السيسي وأهل الشر

حينما كان الرئيس فريقاً أول، وقبل أن يتقدم للترشح للانتخابات الرئاسية عام 2014 كتبت مقالاً في صحيفة روز اليوسف بعنوان: "هذا ما يختلج في نفسي"، ونُشر في صحيفة ميدل إيست أونلاين بعنوان: "إلى السيسي قبل أن يترشح"، المقال كان نتاجاً لحالة الأمل والرجاء التي عاشها الجميع إبان الفترة الانتقالية التي أعقبت عزل الرئيس محمد مرسي.

فغير خافٍ على أحدٍ أن البيان الرسمي الأول الذي أصدرته القيادة العامة للقوات المسلحة وبث على شاشات التلفزيون بمصاحبة صورة السيسي، قد بعث في الناس آمالاً كبيرة، بصياغته العاطفية الحنونة التي مست جرحنا الغائر نحن الشعب الذي لم يجد من يحنو عليه، إنها عبارة فائقة الدقة عبرت عن مشاعر ملايين البسطاء، وحققت النتيجة المطلوبة وهي التعلق بصاحب الصورة المصاحبة للبيان الودود العطوف الباكي على الشعب، فوقر في النفوس، وأستقر في الوجدان أنه أخيراً سنجد من يحنو علينا، فكانت ثقة الملايين عمياء بأن السيسي هو الدواء.

ولن أنكر أو أتنصل من أنني كنت من الناقمين على حكم الإخوان المسلمين، وجهرت بذلك في عهد الرئيس مرسي بمقالات نُشرت في الصحف، تنتقد طريقته في الإدارة بصفة عامة، وإصداره الإعلان الدستوري المشؤوم، واعتماد مسودة الدستور وإحالتها للاستفتاء رغم المعارضة الشديدة لبعض مواده.

كما أنني لا أستطيع أن أنكر أو أتنصل من أنني كنت مؤيداً للسيسي، تأثراً بعبارته الشهيرة: "مصر أم الدنيا وحتبقى أد الدنيا"، فحالة عدم اليقين، والخشية على بلدي كانت كافية بالنسبة لي ولغيري لتدفعنا للتعلق بهذا الوعد الذي يدغدغ العواطف دون أن يكون لتحقيقه أساس كاشف.

في المقال المذكور، أوضحت له بصياغة بسيطة، ما يأمله الشعب من الرئيس، من ضرورة حرث الأرض جيداً، تعبيراً عن الرغبة في التغيير الجذري العميق بما يسمح بالتخلص من آفات الحقبة التي ثار ضدها الشعب في 25 يناير، وتحقيق تطلعاته التي عبر عنها في 30 يونيو، بالتركيز على المشروعات العملاقة، وترك صغائر الأمور للحكومة والأجهزة المساعدة، ليتفرغ هو للتخطيط والإبداع بحيث يتمكن من تحقيق وعده بأن تصبح مصر "أد الدنيا". وللأسف أختار السيسي أن يزرع قبل أن يحرث، فكان الحصاد محصولاً هزيلاً كنتيجة طبيعية لتكاثر الآفات وتناميها وتوحشها، فعشنا معها أربعة سنوات كئيبة، حتى تمكنت من كل مقدراتنا بصورة مريبة.

وبغض النظر عن أولوية المشروعات التي قرر البدء فيها، كتفريعة قناة السويس والعاصمة الإدارية الجديدة، فإن الحكم على فائدتهما سيثبتها واقع الحال، ومكتسبات المآل.

أمضى الرئيس فترته الرئاسية الأولى بحلوها ومرها، وها هو في طريقه للفوز بفترة ثانية، وكما كتبت له قبل أن يكون رئيساً، أكتب له قبل أن يكون رئيساً لفترة ثانية وأخيرة وفقاً للدستور، وأرجوه مخلصاً ألا يستمع لوسوسة شياطين الإنس، بتعديل الدستور ليحكم مدى الحياة، فهذا الأجراء كان شؤماً على من سبقوه، وقد شرح العالم الكبير ألبرت آينشتاين ذلك بقوله: "الجنون أن تفعل نفس الشيء مرات ومرات وتنتظر نتائج مختلفة."

