معنى معركة بيروت

ايّا تكن نتيجة الانتخابات التي يبدو لبنان مقبلا عليها، وايّا تكن تركيبة مجلس النوّاب الجديد، يبقى لبيروت مكان خاص داخل هذا المجلس. لا لشيء سوى لانّ بيروت تظلّ رمزا للمقاومة اللبنانية التي تنادي بثقافة الحياة.

في السادس من ايّار – مايو المقبل تخوض بيروت تجربة أخرى تؤكد من خلالها رفضها الاستسلام لاولئك الذين أرادوا اذلالها في السابع من ايّار – مايو 2008 وتابعوا السير في مشروع يدعو الى الغاء المدينة. الهدف واضح كلّ الوضوح لدى هؤلاء. يتمثّل هذا الهدف في تدمير العاصمة اللبنانية لتكريس حال من الانقسام بين اللبنانيين من جهة ونشر البؤس والفقر من جهة أخرى.

من هذا المنطلق، توجد حاجة الى استيعاب معنى معركة بيروت التي يخوضها سعد الحريري وابعادها على الصعيدين الوطني والاقليمي. انّها المعركة المستمرّة منذ الثالث عشر من نيسان – ابريل من العام 1975 تاريخ اندلاع الحرب اللبنانية. ليس صدفة انّ وسط بيروت دمّر تدميرا كاملا في تلك الحرب. كان مطلوبا في كلّ وقت منع عودة الحياة الى هذا الوسط الذي كان يجسّد العيش المشترك والتلاقي بين اللبنانيين من كلّ الطرائف والمذاهب والمناطق والطبقات الاجتماعية. فوق ذلك، كانت بيروت المدينة المفضّلة لدى العرب، لاسيّما اهل الخليج. كانت واحة للحرّية في منطقة صارت فيها الحرّية عملة نادرة. كان مطلوبا القضاء على هذه الواحة لا اكثر.

سيدافع اهل بيروت عن بيروت. سيفعلون ذلك لانّهم يدركون جيّدا ما الذي على المحكّ وماذا تعني تلك الحملة على مدينتهم.

ليس سرّا ان من بين أسباب اغتيال رفيق الحريري ارتكابه جريمة إعادة الحياة الى بيروت وإيجاد جسر تواصل بين اللبنانيين. تعتبر إعادة الحياة الى بيروت جريمة لا تغتفر بالنسبة الى الذين نفذوا الاغتيال والذين غطوه، في اقل تقدير. على رأس هؤلاء النظام السوري الذي يكنّ حقدا ليس بعده حقد على بيروت والنظام الايراني الذي يربط تمدّده في المنطقة بنشر التخلّف والدمار في كلّ بقعة تحت سيطرته. ليس ما حلّ بالمدن العراقية والسورية ومناطق لبنانية ويمنية، بما في ذلك صنعاء وتعز، سوى دليل واضح على ذلك.

ستدافع بيروت عن نفسها. ستكون الانتخابات المتوقعة، في السادس من ايّار – مايو المقبل مناسبة كي يثبت اهل بيروت انّهم يعرفون تماما طبيعة التحديات التي يواجهونها. لا يمكن التصدي لهذه التحديات من دون النزول بكثافة الى صناديق الاقتراع والتصويت لسعد الحريري ورفاقه في اللائحة التي تمثّل المدينة افضل تمثيل. هناك حاجة الى كلّ صوت من اجل متابعة المقاومة ومنع ثقافة الموت من توسيع موطئ القدم الذي اقامته في بيروت.

هناك موطئ قدم لثقافة الموت في بيروت وذلك منذ باشرت ميليشيا "حزب الله" منتصف ثمانينات القرن الماضي بطرد المسيحيين والأقليات من بيروت الغربية. من يتذكّر ان اكبر نسبة من اهل بيروت الغربية من المسيحيين نزحت من المزرعة والمصيطبة والخندق الغميق ومناطق أخرى بعد سقوط المدينة في يد الميليشيات المذهبية وطرد الجيش اللبناني منها في السادس من شباط – فبراير من العام 1984. كانت تلك "الانتفاضة" المشؤومة الفرصة التي استغلها "حزب الله" من اجل ملء الفراغ الناجم عن هروب المسيحيين مما يسمّى بيروت الغربية. تبع ذلك تهجير مدروس للارمن واعتداءات على العائلات الفلسطينية المسيحية في زقاق الباط والتوتوات ورأس بيروت. هناك عائلة فلسطينية مسيحية لا يزال مصير افرادها مجهولا الى اليوم. في مرحلة معيّنة كانت الجامعة الاميركية في بيروت مستهدفة. من يتذكّر خطف رئيس الجامعة في 1982 واغتيال آخر ثم نسف "كوليدج هول"؟

