انقلاب قطر.. والاستراتيجيّة الأمريكية الجديدة

الإخوان ظهير الإمارة الصغيرة في طموحاتها الكبيرة

في اللحظة الحاسمة والمفصلية في تصفية الحسابات التاريخيّة والمتراكمة، حدث انقلاب خطير في منطقة الخليج وأقصد به الظاهرة القطريّة، وهنا لا أقصد انقلاب الشيخ حمد على أبيه الذي أعتبره من أهون الشرور، وإنّما انقلاب النظام القطري على النسق السياسي في منطقة الخليج، ومحاولة هذا النظام إعادة إنتاج السياسات الثورية الّتي انهزمت وأثبتت فشلها في المنطقة العربية، وتتمثل في إنفاق الأموال الطائلة من مقدرات الشعب القطري على إعلام شعبوي موجّه ضدّ دول المنطقة، والتحالف مع قوى ظلاميّة مثل الإخوان المسلمين، وإقامة علاقات مشبوهة مع منظمات صنفت عالميا بأنّها إرهابيّة، لخلق القلاقل والدسائس وتقويض أنظمة لا تستطيع قطر الإفادة من سقوطها حتّى لو حدث.

كل هذه الأدوات الّتي استخدمها النظام القطري في سياساته الخارجيّة ما كانت تؤثر في المنطقة العربية ومحيطها الخليجي لو لم تتوافق مع الاستراتيجيات المكرّسة دولياً للمنطقة من فترة تاريخيّة محددة.

فبعد الهجمات الإرهابية الّتي طاولت الولايات المتحدة الأمريكية في 11 سبتمبر (أيلول) 2011، وكانت صادمة للعقل الأمريكي في نظرته لنفسه وللآخر، فقد كانت ثقته في نفسه الّتي يدعمها تاريخ مديد من قدرته على التدخل في كل مكان من العالم ما وراء البحار، وعدم قدرة الآخر على نقل مسرح العمليات الحربية إلى داخله قد اهتزّت بشكل جدي. وممّا جعل هذه الحادثة أكثر كارثيّة وقوعها بعد انتصار المعسكر الغربي بقيادة الولايات المتحدة على المعسكر الآخر بقيادة الاتحاد السوفيتي وما تبعه من تفكك هذا الأخير، ففي الوقت الذي ما زالت فيه الكؤوس تقرع احتفالاً بهذا النصر ونهاية الحرب الباردة، جاء هذا الاعتداء ليفسد هذه الفرحة.

غير أنّ أحد هؤلاء المحافظين الجدد لم يكن مقتنعاً بالنتائج التي وصل إليها فوكوياما في بحثه، والتي مفادها أنّ العالم سوف تنتهي فيه الحروب والصراعات. فقد خلص عالم السياسة الأمريكي «صامويل هنتنغتون» (1927-2008)، في كتابه «صدام لحضارات وإعادة تشكيل النظام العالمي» إلى أنّ الصراع سوف يستمر وإن لم يكن بالوسائل نفسها والصيغ الأولى، بل سيكون صراعاً ثقافياً ودينياً. واعتبر أنّ العدوّ الحقيقي للعولمة والحضارة الغربيّة وقيمها المنتصرة هو الدين الإسلامي الذي يقوم في جوهره على التضاد مع هذه القيم مثل العلمانية والفردانية والديمقراطيّة والمساواة بين الجنسين، وبيّن أنّ الوسائل المكرّسة كافّة في الحرب الباردة لم تعد تجدي نفعاً في هذا الصراع. نستطيع القول: إنّ الأفكار الّتي أجمع عليها المحافظون الجدد تلخصت في «التقرير الاستراتيجي للأمن الوطني» (NATIONAL SECURITY STRATEGY) الصادر عام 2002 الّذي عرضه البيت الأبيض على الكونغرس كخطة عامة لسياساته الدولية. وكان يقوم على التدخل العسكري ليس في البلدان التي تموّل وتحتضن الإرهاب فحسب، وإنّما حتى في تلك الدول التي لا تستطيع احتواءه والتصدي له.

استبدال فكرة الاحتواء

الاستراتيجيّة الأمريكية الجديدة الّتي استبدلت فكرة الاحتواء بقرار المواجهة الشاملة وقدّمت نماذج لها في حربي أفغانستان والعراق، التقت مع طموحات قطر والإخوان المسلمين في الإفادة من هذا الزلزال القادم، باعتبارها الكتلة الوحيدة المتماسكة في المنطقة، الّتي تمتلك أحزاباً سياسية وتنظيماً أممياً عابراً للحدود، وأموالاً طائلة في الخزينة القطريّة، وتأمل في أن تفضي هذه الفوضى إلى وراثة كل الأنظمة التي سيطاولها غضب المارد القادم من وراء البحار. كما بدؤوا يبشرون بالديمقراطية الّتي كانت حتى وقت قريب يعتبرونها نوعاً من الشرك والكفر البواح حسب أدبياتهم السابقة، وذلك بطريقة انتهازيّة تهدف إلى الوصول للسلطة بمباركة هذا التوجه الجديد للغرب.

