'مذكرات لا أحد' تكتب نيويورك في ثلاثة أزمنة

محمد الحمامصي
لم يمض للبيت، مع أن البيت أنسب مكان إليه

أكد الشاعر والمترجم المصري محمد عيد إبراهيم، في معرض ترجمته لرواية \"مذكرات لا أحد\" للروائي الأميركي مايكل كاننجام، والتي صدرت ضمن سلسلة آفاق عالمية عن هيئة قصور الثقافة، أنها رواية ما بعد حداثية تهتم بشخصية الشاعر الأميركي الرائد والت ويتمان، لكن بطريقة مختلفة عن أي شكل روائي قبلها، فـ \"كاننجام\" ينظر إلى التاريخ كأنه علبة مفاجآت، فمع أن بعض شخوص الرواية حقيقيّ، مثل ظلّ الشاعر الأميركيّ \"والت ويتمان\" طيلة العمل حتى النهاية، إلا أن مسار الأحداث يظلّ أسطورياً أو فانتازياً أو حتى قرب الواقعيّ، حيث لا تخرج من عالم الرواية إلا في السطر الأخير\".

وقال \"يمكن لنا أن نرى ضمن الرواية مدينة \"نيويورك\" في ثلاث حالات زمنية: أولها؛ خلال القرن التاسع عشر، والشاعر \"ويتمان\" حيّ، بعدها خلال القرن العشرين، حيث يضرب نيويورك عملية \"إرهابية\" من نوع خاصّ، ممن يرون ديوان \"أوراق العشب\" الخاص بويتمان كأنه كتاب سماوي، وآخرها؛ خلال القرن الحادي والعشرين؛ حيث توشك سمات الحضارة في العالم كله أن تختفي، ووسط هذا كله، تمشي أسطورة كتاب \"أوراق العشب\" كالصنم الحيّ حتى النهاية\".

أما الروائي الأميركي فقد رأى في مقدمته للرواية أن \"أيّ كاتب ينشئ جزءاً من أو جلّ رواية في زمان ومكان متماثلين يواجه مسألة الصدقية. والجواب الأبسط هو الأشدّ عُسراً ـ فقد تُستدعَى أحداث تاريخية بدقة متجرّدة. قد تدور معارك حيث ومتى دارت؛ ولا تظهر مناطيد بالسماء قبل لحظة ابتداعها؛ وليس بمقدور فنان عظيم أن يظهر مساءً إلى حفل تنكّري في نيو أورلينز حين يكون معروفاً، لكي يتعافَى من نَقرَس في باتون روج.

ولفت إلى إن سياق الأحداث التاريخية الصارم ينحو، عموماً، لمصادفة احتياجات الراوي. وقد يضطّر كتّاب سيرة ومؤرّخون لتحسّب قطارات فُوّتت ومواعيد أُلغيت، وفترات طويلة من الكلل؛ لكن كاتب الرواية لا تقيّده الضرورة. وعلى الروايات عادة الإقرار بأيّ درجة من الدقّة الملطّفة تصير حكاياتها أكثر حيوية، وبأيّ درجة تصير أقلّ. هناك طيف عريض بهذا المقام. وأعرف روائيين لا يفكّرون في العبث بحقائق مسجّلة، كما أعرف \"ويعجبني كثيراً\" كاتباً معيناً يبتدع كلّ شيء، من العادات والتقاليد أثناء عصر المسيح حتى النبات وأنشطة الجسم البشريّ. وحين يُسأل عنها، يقول ببساطة \"هذه رواية\".

وتقع \"مذكّرات لا أحد\" بمنزلة بين هذين القطبين. فهي شبه دقيقة. وبأقصى طاقتي، كنتُ وفياً للشخوص التاريخية بالمشاهد التي وضعتها في الماضي. لكن القارئ سيخطئ بدوره لو تقبّل أياً منها كحقيقة أدبية. فقد عمدتُ إلى حرية خاصة في تقسيم الزمن، جاورتُ ما بين أحداث وبشر وبنايات ولحظات قد يفصلها واقعياً عشرون عاماً أو يزيد. وأيّ مهتمّ بالحقيقة المجرّدة عن نيويورك منتصف القرن التاسع عشر إلى آخره ننصحه بمراجعة كتاب \"جوتام\"، تأليف ادوين ج. بوروز ومايك والاس، فهو المصدر الأساس الذي غزلتُ منه ألحاني.