وبالإضافة لما جاء في المقال الأول ويستحق النظر إليه، سأقتصر هنا على إبداء رغبة كل وطني غيور على بلاده: فكفانا العيش مع هزلية أن مصر تتعرض للمؤامرات، وعلينا طي صفحة الخلافات، وإنهاء الخصومات، والتخلص من بغضاء التقسيمات (هذا إخوان وذاك متعاطف. هذا خائن وذاك إرهابي. هذا سيساوي وذاك من أهل الشر)، فالدول تسير وتتقدم بكل مكوناتها البشرية من أبنائها، خلف قائد يستمد شرعيته من توحيدهم لا تفرقتهم، فلن يفيد مصر التمسك بقاعدة الاستعمار "فرق تسد"، فلا نحن في زمن الاستعمار، ولا التاريخ سيكرر كتابة نفس الأخبار، والطفرة الإعلامية لم تعد تخفي الأعمال خلف الستار، فلتكن المواطنة هي النبراس الذي من واجبك أن تحمله فتهدي بنوره الأشرار قبل الأخيار، فالجميع أبناء مصر، لا وطن لهم غيرها، ولا يريدون سوى رفعتها ورقيها. وحبذا لو كففت عن الظن بأن المعارضة هي لشخصك، ومخالفتك الرأي هي لذاتك. ففي زمن الإخوان قلت وقلنا أن مصر كبيرة ليحكمها فصيل واحد، وذات العبارة صالحة الآن ولكل الأزمان، فالأمم العظيمة لم تنهض وتزدهر براعٍ يتبعه القطيع، إنما بقائدٍ يصغي للجميع، فحتى الابن يناقش أباه قبل أن يطيع.

ولن أفشي سراً أنت تعرفه، فالأربع سنوات الماضية، لم تكن هي الأمل الذي حلم به الشعب بمقاييسه، فعجزه عن الوفاء باحتياجاته الأساسية أطاح بكل نواميسه، والديون التي أثقلت كاهل بلاده وأجيالها المتعاقبة لم تخطر أرقامها على كوابيسه، ومدّ اليد طلباً لمساعدة بلداناً ناشئة حطم كبرياءه وأذل أحاسيسه. وإن العداوة لمواثيق حقوق الإنسان ليست مما يحوز الاستحسان، إن أردنا ألا ينظر إلينا العالم دوماً باستهجان، خصوصاً وأن الاستمرار في هذا النهج هو حرمان للشعب من أن يجد من يحنو عليه كما أقره البيان، إنها حاجة إنسانية صارخة لا يُمكن إنكارها، ولا يتخيل أحد مهما بلغت قوته، أو تنامت سطوته، أن الحل في تجاهلها أو تأجيلها، ومع أن ذلك ليس من صالحك كرئيسٍ، فليس من الفطنة انتظار يومٍ آتٍ يصاب فيه السجان بالكلل، ويشعر فيه الجلاد بالملل، فالخوف سلاح ذو حدين، وكم من الحماقات والجرائم الكبرى ارتُكبت بأيدي خائفين أحالهم الرعب إلى يائسين.

وفي الختام، هي أربع سنوات أخرى آتية، أرجو ألا يكون علينا نحن الشعب مكابدتها، فكفى ما عانيناه من سابقتها.

انعم بطمأنينة النفس بحب الناس بدلا من ظلمها وقهرها ومصارعتها، الأمة ملتهبة فاعمل على شفائها، وإني أضرع إلى الله أن يحفظ مصر وشعبها، وأن نأمن على أنفسنا بحياة كريمة على الجميع يوما مفارقتها.