من الفن إلى الاستثمار: ظاهرة التوريث في الفن والمسرح العربي

محمد الحمامصي
التوريث قائم في مختلف الفنون

تشكل بعض العائلات في مختلف الأقطار العربية حضورا بارزا في مختلف المجالات السياسية والاقتصادية والدينية والثقافية والإبداعية والفنية، حتى لتعتبر ظاهرة ممتدة على مدار التاريخ العربي والإسلامي، بل إنها لتشكل ظاهرة عالمية، فكم من عائلات في أوروبا وأميركا وروسيا والصين كما في عالمنا العربي والإسلامي حققت حضورا كبيرا في السياسة والحكم والاقتصاد وغيره من المجالات.

وقد دخلت هذه الظاهرة إلى المجال الفني الحديث منذ منتصف القرن التاسع وأوائل القرن العشرين عشر لتؤسس وتبني مقدمات مسيرة الفن العربي في المسرح والسينما والغناء والفن التشكيلي والدراما وغيرها من الفنون.

وفي الندوة التي أقيمت ضمن فعاليات أيام الشارقة المسرحية تحت عنوان "الفن يورث.. عرض تاريخي حول عائلات المسرح العربية" كانت هناك إشارات مهمة للعلائلات المسرحية التي تستحق التأريخ والتوثيق لما قدمته من تجليات كان لها أثرها على المسرح، فضلا عن التطرق لتساؤلات مهمة حول نجاح وتفوق أو فشل الأبناء والآثار السلبية للظاهرة اليوم.

بداية أكد مدير الندوة الناقد المسرحي الجزائري خلاف عبدالناقد أن ظاهرة توريث الفن تتجلى في الوسط الفني العربي خلال السنوات الأخيرة بل حتى قبل ذلك إذا تعلق الأمر بالدراما المصرية، بعدما تكرست هذه الظاهرة طيلة عقود من الزمن في الوسط الفني الغربي بخاصة في مجالي السينما والغناء.

ولفت إلى أن هناك دوافع تقف وراء هاته الممارسة الآن وفي مقدمتها العمل على الحفاظ على موروث العائلة فنيا وماديا ومعنويا بخاصة تلك العائلات التي تمتلك استثمارات كبيرة في هذا المجال على غرار شركات الإنتاج والاستوديوهات وغيرها، ويعود ذلك إلى طبيعة التنشئة التي يتلقاها أبناء الفنانين في مناخ فني حيوي ديناميكي يزخر بالحضور الاعلامي الكثيف فينشأون تحت بؤرة الأضواء وبرحابة المال ورغد العيش.

لكن هل تغني هذه التنشئة بأجوائها وتميزها عن الموهبة والممارسة والخبرة والابداع؟ وهل بالفعل يمكن اكتساب الممارسة الفنية دون موهبة؟

وقال خلاف "قبل مجيئي للشارقة تواصلت مع بعض المسرحيين الجزائريين، ومارست عليهم شبه عملية سبر آراء وتوصلت إلى النتيجة الصادمة هذه: إن غالبية الأسماء المسرحية ترفض أن يتبع أبناؤها طريقها وتؤثر ألا يحذوا حذوها لما كابدوه من معاناة معنوية ومادية من جهة، ومن جهة أخرى نتيجة النظرة الدونية للفنان وممارسة المسرحية من قبل المجتمع باعتبارها غير منتجة، وهذا ما جعلهم يخشون على مستقبل أبنائهم وبخاصة إذا فشلوا في حمل هذا الميراث الفني.

