التمدد الإقليمي لمصر ضرورة سياسة

على مدار الأسبوعين الماضيين تلقيت ردود أفعال كثيرة على مقالي "حان وقت التمدد الإقليمي لمصر" و"أبوالغيط ضد التمدد الإقليمي لمصر". وكلها تدل على أن القضية تشغل بال أفراد وجهات مختلفة. هناك من يرى أن مصر قادرة على القيام بدور كبير ومؤثر سياسيا في المنطقة. وثمة من يعتقد في أهمية مواصلة الانكفاء.

كل جانب يملك حججا ومسوغات تجعل وجهة نظره صحيحة ومنطقية، لكن أحيانا تتداخل فيها العاطفة مع العقل. من قالوا بحتمية التمدد لديهم أحلام عظيمة لبلدهم وطموحات في أن تكون لاعبا محوريا. ومن ذهبوا إلى أن مصر للمصريين فقط، امتلكوا أيضا الأداتين. الفرق في ترتيب الأولويات والاستعدادات. لم أجد مصريا يقف مع الانزواء التام بلا زيادة أو نقصان.

لست معنيا بترجيح كفة فريق على آخر، واحترم تماما السفير أحمد أبوالغيط الأمين العام للجامعة العربية الذي خصني بحوار شيق حول هذه القضية. وأقدر رفضه الحاسم لأي تمدد خارج القطر، مستندا لخبرة سياسية طويلة. لدي قراءة ربما تعجب معالي الأمين العام أو لا، لكنها بعيدة عن العواطف والأحلام والخيالات، وبعيدة أيضا عن الحذر والتريث والانكفاء.

في مجملها ترفض الفكرة الرائجة أن التاريخ يعيد نفسه، والتمدد خارج القطر سوف يكرر السيناريوهات التي واجهتها مشروعات سابقة، تبناها كل من علي بك الكبير ومحمد علي وجمال عبدالناصر.

عندما تحدثت عن طموحات إقليمية متعقلة لمصر، استخدمت كلمة تمدد ولم أتحدث عن توسع أو سيطرة. ولفت نظري الكاتب العراقي صلاح نصراوي إلى ضرورة ضبط المفهوم في هذه الحالة، لأن المقصود بالتمدد معجميا، وهو جوهر المسألة المطروحة، "زيادة سطح الجسم أو حجمه أو مساحته أو طوله". وفي الانجليزية فإن كلمة stretch تعطي معاني من بينها التمدد، بما أصبح معروف بالقوى الناعمة.

في المعاجم الأجنبية يبدو الاستخدام الأكثر شيوعا في الأدبيات الجيوسياسية هو التوسع expansion وهو "إستراتيجية سياسية لمد أراضي الدولة من خلال الزحف على أراضي أمم أخرى".

بالطبع لم أقصد المعنى الثاني، ولا توجد قوة إقليمية مهما بلغت قدرتها العسكرية والاقتصادية تستطيع القيام بتوسعات أو فرض هيمنة مطلقة على دول المنطقة والحفاظ عليها، لكن هناك محاولات عسكرية حثيثة من قبل إيران وتركيا، ما يجعل تمددهما الراهن ينطبق عليه مفهوم التوسع.

من الصعوبة أن يكون التمدد المصري يرمي إلى استحواذ على مقاليد الأمور في منطقة تتجاذبها قوى إقليمية ودولية عديدة، بعضها متربص بالفعل بنا، وفي عصر من أهم سماته السعي للتخلص من فكرة القيادة الواحدة.

ربما تكون الولايات المتحدة، وهي قوة عظمى، نجحت على مدار العقود الثلاثة الماضية في فرض هيمنتها على مناطق كثيرة من العالم، لكن ما نراه من تراجع لهذه القوة وصعود لأخرى، مثل روسيا والصين وأوروبا، يشي بأن النظام الدولي تتغير ملامحه التقليدية ويعاد تشكيله على قواعد تراعي القيادة الجماعية، وهو ما ينحسب على الفضاء المحيط بنا.