يفترض في اهل بيروت ان يتذكّروا دائما كيف عملت الميليشيات الطائفية على تقسيم المدينة وضرب كلّ ما هو حضاري فيها وكيف ان هذه الميليشيات، اكانت مسيحية او مسلمة، لبنانية او فلسطينية، كانت تحصل على السلاح من مصدر واحد هو النظام السوري. لم يكن من هدف للنظام السوري في يوم من الايّام سوى تدمير بيروت. كان تفجير الفنادق في الزيتونة والاحياء البحرية القريبة منها عملية ممنهجة. تولّى هذه العملية فصيل فلسطيني تابع للأجهزة السورية هو "الجبهة الشعبية – القيادة العامة". وعندما تأكّد النظام من تدميره للفنادق الكبيرة نشر "جيش التحرير الفلسطيني"، عند "الخطّ الأخضر" ليكون قوّة فصل وسط بيروت بين المسيحيين والمسلمين. صارت مهمّة "جيش التحرير الفلسطيني" تحرير بيروت من العيش المشترك ومن ثقافة الحياة!

لم يدرك النظام السوري يوما ان تدمير بيروت لن يفيده في شيء وان ازدهار دمشق كان مرتبطا بازدهار بيروت. والعكس صحيح. لا تستطيع أي مدينة ان تأخذ دور مدينة أخرى. ازدهار بيروت لا ينعكس سلبا على ازدهار دمشق. لو كان هذا النظام قلّل من حقده على بيروت، لكان وضع دمشق حاليا افضل بكثير مما هو عليه، دمشق والمدن السورية كلّها، بل سوريا كلّها. لاحقت لعنة بيروت النظام السوري وستظل تلاحقه.

تعرّضت بيروت لظلم ليس بعده ظلم. كان مطلوبا في كلّ وقت تطويع المدينة عن طريق ترييفها. مرّة أخرى تواجه بيروت حملة تستهدف كلّ مواطن فيها. يسمح القانون الانتخابي باختراقات مطلوب ان تؤدي الى اضعاف سعد الحريري. أي اضعاف كلّ ما له علاقة بالمستقبل من جهة واحياء عهد الوصاية السورية ولكن تحت عنوان مختلف مرتبط بايران وادواتها من جهة اخرى.

ما الذي سيفعله اهل بيروت؟ هل يتابعون مسيرتهم، التي هي مسيرة الصمود والمقاومة والتعلّق بثقافة الحياة والعضّ على الجرح بعيدا عن أي رغبة في الانتقام؟

في النهاية لن يصحّ الّا الصحيح. عانت بيروت طويلا. لكنّها عادت ونهضت وكانت الى ما قبل مرحلة قريبة عروس المتوسط والمكان المفضّل لدى العرب... الى ان جاء اغتيال رفيق الحريري في العام 2005.

مرّة جديدة ستنهض بيروت. لن تتمكن منها قوى التخلّف التي تريد اعادتها الى عهد الوصاية. لكنّ ما لا بدّ من استيعابه انّ ثمّة حاجة الى مزيد من الوعي بعيدا عن الغرق في التفاصيل الصغيرة.

ثمّة حاجة الى النظر الى بيروت من زاوية انّها نقطة الانطلاق لمنع "حزب الله" من وضع يده نهائيا على البلد. وهذا يعني انّ لا مفرّ من السعي الى مشاهدة الصورة الكبرى. ترتدي الصورة الكبرى شكل سؤال: هل لا يزال اهل بيروت على استعداد للمقاومة ام انّهم قرروا الاستسلام لـ"حزب الله" وادواته؟ هذا هو عنوان المعركة التي تخوضها العاصمة اللبنانية التي تحتاج الى الكثير، بما في ذلك الى إعادة الاعتبار الى الرصيف والى وقف التعديات عليه. نعم، تحتاج بيروت الى الكثير. هذا ما يعيه سعد الحريري ورفاقه في اللائحة الزرقاء الذين تجمع بينهم رغبة واضحة في التصدي للتخلّف بكل انواعه. يجمع بينهم فعل ايمان ببيروت كمدينة قادرة على استعادة دورها، دورها اللبناني ودورها العربي. سيلعب البيارتة، في حال اقبالهم بكثافة على صناديق الاقتراع، دورا في تأكيد انّهم ما زالوا مصرّين على المقاومة وعلى رفض الاستسلام لاولئك الذين يريدون تغيير طبيعة مدينتهم وطبيعة لبنان.