كانت المحصلة لهذه السياسات الأمريكيّة التي بنيت على الدراسات النظرية للمحافظين الجدد، إيصال الجميع إلى نتائج كارثيّة، وهي انتصار الحركات الإسلامويّة في المجتمعات التي حدث فيها تكريس مفهوم الديمقراطيّة الشكليّة، أي الديمقراطيّة الّتي تمّ اختزالها في العملية الانتخابيّة دون أي محتوى ليبرالي.

فقبل حدوث ما يسمى بالربيع العربي قامت انتخابات في فلسطين انتصرت فيها حركة حماس الإخوانية، وفي العراق أفرزت انتخابات 2005 اقتسام السلطة بين الأحزاب الدينية الشيعيّة والسنيّة، وفي أفغانستان أنتجت تقاسم السلطة بين أمراء الحرب الّذين يكرسون مفاهيم اجتماعية وثقافية متخلّفة باسم الإسلام.

كانت أمريكا تقف في تلك اللحظة على مفترق طرق، تلعق جراحها التي أصيبت بها في حربي أفغانستان والعراق. فوصل أوباما إلى الحكم برؤية انعزالية سيطرت على إدارته في واشنطن، وغدت تنظر إلى المنطقة العربية من موقع المتفرج لا صانع للأحداث. انتهزت قطر والإخوان فرصة هذه الهدنة الأمريكيّة واستمروا في عملهم كمقاولين فضوليين لذلك المشروع القديم، واستخدموا أدواتهم المتمثلة في قناة الجزيرة والتنظيم العالمي للإخوان، ومحاولة الاستيلاء على الرأسمال الرمزي في الخليج، فادعى الشيخ حمد أنّه أحد أحفاد محمد بن عبدالوهاب منشئ الحركة الوهابية، وبنى جامعاً باسمه في الدوحة، وهي طريقة معروفة في إضفاء الشرعيّة على حكام القرون الوسطى، باتّخاذ صفة تواصل بيولوجي بأحد رموز الأسلاف المحاطة بهيبة مقدّسة.

اظهير الأول للإمارة الخليجية

كانت قناة الجزيرة تطلق شعاراتها الشعبوية وتستضيف معارضي الأنظمة العربية لزرع الفتنة وتضخيم الأحداث السلبية التي تحدث هنا وهناك، واستطاعت في فترة معينة أن تمتطي الرغائب المستثارة للشارع العربي الذي يحس بالتهميش والإحباط والغبن. وجيّشت المشاعر الطائفيّة تحت شعار مقاومة الاحتلال في العراق. وكانت تضفي ألقاب الشيوخ على ابن لادن والظواهري والزرقاوي، وكانت لا تتكلّم عن الإرهاب إلا وتسبقه عبارة «ما يسمّى» في دلالة واضحة على أنّ هذه الأعمال المريعة التي تتبناها هذه الحركات ما هي إلا أعمال من أعمال المقاومة المشروعة. وقد ثبت بأحكام قضائية أنّ بعض مراسليها كانوا على اتصال وثيق بهذه المنظمات الإرهابية.

وكان الظهير الأول للحكومة القطرية والشريك الأساسي في الاستراتيجيات التآمرية ضدّ دول المنطقة الإخوان المسلمون. وهنا يبرز سؤال مشروع عن نوعيّة العلاقة بين قطر ممثلة في أميرها حمد بالإخوان: هل هي علاقة شراكة وتحالف أم هي علاقة عضويّة؟ أميل للاعتقاد بأنّها علاقة وحدة عضويّة للأسباب التالية:

ما بلغني عن سيف الإسلام القذافي قبل أحداث الربيع العربي بأنّ الشيخ حمد كان قد أسرّ له بأنّه عضو في هذه الجماعة، وكان ذلك في فترة بداية التآمر القطري على النظام الليبي، عندما أقنع سيف الإسلام بإطلاق سراح الإخوان من السجون على أن يكونوا حلفاءه في مسعاه الإصلاحي، وأنّه الضامن في عدم قيامهم بأيّ عمل عدواني ضدّ النظام.

الحظوة الّتي كان يحظى بها النظام القطري في الحكومات الإخوانيّة الّتي أعقبت الربيع العربي في كلّ من مصر وتونس وليبيا، والدور المركزي للدوحة في الإملاءات السياسيّة على هذه العواصم، والدعم اللامحدود الّذي قدّمته لهم سياسياً وإعلامياً.

وجود القيادات الإخوانيّة والإرهابية التابعة لهم في الدوحة، واستقبالها لهم كمكان آمن واعتبار الدوحة أنّ هذا الوجود أحد الثوابت السيادية التي تمثّل المصلحة العليا في قطر، حتى إنّه أكثر أهميّة من عضويّة قطر في مجلس التعاون الخليجي، كما اتّضح أخيراً عندما رفضت الاستجابة لمطالب دول مجلس التعاون بطردهم من أراضيها.