ومبدئيا يحاولون إبعادهم قبل حدوث الكارثة، ويفرضون على أبنائهم شروطا شبه مستحيلة على غرار التفوق العلمي والحصول على شهادات عالية، وعادة ما تكون في تخصصات علمية كالطب والهندسة والزراعة وغيرها. وقد يفرضون عليهم الذهاب إلى القاعات المسرحية ويلزمونهم بالتركيز على الدراسة ثم الدراسة، فقط لأنهم لا يريدون أن يعاني أبناؤهم وبناتهم مما عانوا منه هم، ولهذا يحاولون قدر الإمكان تجنيبهم الفن وتنفيرهم منه لا توريثه لهم، لأن الواقع المسرحي يرزخ تحت عاصفة من المعاناة التراجيدية، وإذا تعلق الأمر ببنات وأبناء بعض الأسماء الفنية الجزائرية التي كانت ضحية رصاص الظلاميين، فإن البعض منها سارت بطريق فقيدها وكلها إصرار على التحدي والمواجهة لمواصلة المشوار الفني المسرحي الذي اغتيل عنوة، معبرين عن رفضهم للاستسلام والخنوع والرضوخ لرغبات رجعية بائدة".

وأرخ الناقد والباحث المسرحي المغربي فهد الكغاط للظاهرة مشيرا إلى أن نشأتها جاء مع نشوء الظاهرة المسرحية نفسها في بلاد اليونان، إذ يؤكد بعض الدارسين أن عائلات رواد التراجيديا الإغريق: إيسخيلوس وسوفوكليس ويوربيديس، قد مارست المسرح في اليونان، بعض أفرادها مارسه في حياة الرواد الثلاثة، وبعضها الآخر بعد رحيلهم، هكذا يشير أمين سلامة إلى أننا نجد سلسلة كاملة من شعراء التراجيديا في أسرة أيسخولوس ـ إيسخيلوس ـ مثل ابنه يوفوريون وابن أخيه فيلوكليس الأكبر، وفي الجيل التالي لهذين مورسيموس وميلانثنوس، وقد أحرز يوفون ابن سوفوكليس بعض النجاح في حوالي نهاية حياة والده.

ورأى أن المسرح العربي على امتداد تاريخه من البداية إلى الآن قدم عددا مهما من التجارب المسرحية التي بلورها وقدمها إلى الجمهور أفراد ممارسون للمسرح ينتمون للعائلة ذاتها، وقال "إذا كان عدد من هذه التجارب التي تبرز فيها، بدرجة أو بأخرى، مشاركة العائلة المسرحية الواحدة في الصياغة والإنجاز، فإن عددا آخر منها أخفق في ذلك سواء أكانت ناجحة أو فاشلة، يأخذ مظاهر متنوعة بحسب الوظائف التي يضطلع بها الممارسون الذين هم من نفس العائلة. وإذا كان الأمر يتعلق في تجارب كثيرة بوظيفة واحدة هي التمثيل (الزوجان، أو الأخوان، أو الأب والابن، معا بوصفهما ممثلين)، فإن الوظائف المسرحية التي يشغلها ممارسون ذوو انتماء عائلي واحد، تتنوع في تجارب مسرحية أخرى، وإن قلت، ما بين التأليف والإخراج والتمثيل والسينوجرافيا وتصميم الملابس والإدارة والانتاج.

ووضع الكغاط جدولا يخص فروع شجرة الأنساب الواحد في الممارسة المسرحية العربية المغربية، فمن جيل الرواد والجيل التالي له وانطلق من العائلات ذات فردين: الزوجان: عبدالله شقرون وأمينة رشيد (التأليف والتمثيل)، عبدالواحد عزوري وثريا جبران (التأليف والإخراج والتمثيل وإدارة فرقة مسرحية)، نبيل لحلو وصوفيا هادي (التأليف والإخراج والتمثيل وإدارة فرقة مسرحية)، عزيز سعد الله وخديجة أسد (التأليف والإخراج والتمثيل وإدارة فرقة مسرحية).

ثانيا الاب والابن والابنة: عائلة الكغاط: محمد الكغاط (التأليف والاخراج والتمثيل والنقد والبحث المسرحي وإدارة الفرقة)، وفهد الكغاط (التأليف والنقد والبحث المسرحي). عائلة برشيد: عبدالكريم برشيد (التأليف والاخراج والتنظير المسرحي)، نادية برشيد (التمثيل والكوريغرافيا). ثم انتقل إلى جيل نهاية القرن العشرين وبداية الألفية الثالثة مثل عائلة أحرار: لطيفة أحرار وفاطمة الزهراء أحرار. وعائلة الوالي: الأخوان رشيد وهشام الوالي. والزوجان: رشيد برومي وأسماء هوري، ومحمد الحر وهاجر الحامدي وغيرهم.