وفي حوار أخير للمؤلّف، يقول بفكرة شائقة عن الرواية \"كلّما كتبتُ أحسستُ اتّساع وخطورة العالم، وأن حكاية واحدة لا تكفي، فأسّستُ عمليّ الأخيرين \"الساعات\" و\"مذكّرات لا أحد\" برواية ثلاث حكايات، سأزيدها عدداً بأعمالي القادمة. وأظلّ أُضاعف، حتى تعود كلّ جملة حكاية وحدها، وساعتها أتوقّف\".

• مقطع من الرواية

\"لم يمض للبيت، مع أن البيت أنسب مكان إليه. ذهب إلى برودواي، حيث يسير الأحياء.

كان برودواي نفسه، دائماً نفسه، نهر من ضياء وحياة تدفق في الظلال ولهب محدود بالمدينة. أحسّ لوكاس، كما يحسّ دائماً وهو يسير هناك، بغثيان، بحميّة هدّامة، كأنه جاسوس مرسَل لبلاد أخرى وعالم ثريّ. سار برباطة جأش مدروسة، متمنياً ألا يكون مرئياً للآخرين قدر ما هم مرئيين له.

حوله بالرصيف، يتراخى آخر المبضّعين على الرصيف للّحاق بأول المعربدين. سيدات بفساتين لون أثداء الحمَام، لون المطر، يتبخترن حاملات طروداً، يتحدّثن بنعومة لبعضهن الآخر من تحت قبعاتهنّ المريّشة. ويخطر الرجال بمعاطفهم الخفيفة في ثقة، ناشرين روائح سيجارهم المكشوفة، تومض من أسنانهم، راكلين الحجر بأحذيتهم لون العرقسوس. تدرُج العربات قريبة حاملة سيداتهم للبيت، وينادي باعة الصحف \"قتل امرأة بخمسة مواضع، اقرأ التفاصيل!\" ستائر حمراء هفهافة بنوافذ الفنادق، تحت سماء تمضي نحو أحمر داكن مع الليل. شخص في مكان يعزف \"ليليث\" على آلة نفخ، فبدا الشارع نفسه مشعاً بموسيقى، كأن الناس بسيرهم واثقين راضين يستجمعون موسيقى من الأرصفة.

لو كان سيمون بالجنة، لحدث هذا. يتخيّل لوكاس أرواح الراحلين تمضي في الخُلد، بموسيقى ناهضة من حصى الأرصفة والستائر تشعّ بنورها. هكذا جنة سيمون؟ أخوه (كان) صاخب ثائر، تسعده أغانيه ووجباته. وماذا كان يسعده أيضاً؟ لم يكن آبهاً لستائر أو فساتين. لا يعنيه والت أو كتابه. فماذا أراد ويمكن للجنة نفحه إياه؟

برودواي هو جنة لوكاس. برودواي وكاترين والكتاب. في جنّته سيكون كلّ ما رآه وسمعه. سيكون نفسه وكاترين؛ سيكون آلة النفخ والمصابيح؛ سيكون حذاءً يضرب الرصيف، ويكون الرصيف تحت الحذاء. سيركب مع كاترين على الفرس الدُمية من نافذة نيدرمير، وستكون بحجم فرس حقيقيّ لكنه كامل على شكل دُمية، يمضي رصيناً على حصى الأرصفة بعجلاته الحمراء البرّاقة.

قال \"أنا ضخم، بصيغة جمع\". حدّق فيه بغرابة، رجل بمعطف خفيف، عابر سبيل، كما يفعل الناس. سيكون الرجل ضمن ملائكة جنة لوكاس، موفور البدن مزدهراً مثله على الأرض، لكنه في العالم الآخر لن يحدج لوكاس بغرابة. في الجنة، سيكون لوكاس جميلاً. سيتحدّث لغة يفهمها الجميع\".

يذكر أن المترجم محمد عيد إبراهيم شاعر من السبعينيات في مصر، له 15 ديواناً كما له أكثر من عشرين رواية مترجمة، من بينها: \"جاز\" لتوني موريسون، \"فالس الوداع\" لميلان كونديرا، \"الساعات\" لمايكل كننجام، \"فنانة الجسد\" لدون ديليلو، \"جوستين\" للماركيز دو ساد، \"مثل ترنيمة\" للكاتب الهندي رومبادرام شري دهاران، \"بنت مولانا\" لمويل مفروي، وغيرها.