فنانو الإمارات يكشفون عن تجلياتهم الفنية والإنسانية في 4 عروض مسرحية

محمد الحمامصي
الملك لم يشارك أحدا من شعبه أو يتشاور مع أحد

يجمع بين هذه العروض الأربعة ""الذاكرة والخوف" المأخوذة عن نص لوليم شكسبير، و"ليلة العمر" للكاتب جاسم الخراز و"فقط" للكاتب عبدالله مسعود، و"تداعيات" للكاتب أحمد الماجد والتي عرضت ضمن فعاليات أيام الشارقة المسرحية، جرأتها في طرح قضايا مجتمعية وإنسانية تلقي بطلال كثيفة على حالة المواطن العربي في الحاضر الآني، وما يدور حوله من صراعات ونزاعات وحروب وتطرف وإرهاب يؤثر تأثيرا مباشر على وضع النفسي والإنساني، ففي الأول نحن أمام وطن يستهان به من حاكمه فيورثه إلى بنتيه فيما ترفض الثالثة مؤكدة أن الوطن لا يقبل التقسيم.

والثاني يحذر أن هناك استمرارية للتقاليد والعادات التي تنتقص من حق المرأة وتضعها دائما موضع الاتهام وتحاسبها على الخطأ العابر ولا تقبل السماح والمغفرة، فيما يدخل الثالث بالمواطن داخل المتاهة، متاهة الصراعات، كاشفا عن تقصير تركه فريسة لهذا الفريق أو ذاك لينتهي به الحال فريسة للظلاميين، والثالث يدخل إلى مرحلة العزلة جراء التقاعد وبدء الذاكرة في العمل على مسيرة الحياة وما تبدد فيها من أحلام.

العرض الأول لمسرح كلباء للمسرحيات القصيرة، من إعداد الراحل قاسم محمد وأخرجه سعيد الهرش، وقد جاء تراجيديا بسيطا في إخراجه معتمدا أداء الممثلين والإيقاع الموسيقى وحركة الإضاءة والصوت، فتح العرض على موسيقى أجراس الكنائس، والتي تستمر خلال العرض حيث يستدعيها موقف ما، بينما الملك الحاكم جالسا على مقعد سلته الخارج من مكعب مستطيل مكعب لتلتف حوله ست مكعبات مستطيلات وراء كل واحد منها ممثل، من بينهم مهرجه بهلول، لتبدأ محاكمته، على ما فرط في حق وطنه وشعبه، وذلك عبر حركة تبديل في المواقع بين الممثلين وتبديل أيضا للرداء من الأسود للأحمر، لنكتشف أن الشعب مغلوب على أمره معه، فالملك لم يشارك أحدا من شعبه أو يتشاور مع أحد أو يستمع حتى لأقربهم إليه بهلول بل كان يرى فيه أبلها، وكذا قسم أو ورّث الوطن بين بنتيه، والابنة التي رفضت أن تدخل في لعبة التوريث/ التقسيم لعنها وتبرأ منها، لتبدأ ذاكرته تحت الضغط في العودة للوراء: فكرة التقسيم وتملق ابنتيه، وتوزيعه نصيب الثالثة عليهما، وخلال ذلك يأتيه صوت قضاته/ شعبه، بعد أن فقد ملكه واستفردت ابنتاه به / الملك.

في كل الأحوال العرض فإن أهم ما يميز العرض صوت الممثلين الذي جاء متسقا مع مواجهة الملك، وحركتهم أيضا خلف المكعبات سواء عندما التفوا حوله أو عندما احترقت المكعبات ذاتها قبيل نهاية العرض، لتعلن انتهاء المحاكمة وسقوط الملك.

العرض الثاني ليلة العمر لفرقة مسرح دبي الشعبي للمؤلف جاسم الخراز ومن إخراج حمد الحمادي، فقد قدم تيمة لن تتوقف عن التكرار قبل أن تحرز المرأة في المجتمع العربي تقدما يسمح لها بأن تكون ندا للرجل في حركتها وأن تكون محل ثقة في محيطها العائلي والمجتمعي، فها هو الزوج الذي لجأ إلى اختيار أمه يكتشف ليلة الدخلة أن زوجته هذه كانت قبل خمس سنوات في حفل تدعى إليه الفتيات المتحررات بعد أن أغوتها إحدى صديقاتها وشجعتها على الانفتاح على الآخر، في تلك الليلة البعيدة ساومها زوجها على أن تبيعه شرفها لكنها رفضت وصفعته صفعة ظنت أنه في اللحظة الراهنة ـ ليلة العمر ـ أنه سيذكرها، لكنه كان ناسيا ثم إنه الآن يحاكمها على ذلك الخطأ خطأ التواجد في مكان غير مناسب لابنة أسرة عائلة. بينما هي تبدأ بأحلامها حلم الحب، حلم الأسرة التي ستكونها، حلم السعادة والاستقرار والأمان مع رجل.