ثم العائلة ذات الثلاثة أفراد مثل عائلة محمد التسولي: محمد التسولي والابن سعد التسولي وزوجة الابن فاطمة خير، والعائلة ذات الخمسة أفراد كعائلة محمد حسن الجندي الأب والزوجة والابن والابنة والابن الأصغر، والعائلة ذات الأفراد السبعة كعائلة البدوي، والعائلة ذات العشرة أفراد مثل عائلة الطيب الصديقي".

وتناول الكغاط ظاهرة العائلة الممارسة للمسرح والفرقة المسرحية العائلية مؤكدا أن عددا من الفرق المسرحية العائلية أسس لتجارب مهمة في الحركة المسرحية العربية، ولعل أبرز النماذج على ذلك فيما يخص المغرب عائلة الطيب الصديقي وعائلة عبدالقادر وعبدالرزاق البدوي وعائلة عبدالواحد عوزري وثريا جبران، وعائلة نبيل لحلو وصوفيا هادي وغيرها من العائلات التي مارست المسرح وبشكل أساسي في إطار الفرقة الواحدة ذاتها، على أن عائلتي الصديقي والبدوي تمثلان النموذج على مشاركة أكثر من فردين من العائلة في الفرقة الواحدة، وعائلتي عوزري / جبران ولحلو/ صوفيا تمثلان النموذج على مشاركة فردين فقط من العائلة هما الزوجان.

وتوقف الكغاط مع عائلة الصديقي ليرى ضرورة إعادة كتابة تاريخ الفرق المسرحية العائلية وإبراز قيمة الحضور العائلي في الصياغة الفنية لتجاربها.

وطرح الناقد المسرحي المصري د. عمرو دوارة عدة تساؤلات مهمة منها: هل الفن يمكن أن يورث عن طريق الجينات الوراثية؟ أم عن طريق المناخ الثقافي؟ هل معنى التوريث أب وأبناء أم يمكن أيضا أخوة معا؟ لماذا انتشرت الظاهرة بكثافة في النصف الثاني من القرن العشرين؟ هل معنى الجينات الوراثية أنها لا بد وأن تكون بنفس التخصص؟ إذا كانت في نفس المجال هل دائما يتفوق الأب أم أحيانا يحقق الابن وثبات وقفزات سواء على مستوى الابداع أو الشهرة؟

وتناول لمحات من البدايات التأسيسية للمسرح في بعض الدول العربية، لبنان مارون النقاش ونقولا النقاش وسليم النقاش الذي يرد إليه الفضل في استمرارية المسرح العربي منذ انتقاله إلى مصر عام 1876، وفي مصر فاطمة رشدي وشقيقاتها رتيبة وأنصاف، وحمدي وعبدالله غيث وميمي وزوزو شكيب وأمين ولولا صدقي وشفيق نور الدين ونبيل نور الدين، وآمال زايد ومعالي زايد، وآمال سالم وسوسن بدر، وكرم مطاوع وزوجته سهير المرشدي وابنته حنان مطاوع، عائلة الجزايرلي وعائلة الابياري وعائلة راضي. وفي العراق طه سالم والد سهى وشذى سالم. وفي الكويت فؤاد الشطى وأبنائه الثلاثة وعبدالعزيز السريع وشقيقه وابنه، وهكذا رصد أشهر العائلات التي عملت في المجال المسرحي في مختلف الدول العربية.

ولم يكتف دوارة بالمسرح حيث تطرق إلى التوريث في مختلف الفنون الغناء والسينما والتأليف المسرحي والثقافة، مؤكدا أن التوريث قائم في مختلف الفنون، وأنه لا يقتصر على مرحلة زمنية بعينها، كأدهم وسيف وانلى في الفن التشكيلي، وسيد درويش وأبنائه محمد البحر وحسن درويش وحفيده إيمان البحر درويش في الغناء، وزكي مراد وليلى ومنير مراد في الغناء والتمثيل والتلحين، وفي التأليف العائلة التيمورية والعائلة الأباظية وعائلات النقاش ودوارة وخشبة.