على المستوى الإقليمي، لا توجد ولن توجد الدولة التي تستطيع فرض نفوذها بمفردها. نعم هناك محاولات من قبل إيران وتركيا، غير أنها لم تفلح. وعلى العكس التمدد الذي تحول إلى توسع من الدولتين استنفر أعداء وأصدقاء فأعلنوا رفضهم للمنهج الذي تتبناه طهران وأنقرة.

هذا النمط يؤدي إلى ضربات قاسمة لهاتين القوتين، لأن كل منهما يملك مشروعا قوميا للهيمنة وتجاهل توازنات دولية صارمة، ربما قام فاعلون فيها بغض الطرف عن توسعات إيران في العراق وسوريا ولبنان واليمن، لكن حانت لحظة المواجهة.

كما أن التوازنات الهشة في لحظة معينة سمحت لتركيا بالتغول والاعتداء على حرمة الأراضي العراقية والسورية، ومد البصر إلى الخليج وأفريقيا. وهي نفسها التوازنات التي تستعد للتصدي لأحلام إحياء الخلافة العثمانية، بعدما تجاوز أصحابها الخطوط الحمراء المسموح بها.

الحاصل أن مصر تدرك التشابكات والمعادلات التي تتحكم في العالم. والدليل أن القيادة الحالية أجرت أكبر عملية عبور سياسي في تاريخ مصر الحديث بأمان وسلام، عندما تجاوزت المصدات الإقليمية والحواجز الدولية التي وقفت أمامها عقب ثورة 30 يونيو 2013.

القيادة التي تتمكن من تخطي العقبات والتحديات وتطبيع العلاقات مع الغالبية الكاسحة من دول العالم وتملك تحالفات متينة في الشرق والغرب والشمال والجنوب، من المؤكد أنها تعي طبيعة التطورات الإقليمية ولن تنجرف وراء أحلام زعامة وفقط، فهي تملك رؤية إستراتيجية مكنتها من العبور الآمن وسوف تمكنها من الوجود الفاعل.

من ينظر إلى خريطة العلاقات مع دول كثيرة يتأكد من هذه المسألة، ومن ينتبه إلى الحضور المصري الإيجابي في أزمات متعددة يعرف المكانة التي وصلت لها مصر الآن ويثق في قيادتها. ومن يراقب النتائج التي وصلت لها مع خصومها الجدد والقدامى يعي أن هناك عقلا يفكر في الخطوة المقبلة قبل أن يضع قدمه على الصعيد الخارجي.

التمدد الناعم المنشود يتناسب مع الطريقة التي يجري بها بناء مجموعة كبيرة من المشروعات الحيوية في الداخل. لم يجرؤ أحد على التفكير في التمدد بمفهومه الثقافي والسياسي عندما كانت البلاد تلملم جراحها. وبعد تجاوز أزمات كثيرة والبدء في جني الثمار من الواجب أن تكون هناك طموحات تتناسب مع الإرادة والقدرات.

التمدد مطلوب للحفاظ على الانجازات في الداخل، لأن الانكفاء مهما تزايدت درجته لن يحمينا من المؤامرات التي تأتينا من الخارج. هو سلاح للردع وليس الهيمنة في حد ذاتها، ويأخذ في حسبانه التوقيت المناسب والتوازنات الإقليمية والدولية. وهذا هو الفرق بين تفكير السياسي والدبلوماسي.

المشكلة أن من يضربون المثل بالمشروعات المصرية التوسعية التي أخفقت، وبعضها مضى عليه قرون، يتجاهلون الفارق الزمني والظروف الحاكمة في كل عصر. ربما لم تتغير كثيرا تقديرات القوى الدولية، وإن اختلفت مسمياتها، لكن القيادة الوطنية التي تقود البلاد حاليا تغيرت ولديها من الحصافة ما مكنها بالفعل من تجاوز عواصف عاتية.

الرغبة في التمدد حالت دونها ظروف عربية، ترى من حقها منازعة مصر الزعامة العربية والإقليمية. والآن مصر نفسها تؤمن بالقيادة الجماعية وتعي جيدا ما يدور حولها وما يدبر لها، ومشروعها السياسي يقوم على التمدد العاقل المتوازن.