الثقافة المصرية وآمال التراث الثقافي غير المادي

ساهمت الأسبوع الماضي في ورشة العمل الإقليمية التي نظمتها اللجنة الوطنية المصرية لليونسكو ضمن برنامج منظمة اليونسكو العالمية بالقاهرة لمدة أربعة أيام، وذلك لتعزيز التعاون الإقليمي بين الدول العربية لتفعيل اتفاقية "صون التراث الثقافي اللامادي" الموقعة عام 2003. والحقيقة أن حضور مصطلح "التراث الثقافي اللامادي" داخل المشهد الثقافي المصري يحتاج للتوقف أمامه طويلا، بما يكاد يصيبك بالحيرة والدهشة، بلد مثل مصر تحمل على أكتافها طبقات الحضارة المتراكمة كحديقة غناء لا مثيل لها، تجتمع فيها الفصول الأربعة بثمارها ونخلها في آن واحد، وكيف لم ينل ذلك المفهوم والاتفاقية الخاصة به الاهتمام الكافي بعد، ولم تسلط عليه الأضواء بما يستحقه، وما يمكن أن تحققه البلاد من ورائه.

رغم أن مفهوم التراث الثقافي اللامادي أصبح مفهوما حيويا للغاية يتداخل مع دراسات التدافع الحضاري ومستودع الهوية الخاص بكل بلد، ويمكن أن يساهم في بناء وتغيير الصورة النمطية السائدة عن العربي والأفريقي، كما أنه يدعم فكرة قبول الآخر والتنوع، ويدفع فكرة التطرف والخروج على الجماعة للوراء.

وقد تم اعتماد المصطلح دوليا وأصبح المفهوم وعاءا حاويا لعدة تمثلات ومفاهيم قديمة متعددة ووسع نطاقاتها، مثل الفلكور، والأدب الشعبي، والعادات والتقاليد، والموروث والأمثال والمرويات وغيرها.

يعود سياق ظهور المصطلح تاريخيا للتسعينيات، بعد تفكك الاتحاد السوفيتي بشكل ناعم ودون حرب أو قوة مادية صلبة وملموسة، وسيادة نمط الحياة الاميركي ومظاهره في معظم بلدان العالم بشكل ناعم أيضا فيما عرف بالعولمة، حينها اتجهت منظمة اليونسكو التابعة للأمم المتحدة للبحث عن مشروع علمي جديد لحماية الثقافات المحلية للدول الأخرى من الاندثار التام، وعمل بروتوكول أو اتفاقية دولية لتنفيذ مشروعها هذا.

وبالفعل خرج المشروع للنور عام 2003 تحت اسم "اتفاقية صون التراث الثقافي اللا مادي"، وتم اعتماد المفهوم واندرج تحته خمس مجالات رئيسية شملت كافة تمثلات التراث الثقافي اللا مادي في أشكالها ومفاهيمها القديمة، وتم الاتفاق على ثلاث بروتكولات رئيسية تقدم من اجلها اليونسكو الدعم لتفعيل الاتفاقية. أولا، قوائم حصر التراث الثقافي غير المادي المحلي؛ ثم ثانيا، الترشيح من هذه القوائم إلى "القائمة التمثيلية" أو القائمة التي تستخدم للترويج والدعاية للمشروع عالميا؛ وثالثا، قائمة "الصون العاجل" وذلك للعناصر المعرضة للاندثار.

والحقيقة أن لمصر باع طويل في مجال الموروث الشعبي عموما بما يشمله من فروع غنية تحته، وهناك جهود متنوعة في حفظ وجمع وتوثيق هذا الموروث، ولكن المشكلة في علاقة الحالة المصرية باتفاقية اليونسكو ومفهوم التراث الثقافي غير المادي وتمثلاته ترجع في تصوري الشخصي إلى عدة جوانب:

- عدم الفهم الكافي للاتفاقية وفهم دورها والوعي به وبأهميته، كإجراء بروتوكولي لتوحيد آليات الفهرسة والتبويب للتراث الإنساني ككل، مما يسهل عملية إجراء المقارنات والمقابلات وسهولة التعارف بين الدول، وبالتالي أهمية فهرسة وإعادة تبويب عناصر التراث الثقافي اللا مادي المصري وفق المجالات الخمسة للاتفاقية وما يندرح أسفلها.

- عدم الوضوح الكافي للإجراءات بالنسبة للآليات المعتمدة من الاتفاقية لعمل قوائم الحصر، والدخول للقائمة التمثيلية، وإدراج عنصر ما على قائمة "الصون العاجل"، بما يجعل البعض يتجاهل الاتفاقية، ولكن ذلك لغياب التعريف الكافي بتلك الإجراءات القياسية.