إنها رسالة إنسانية قوية تفتح على المجتمع الخليجي الذي لا تزال بعض بلدانه تغلق الباب على المرأة بالتقاليد والعادات المقيدة والمكبلة لحريتها حتى لو كانت هذه الحرية مسئولة، فإذا تجرأت أخرجت حاكمها في محكمة السمة والشرف وما شابه.

العرض استطاع أن يوصل الرسالة ببساطة وعمق، الزوج والزوجة والشماعة فقط على خشبة المسرح، والإضاءة تتبادل اللعب على ثلاثتهم، وقد أضفى المخرج لمسة كوميدية ساخرة على عرضه، وتبادلت الرومانسية والتراجيديا الأدوار، الموسيقى والغناء والشجن، أضف لذلك الأداء التمثيلي الرائع للفنانين وصوتهما الرائق المتسق مع حالتهما النفسية المضطرة بفعل الاستعداد للممارسة الحميمية التي لم تحدث طبعا أو بفعل اكتشاف الزوج أن هذه المرأة زوجته هي من التقاها قبل خمس سنوات في مكان غير مناسب،

العرض جاء مفتوحا، فهو لم يقل لنا هل سيغفر الزوج خطأ زوجته، لكنه اختتم على لفتة تؤكد جمال المرأة الإنساني عندما يحلم ويحب ويأمل في الاستقرار والسلام، فأثناء خروج الزوج في الختام يقع البشت من الشماعة على الأرض، فترفعه الزوجة وتضعه في مكانه ووضعه السليم.

العرض الثالث "فقط" الذي قدمته فرقة بني ياس للمؤلف عبدالله مسعود وإخراج فيصل الدرامكي، كان أكثر من رائع، يدفع المتلقي للمشاركة وطرح السؤال والبحث عن إجابة، إذ هو المستهدف دائما والضائع أبدا والمنوط به إحلال السلام والاستقرار رغم أنه مكره في كل ما يأتيه، إذ لا يختار فريقه وما أكثر الفرق المتصارعة عليه.

يفاجأ جمهور العرض بأن هناك من يجلس على مربع فوق خشبة المسرح وفجأة يبدأ العرض، لقد كان بطل العرض "هشام" ينتظر، فقد عطلت سيارته وانتهى شاحن موبايله، وأمه هناك تنتظر أيضا مجيئه لها بالدواء لكن لا دواء، حيث تتناوب الفرق المتصارعة عليه كل منها يريده لنفسه وهو مضطر ومكره ودون مقابل يذكر، فها هو فريق انتخابي يدخل عليه مهددا ومتوعدا إن لم ينضم إلى الفريق الانتخابي للمسئول الراشي والمرتشي، الذي يهتف له ويهتف بالتغيير والإصلاح وقيم الحرية، وها هي المرأة اللعوب الفاسقة تراوده عن نفسه بحثا عن ماله، فتكتشف أنه ضائع تائه بلا وظيفة ولا مال بعد طرده من عمله، وها هو يدخل عليه فريق كرة القدم "الشياطين" الذي يخاطبه زعيمهم "من لا يأكل يؤكل" ويوافقهم إلى أن يذهبوا، فيصرخ "جبناء مهزومون تهتفون لبطونك الخاوية، تبا لكم ولإنسانتيكم الزائفة".

يدخل عليه أخيرا الظلاميون الذين يحملونه تحت تهديد الموت رميا بالرصاص أو النجاة على الانتماء إليهم، الانتماء للسمع والطاعة فيرضخ قائلا لزعيمهم "سأكون عبدا مطيعا"، ويكشف له الزعيم عن العملية القادمة التي تم تجهيز أحدهم للقيام بها، تتمثل في تفجير مدرسة، لأنه لا بد من تطهير العقول الملوثة بالعلم، ويتم تركه مع قفة متفجرات ومسدس لحراسة المكان، وبينما يبول مخاطبا عضوه الذكري "أريد أن أصل إلى نتيجة" تلقي الشرطة القبض عليه يحكي لهم ما جرى فلا يصدقونه وعندما يجدون القفة / القنبلة يقررون حسابه "لقد أمسكنا بك أيها الارهابي".

إنها حالة التوهان والهذيان والضياع التي يعيشها المواطن العربي في ظل ضياع الهوية وتردي أحواله الإنسانية وانشغالات السلطة بزيفها وصراعاتها الداخلية والخارجية، إنه المواطن الذي لا ناقة له ولا جمل في كل ما يجري، المواطن الذي يسعى للوصول إلى استقاره الإنساني، إلى أمه المريضة، المواطن الذي يقف في اللامكان واللازمان يسأل أو بالأحرى يتسول أحدا يأخذه إلى أمه وبيته.

