مواجهة الواقع اللبناني بواقعية

أي كلام عن لبنان ما بعد الانتخابات النيابية المتوقعة في السادس من ايّار – مايو المقبل يبقى كلاما في غير محلّه في حال عدم اخذه في الاعتبار لما هو على المحكّ في هذه الانتخابات. ما على المحكّ القدرة على مواجهة الواقع بواقعية بدل الهرب منه. هذا يعني في طبيعة الحال الاعتراف بان على لبنان التعايش مع ازمة عميقة مستمرّة منذ العام 1969 تاريخ توقيع اتفاق القاهرة المشؤوم. هل هناك وعي تام لابعاد هذه الازمة التي ما زالت تتفاعل الى اليوم والتي يعبر عنها افضل تعبير السلاح غير الشرعي الذي يمتلكه "حزب الله"؟

قضى السلاح غير الشرعي، الذي كان فلسطينيا، ثم صار مذهبيا لبنانيا أي إيرانيا، على كلّ امل في إعادة بناء مؤسسات الدولة اللبنانية. قضى عمليا على امكان لعب لبنان لدور على الصعيد الإقليمي في ايّ مجال من المجالات. تعطي الحال التي صار عليها رصيف الشوارع في بيروت فكرة عن الترهل اللبناني. افضل ما يعبّر عن هذا الترهل الاحتفال بهبوط طائرة "ايرباص – A380" في مطار بيروت الدولي الذي يحمل اسم رفيق الحريري. راهن رفيق الحريري على امكان الانتقال بلبنان الى مكان آخر بفضل مشروع الانماء والاعمار، هذا المشروع الذي توقف مع اغتياله ولكن بعد تحقيق اعجوبة إعادة بناء الوسط التجاري لبيروت بمستوى معيّن. دفع رفيق الحريري ثمنا غاليا بسبب ما قام به. اثبت اغتياله انّه ممنوع على لبنان ان تقوم له قيامة في ظلّ رغبة مستمرّة في استغلاله كـ"ساحة".

لم يكن "حزب الله" بعيدا عن القانون الانتخابي الذي ستجري في ظلّه الانتخابات. انّه قانون يعتمد على النسبية في بلد ليست فيه أحزاب حقيقية بالمفهوم العصري للحزب السياسي. الهدف من النسبية هو ضرب كلّ القوى التي صمدت في وجه "حزب الله" ومنعته من السيطرة كلّيا على البلد. امّا الصوت التفضيلي، فهو لعبة أخرى تستهدف جعل كلّ المرشحين في لائحة واحدة ينافس كلّ منهم رفاقه في هذه اللائحة. نتيجة ذلك، ان "حزب الله"، حيث الانضباط الصارم، الذي نجح الى حدّ كبير في تحويل الطائفة الشيعية الى طائفة منغلقة على نفسها، بشكل عام طبعا، سيكون قادرا على التحكّم بنتيجة الانتخابات في المناطق التي فيها أصوات شيعية.

لا شكّ اطلاقا انّ هناك شيعة معارضون لـ"حزب الله" وتوجهاته. هؤلاء ولاؤهم للبنان اوّلا وكانوا في طليعة من واجه الوصاية السورية المباشرة في الماضي والوصاية الايرانية، غير المباشرة، في المرحلة الراهنة. لكنّ هؤلاء ما زالوا اقلّية غير قادرة على تنظيم نفسها، خصوصا مع دخول الحزب الايراني، وهو الحزب الوحيد المسلّح، في حلف مع حركة "امل" التي تمارس بدورها دورا مهيمنا على قسم لا بأس به من أبناء الطائفة. هذا لا يمنع الاعتراف بانّ هناك تململا شيعيا في منطقة بعلبك – الهرمل ليس معروفا بعد ما سيؤدي اليه ومدى انعكاسه على نتيجة الانتخابات في تلك المنطقة التي تشكل دائرة انتخابية. سيكون هناك خرق للائحة الثنائي الشيعي في تلك الدائرة، لكنه سيظل محدودا ولن يؤثر على الصورة العامة التي ستكشف الى ايّ حد هناك تحكّم لـ"حزب الله"، بفضل سلاحه وما لديه من إمكانات مالية، بالمناطق الشيعية في لبنان.

