تونس المستقلّة المستعمَرة!

تونس دولة غير مكتملة الاستقلال، ثرواتها لا تزال تحت الوصاية الفرنسية. اعلنت ذلك رئيسة هيئة الحقيقة والكرامة سهام بن سدرين قبل ايام قليلة من الاحتفال بعيد الاستقلال التونسي، يوم 20 مارس، مؤيدة كلامها بجملة من الوثائق، قامت بنشرها على موقعها.

كان الخبر صادما للتونسيين. قسمتهم الصدمة الى فريقين، مؤيد للخبر ومشكك فيه. الفريق الاول تظاهر في شارع الحبيب بورقيبة، بالعاصمة، احتج، واحرق العلم الفرنسي. والفريق الثاني تمثل اساسا في بعض اساتذة التاريخ، ركزوا في دفاعهم على استقلال تونس على تكذيب السيدة رئيسة هيئة الحقيقة والكرامة، وبدا كأن الامر مسالة شخصية بينهم وبينها. لم يحسموا المسألة، من اصولها، لان اساتذة تاريخ آخرين ردوا عليهم بوجود اشكالية كبرى في فهم النصوص، فهي حمالة أوجه. ويوم 20 مارس، يوم الاحتفال بعيد الاستقلال، اراد رئيس الجمهورية الباجي قائد السبسي ان يحسم الجدل القائم، أعلن ان لا شك يشوب استقلال تونس، ولم يقدم أي دليلا على كلامه. مع كل هذا لم يحسم الأمر، فالمسألة تبدو قانونية، وليست لا تاريخية ولا سياسية.

الا انه، ومن الواضح بان تونس دولة مستقلة الا انها تخضع الى استعمار خفي، يرتبط باتفاقيات ابرمت لصالح الدولة الفرنسية المستعمرة، تتمتع من خلالها، ومجانا تقريبا، بالثروات الطبيعية لتونس، ولم تتجرأ أي حكومة من الحكومات على مراجعة هذه الاتفاقيات والغاؤها ان تطلب الامر. الا ان الاستعمار الأخطر، هو ما تعانيه تونس حاليا من تبعية اقتصادية وثقافية وسياسة الى الخارج.

اول الحروب الداخلية بين التونسيين كانت حول الاستقلال ذاته، بين الزعيمين التونسيين الحبيب بورقيبة وصالح بن يوسف، ما بين سنة 1954 و1956. بورقيبة، الذي اصبح لاحقا أول رئيس لتونس، كان يريد حكما ذاتيا، وصالح بن يوسف كان يريد استقلالا تاما. انتصر بورقيبة، بقوة السلاح وبمساعدة الفرنسيين، ووقع اتفاقية الحكم الذاتي سنة 1955، والتي هي استقلالا منقوصا لا سلطة لتونس فيها في السياسة الخارجية والدفاع.

لاحقا، قامت السلطات التونسية، في 20 مارس 1956، بتوقيع بروتوكول الاستقلال. هذا البروتوكول أكد على ان تونس دولة ذات سيادة، وهو ما مكنها من الانضمام الى الأمم المتحدة.

بروتوكول الاستقلال هذا لم يلغِ الاتفاقيات المذلة التي ابرمتها تونس قبل 20 مارس 1956، والتي تنتقص من السيادة. مثل اتفاقية الملح التي ابرمت بمقتضى امر صدر في 3 أكتوبر 1949، والتي تنص على تأسيس الشركة العامة للملاحات "كوتيزال" لاستخراج الملح البحري في الجنوب التونسي لمدة 50 سنة، وبالرغم من انتهاء هذا الاتفاق سنة 1989، الا ان مفعوله استمر الى حد الان. والمذل في هذا الاتفاق هو شركة كوتيزال تستغل أكثر من 15 ألف هكتار من الملاحات، تنتج من خلالها حوالي مليون طن سنويا، ويبلغ ثمن الهكتار الواحد "فرنك واحد"، وهي عملة لم تعد موجودة حاليا. وهو ما يعني بان الملح يتم استغلاله مجانا من طرف فرنسا وشركتها.