المخرج أبدع على خشبة المسرح، فقد كان أداء ممثليه منسجما مع عمق الفكرة والرسالة المستهدفة، قسم سرده لها في خمس لوحات الأولى فريق المسئول المنتخب، والثاني المرأة اللعوب، والثالث فريق الشياطين ـ كرة القدم ـ والرابع فريق التكفيرين الإرهابيين، وأخيرا فريق الشرطة الذي قادته متهما بالإرهاب إلى حتفه، وقد جاءت حركة المجموعة مع كل فريق متسقة في ملابسها وحركتها من الخطابة والهتاف إلى الإيحاءات الجنسية للمرأة اللعوب، إلى مشجعي فريق الشياطين وتهليلهم، إلى الملابس السوداء والأسلحة واستخدام الدين للتكفير والتضليل ودفع الناس للقتل، وأخيرا فريق الشرطة الذي ارتدى ملابس تتناسب مع ما يرتدون إلى حد ما. وقد اختلفت الإضاءة وتحرك الديكور مع حركة كل فريق، لينتهى الأمر بالمواطن في قفص حديدي مكبلا.

يفتح العرض الرابع "تداعيات لفرقة مسرح دبي الأهلى للكاتب أحمد الماجد وإخراج مرتضى جمعة على حديقة خريفية تتساوق أوراق أشجارها، الضوء فيها خافت، يدخل رجل هيئته تعطي انطباعا بأنه تجاوز الستينيات من العمر يرتدي معطفا داكن اللون فوق ملابسه، يعقبه امرأة في ذات العمر وكذلك ترتدي ملابس داكنة اللون، ثم شاب وشابة تربط بينهما قصة حب وخطبة تتمنى الفتاة أن تنتهي بالزواج، وهكذا يتبادل الفريقان أدوار الذاكرة في ماضيها البعيد، الرجل الستيني والمرأة التي معه هما الشاب والشابة في مقتبل حياتهما التي لم يستكملاها معا.

لم يتزوج الرجل حبيبته، والآن وقد أصبح في عزلة التقاعد وفراغ الحياة من المعاني الجميلة، تأخذه مخيلته ووهمه لينتقل بين الآن والماضي، يحاكم المرأة/ الزوجة / الحياة التي لم يقدر لها أن تنجح بينهما، يتواجهان تحمله يحملها المسئولية، كاشفا من خلال محاكمته لها أنها خانته، خيانة التخلي عنه، وهي التي لم تفعل ذلك بل كانت مثال الطهر والشرف. إنها تداعيات خريف العمر التي تتكشف فيها الأخطاء الكبرى التي نرتكبها.

حالة ذاكرة تتهاوى في الأوهام، تدخل وتخرج، وقد نجح المخرج عبر فنانيه الأربعة الرجلين والمرأتين، أن يصنع هذه الحالة قاسما الذاكرة ومخليتها المليئة بالندم، حتى ليضعنا في مسرح داخل المسرح، وقد أدى الفنانون أدوارهم داخل هذا الإطار بانسيابية مدهشة ولعبت الإضاءة والديكور البسيط دورا بارزا في تغيير الزمان والمكان وشحن الذاكرة، وكثفت الحالة النفسية لكل الأطراف في دخولها وخروجه الزماني والمكاني، كما أن الموسيقى جاءت هادئة ومتوافقة مع الحالة النفسية المتوترة والمتقلصة.

إن عرض "تداعيات" عرض رائع بامتياز وقد نجح مخرجه أن يقدم فكرته التي لا بد أن نعترف بصعوبتها، فأن يدخل إلى مخيلة هذا الرجل ويرجها رجا ليكشف لنا أن كل هذه التداعيات التي شاهدوها على المسرح ربما لم تحدث، ربما هي مجرد وهم كان يعبث داخل ذاكرة الرجل الذي قتل حلمه يوما ما عندما انفصل عن حبيبته وخطيبته، وما يؤشر إلى ذلك عودة الرجل وعودة الحديقة التي رأيناه يدخلها مع افتتاح العرض ويلم بعض أوراق خريفها المتساقط ليضعها في معطفه.

وبالنهاية لا بد من تحية الشباب الإماراتي تأليفا وإخراجا وتمثيلا الذي قدم عروضا تؤكد أنه غير منفصل، أنه واع ومدرك لطبيعة المرحلة والمأزق الذي يعيشه الوطن العربي، وأنه لم يركن لحالة السلام والأمان والراحة التي توفرها له قيادته الحكيمة ـ كما يظن بعض من أبناء المجتمعات العربية المأزومة ـ فوطنه يبقى بالنسبة إليه جزءا لا يتجزأ من وطنه العربي الكبير، ومن ثمة فإنه يريد أن يقول إنني مهموم بقضايا بالإنسان بالوطن الصغير والكبير، مهموم بمكافحة التخلف والعادات والتقاليد البالية، مهموم بمحاربة الإرهاب والتكفير والقوى الظلامية التي تريد طمس عقل الأمة.