- غياب الوعي الكافي بأهمية التفاعل مع الوسط الثقافي الدولي من خلال اليونسكو، والحضور بقوة لما يمثله ذلك من فرصة لتوظيف والتأكيد على القوة الناعمة المصرية والعربية والإفريقية، خصوصا وأن معظم بنود تلك الاتفاقيات تتعرض للمراجعة والتعديل كل فترة، وبالتالي يمكن لمصر (مع المجموعة العربية والأفريقية وغيرهما) أن تعد خطة قصيرة الأجل للمشاركة، وخطة طويلة الأجل للتأثير في مفاهيم وبرتوكولات الاتفاقية وفق التصور المصري والعربي والأفريقي، ووفق طبيعة الحالة وظروفها الخاصة.

كما يمكن أن تكون الاتفاقية فرصة مواتية لمصر لتفعيل حاضنتها الثقافية التاريخية عربيا وإفريقيا، حيث:

- تعد الاتفاقية فرصة ذهبية لتفعيل القوة الناعمة المصرية في دوائرها العربية والإفريقية والعالمية، وتغيير الصورة النمطية للعربي والإفريقي من خلال إبراز مجموعة من المفاهيم الإيجابية وتسليط الضوء عليها، وتصدير هذه الصورة من خلال مجموعة من التمثلات المكتوبة والمترجمة للغات الأخرى، وباستخدام كافة أشكال عرض وحفظ وترويج تلك التمثلات عربيا وإفريقيا وعالميا.

- البحث عن عناصر التراث الثقافي اللا مادي المشتركة عربيا، وعناصر التراث الثقافي اللامادي التقابلية مع الأفارقة وباقي دول العالم، وفق مفهوم تبادل المزيج الثقافي الذي طرحته في تصور سابق عن دبلوماسية ثقافية مصرية جديدة.

- رغم أن الاتفاقية تهتم بالتراث الحي وحفظه وصونه، إلا أن مصر يمكنها أن تستفيد من أجواء الاتفاقية في إعادة إحياء مجموعة من العناصر التراثية الخاصة بها، والتي تعرضت للاندثار في الفترة الماضية، من خلال التعاون مع العديد من الدول خارج نطاق الاتفاقية وتحت مفهوم إعادة الإحياء ودمج تلك العناصر في الحياة المصرية المعاصرة.

مصر تملك فرصة ذهبية للعودة للمشهد العالمي بقوة من خلال اتفاقية "صون التراث الثقافي اللامادي"، وتفعيل وجودها الناعم في المشهد الدولي بفاعلية عالية، فقط نحن في حاجة لبذل المزيد من الجهد في سبل حصر وجمع وتوثيق وإعادة فهرسة تراثنا الشعبي وفق توصيفات الاتفاقية، ثم علينا العمل لوضع عدة عناصر على قائمة الترويج العالمي للمفهوم والاتفاقية (القائمة التمثيلية)، وكذلك الدفع ببعض العناصر المعرضة للاندثار إلى قائمة "الصون العاجل"، ثم تكون الاتفاقية تكأة لحضور مصري وعربي وأفريقي موسع في المحافل الدولية، لتغيير الصورة النمطية للعربي والأفريقي لدي الغرب، والتأكيد على وجهة نظرنا في ظل التدافع الحضاري الدولي ونحن في خضم تشكل نظام عالمي جديد إقليميا ودوليا.

يمكن لدبلوماسية تبادل المزيج الثقافي التي طرحتها مؤخرا بالإضافة لتفعيل الحضور المصري في نطاق التراث الثقافي اللامادي واتفاقيته، أن يكونا مكونا هاما من رؤية ثقافية مصرية شاملة للحضور في المشهد الدولي والتأثير فيه، في ظل التدافع الحضاري الراهن وتعدد مراكزه المختلفة، وللتأكيد على قدرة مصر والمنطقة العربية والإفريقية على تقديم نموذج حضاري ثقافي محترم ورائد، يؤكد في الوقت نفسه على العمل المشترك القائم على الاحترام المتبادل وقبول التنوع والسماحة والمحبة، وأن الحاضنة الثقافية العربية والإفريقية وإن احتوت على أنماط سائدة ككل تمثلات الظاهرة الإنسانية، إلا أن هذه الأنماط السائدة تحترم بشدة مختلف الأنماط الأخرى وتقبل بحضورها وتحترم مظاهر هذا الحضور.