المؤسف في الامر ان أحزابا مسيحية لعبت دورها في الوصول الى القانون الحالي. لم تستوعب هذه الأحزاب، التي كان همّها محصورا في محاربة ما تعتبره الصوت السنّي المهيمن في دوائر معيّنة، خطورة تنفيذ مآرب "حزب الله" الذي نادى بالنسبية والصوت التفضيلي منذ العام 1999.

ماذا تعني مواجهة الواقع اللبناني بالواقعية في السنة 2018. تعني اوّلا الاعتراف بان اللبنانيين يواجهون حاليا حزبا كبيرا منضبطا يعتمد على التعبئة المذهبية والسلاح غير الشرعي. انّه يسعى عمليا الى تبييض هذا السلاح وتحويله الى سلاح نظيف عبر السيطرة على مجلس النوّاب بطريقة او باخرى. اخطر ما في هذا الحزب امران. الامر الاوّل ان دوره صار يتجاوز لبنان، وهو إضافة الى مشاركته في الحرب على الشعب السوري من منطلق مذهبي، انّما يحتفل باطلاق صواريخ إيرانية من الأراضي اليمنية في اتجاه المملكة العربية السعودية. اما الامر الثاني، فيتمثّل في ان كلّ المعارك التي خاضها الحزب مع إسرائيل، انتهت بتحقيقه انتصارا جديدا على لبنان واللبنانيين.

يواجه اللبنانيون بصدورهم العارية سلاح "حزب الله". ليس هناك من يريد دعمهم في هذه المواجهة. هذا لا يعفيهم من تحمّل مسؤولياتهم في مختلف المناطق اللبنانية، خصوصا في دائرة بيروت الثانية، التي يخوض فيها الرئيس سعد الحريري معركة في مواجهة لائحة يدعمها "حزب الله". لا هدف للائحة "حزب الله" في دائرة بيروت الثانية سوى تحقيق اختراق في داخل الطائفة السنّية التي أخرجت الجيش السوري من لبنان بعد اغتيال رفيق الحريري. لا يكتفي الحزب، بدعم من بعض الشخصيات السنّية التي تريد تصفية حسابات مع "تيّار المستقبل"، بتشكيل لوائح عدة في بيروت الثانية لتشتيت الصوت السنّي، انّما يدعم مرشّحين ينتمون الى النظام الأمني السوري – اللبناني الذي كان يتحكّم بالبلد في عهد الوصاية السورية. هناك إصرار على ترشيح عدد من رموز هذا النظام الأمني من الذين لعبوا دور المتواطئ في تغطية جريمة اغتيال رفيق الحريري. لا يزال "حزب الله" يلاحق رفيق الحريري الى اليوم. لا هاجس لديه سوى التخلّص من كلّ ما يمكن ان يظهر ان ثقافة الحياة لا يمكن الّا ان تنتصر على ثقافة الموت التي يسعى الى تعميمها عن طريق تغيير الطبيعية الديموغرافية لبيروت ومناطق لبنانية أخرى ذات أكثرية مسيحية في معظمها.

هذه هي الصورة الكبرى للانتخابات التي تنتظر لبنان. هناك قانون انتخابي لا يشجع على التفاؤل كثيرا بالنتائج المتوقعة. لكنّ ذلك يجب الّا يمنع اللبنانيين من السعي مجددا الى المحافظة على ما بقي من بلدهم، انطلاقا من المعركة الانتخابية في بيروت، مع الادراك التام لطبيعة التحديات التي يواجهونها.

في مقدّم هذه التحديات تغيير طبيعة العاصمة اللبنانية من اجل تكريسها مدينة إيرانية على المتوسط.

الى أي حدّ سيتمكن اللبنانيون من الصمود في وجه حزب لا همّ له سوى افقارهم وتهجير ابنائهم وعزل لبنان عن محيطه العربي فضلا عن منع المجتمع الدولي في الاقدام على أي خطوة تصب في إعادة الحياة الى البلد؟

هناك مؤتمرات دولية تنعقد من اجل دعم لبنان، من اجل دعم مؤسساته السياسية والامنية اوّلا واقتصاده ثانيا وأخيرا. ليس صدفة ان لبنان يواجه في كلّ هذه المؤتمرات مشكلة اسمها سلاح "حزب الله" ودوره داخليا وإقليميا.

هذا هو الواقع الذي لا يمكن الهرب منه لا بالكلام الكبير عن "المقاومة" و"الممانعة" ولا بالشعارات الطنانة التي جعلت طريق القدس يمرّ في حلب وحمص وحماة!