كانت سلطة بورقيبة تصر على إخفاء جل الاتفاقيات المذلة التي ابرمتها مع فرنسا. أكد السيد احمد بن مصطفى، وهو ديبلوماسي تونسي سابق، لاحد اليوميات التونسية، بان "ما لا يعرفه جل التونسيين بان حوالي 90 صفحة من ملاحق اتفاقية الاستقلال الداخلي لتونس الموقعة في 3 جوان 1955، لم تنشر في الرائد الرسمي، فقد تم نشر منه، فقط، الصفحة الأولى". ويبدو بان هذه الصفحات تتعلق بجملة الاتفاقيات حول الثروات التونسية التي تنهبها فرنسا. والتي تتعلق خاصة بالنفط والغاز.

هذا الاستعمار التاريخي المغلف باستقلال بهي تقام له الاحتفالات كل 20 مارس، والذي لا يفتأ الرئيس بورقيبة بتذكير التونسيين فيه، بان لا ثروات طبيعية لديهم، هم فقط يمتلكون "المادة الشخمة" أي الفكر، رسخ فكرة البؤس والفقر للتونسيين، فأصبحوا شعبا راضيا بقدره المحتوم. بعد ثورة تونس في 2011، هذه "المادة الشخمة" للتونسيين انزاح عنها التعتيم والتجهيل فأدركت بان هناك ثروات منهوبة، وكذلك بان هناك نخبا ومثقفون وساسة وحكومات مرهونة للخارج وتكرس استعمارات خطيرة أخرى، أكثر فداحة من سلب الثروات الطبيعية.

الاستعمار السياسي لم يعد خافيا على أحد. منذ الثورة تم انتداب تونسيين مقيمين بفرنسا لحكم تونس. واغلب الوزراء لهم علاقة بفرنسا، اما دراسة او إقامة. كل حزب يمكن تصنيفه بالانتماء الى دولة ما، قطر، تركيا، فرنسا، الإمارات، السعودية وإسرائيل.

الاستعمار الثقافي فاح عفنه من خلال كل وسائل الاعلام المرئية والمسموعة والمكتوبة. المثقفون الفرنكوفيون هم نجوم المشهد الإعلامي. هم وحدهم من يحدد الوعي الجماعي ويخلق الراي العام، وغالبا ما يتناقضون مع هوية الشعب. قصفهم اليومي على العقول، خلق شعبا تونسيا غير محدد المعالم، فلا هو تونسي ولا فرنسي، ولا هو مسلم او مسيحي، ولا هو متحضر ومدني او متخلف. شعب بالإمكان، وبسهولة، تحويل شبابه الى إرهابيين لقتل الأبرياء.

واما الاستعمار الاقتصادي فقد أصبح أكثر فداحة. فلم يعد بإمكان التونسيين تحديد سياساتهم الاقتصادية الخاصة، هم الان مرتهنون لإملاءات بنك النقد الدولي والدول المقرضة والمانحة. تونس مرغمة على ذلك، لأنها وقعت في هذا المأزق بسبب ضعف الساسة الذين حكموا البلاد ما بعد الثورة، او بسبب التواطؤ للخارج، حتى تشكل ايقونة الثورات العربية كما يراد لها خارج محيطها العربي والإسلامي.

الاستعمار الذي تعيشه تونس لم يعد خافيا على أحد من شعبها. حديث منصات التواصل الاجتماعي والمقاهي شاهد على ذلك. هو واقع يعيش بينهم، يعرفون اثاره المباشرة عليهم واثاره المستقبلية، الا انهم لا يعرفون كيف التخلص منه.

التخلص من هذا الاستعمار برغم صعوبته يبدو ممكنا، حينما يرتكز على بعدين. أولا، انتخاب فئة سياسية، اغلبية، لادارة الشأن العام تكون متصالحة مع هويتها وبعدها العربي والإسلامي، دون ان تكون مرتهنة الى اية جهة خارجية، وقادرة على اتخاذ القرارات الجريئة؛ وثانيا، شعب يؤمن بالعمل، لا يعطل وسائل الإنتاج، تمثل أولية أولوياته استرداد خسائره السابقة، واستخلاص كل الديون المتراكمة التي هو بصدد الاحتراق بها من خلال الضرائب المشطة التي تفرضها علية دولته.

في المحصلة، تونس دولة مستقلة، الا انها لاتزال تحت الاستعمار، وقد كانت منهوبة الثروات الطبيعية، فأصبحت منهوبة في كل شيء، على مرأى مسمع من الجميع، سياسيا وثقافيا واجتماعيا واقتصاديا.