ورأى دوارة أن أسباب انتشار ظاهر التوريث بنهاية القرن العشرين وأوائل القرن الحادي والعشرين يرجع إلى أسباب اقتصادية والشهرة والأضواء، وهذا واضح في مجال التمثيل باعتبار أنه الأكثر ربحية، وبالطبع هناك ظواهر سلبية نتيجة هذا التوريث أنهم يأخذورن فرص آخرين أكثر موهبة، لذا فإن دور أكاديميات الفنون والمعاهد اكتشاف الموهوبين الذين يعتمدون على مواهبهم والعصاميين.

وضرب أمثلة لمن فشلوا في إرث الآباء مثل إبراهيم ابن سلامة حجازي الذي حاول أن يغني ويمثل حتى أعاد أغاني والده وحاول تأسيس فرقة مسرحية لكنه لم ينجح، وهناك نادية ذو الفقار التي اهتمت بها شركات الانتاج فهي ابنة فاتن حمامة وعز الدين ذو الفقار، وأخذت بطولة فيلم وهي فتاة جميلة لكنها لم تنجح فاتجهت إلى أن تكون مدير أعمال عمر الشريف زوج والدتها، فالتوريث ليس "بالعافية".

الفنان الإماراتي عبدالله صالح تحدث عن مسيرته الفنية التي بدأت من خلال المسرح مسرح دبي الشعبي عام 1978 وما قدمه منذ ذلك الوقت حتى الآن من أعمال تلفزيونية ومسرحية. وتحدث مطولا عن ابنه مروان عبدالله ممثلا ومخرجا مسرحيا، مؤكدا أنه على الرغم من أن ابنه عايشه خلال مختلف مراحل مسيرته الفنية وصحبه إلى المسرح والاستديو، إلا أن ما دفعه إلى عالم التمثيل والإخراج هي موهبته وحبه لهذا المجال، وهو الأمر الذي تجلى في عمر 8 سنوات، وقال "لقد تفوق ابني علي".

ولفت إلى أن أبناءه جميعا لديهم هوس بالفنون فقد نشأوا جميعا وسط هذا المجال فعشقوا جمالياته، فابنته "ميزة" تخرجت في تخصص مسرح وهي عاشقة للكاميرا وأنجزت فيلما.

ورأى صالح أن الموهبة هي الأساس وأن الأبوة والأمومة لا تقدم شيئا للفنان، قد تساهم في تشكيل وعيه وتنميته وتشجيعه لكن لا تستطيع أن تقدم له الموهبة، لذا الموهبة هي الأصل.

الكاتب والمسرحي العماني عبدالرازاق الربيعي رأى أن أن التوريث الفني قتل العصامية وخلق كما نرى الآن في المشهد الفني العربي هيمنة وسطوة وقتل روح الإبداع والموهبة لدى الكثير من المواهب وساهم في تدوير الأمراضة الفنية.

ومن سلطنة عمان أيضا قال المسرحي عبدالغفور أحمد البلوشي أن ظاهرة التوريث الفني في سلطنة عمان تجلى في فرق الفنون الشعبية التي كانت موجودة في كل ولاية من ولايات السلطنة، وهذه الفرق كانت مختلطة، ومكونة من أسر كاملة الأب والأم والأبناء والبنات والعمات والخالات، ومن يدخل إليها غالبا ما كان يتزوج من الفرقة. لافتا إلى أن العنصر النسائي كان متواجدا بحكم الحضور الأسري والعائلي.

ورأت الكاتبة غادة البشر أن بعض الأبناء الذين ورثوا الفن ـ خاصة في الوقت الحالي ـ من آبائهم قد يكونوا نجحوا ولكنهم لم يحققوا ذات النجاح والبصمة التي حققها آباؤهم ومثال ذلك الفنان القدير أحمد زكي وابنه هيثم أحمد زكي.