العصر والقتلة والجزارين كذلك، الأخيار والأنذال كانوا أيضاً من الأفندية، الجلاد والضحية يلبسان نفس الزي، لكنهما يختلفان في كون الثاني "مناضل" والأول "عدو للتقدم".

لن أكون تقدميا لأنني أفندي، ولا رجعياً لأنني مُعمم، هذا التبسيط جهل فاضح بطبيعة الأمور، أو تدليس مقصود، الغرض منه تضييع القضايا الجوهرية، التي تطرح نفسها بعمق، أو يطرحها الواقع المُعاش. الذي يُحدد تقدميتي من رجعيتي موقفي من قضايا التطور في المرحلة التي أعيشها، موقفي من الإستبداد والإستغلال، والإحتلال، والحرية، والقضايا الإنسانية العادلة، ليست التي تخصني فقط، أو التي تخص وطني فقط، أو أمتي فقط، بل القضايا العادلة على إمتداد الجغرافية البشرية.

ومثلما العمامة تبطش بالعمامة إذا إختلفت المصالح، فكذلك من يتزينون بأي زي، يبطش بعضهم ببعض إذا إختلفت مصالحهم. لاحظ صراع أصحاب الزي الواحد والحضارة الواحدة طيلة القرن الماضي وما قبله، هتلر وموسليني بإزاء أبناء قارته الصغيرة أولاً، والعالم ثانياً، وقبلهما صراع دول أوروبا في الحرب العالمية الأولى، وكل الصراعات التي لم يكن بينها عمامة، ولا كانت بسبب العمامة، فرانكو، بينوشيه، بول بوت، بهجت العطية، ناظم كزار، وكل طغاة العرب والمشرق.

ما يميز الناس إختلاف المصالح، هذه بديهة لا يمكن إنكارها، ومن العبث والمستحيل طمسها. إختلاف المصالح وما يستوجبه من صراع هو محرك الأحداث والوقائع، وليس إختلاف زي العربي أو الصيني أو الهندي او الأوربي أو أن تكون معمماً أو حاسراً.

أشد المتطرفيين الإسلاميين وأكثرهم إنغلاقاً غير مُعممين، هم يكتفون غالباً بالغترة البيضاء أو الشماغ الأحمر، وربما حاسرين، إبن لادن مثلاً، والدواعش، بإستثناء خليفتهم الذي إستعار العمة السوداء والملابس السوداء، إستكمالاً للخديعة التي رُسمت على نحو مدروس تماماً.

من ابتدع الصراع المذهبي، لا يصعب عليه فبركة صراعات شكلية، أو ثانوية، بألباسها لباس الصراعات الأساسية، كصراع المعمم والحاسر، المتدين وغير المتدين، رغم أن المعمم والحاسر، المتدين وغير المتدين، قد يكون جلاداً أو ضحية.