القانون والهارب

ما بين الصوت واللاصوت

انتهت الأجواء الانتخابية للرئاسة المصرية بفوز المرشح عبدالفتاح السيسي بفترة رئاسية جديدة، وعليه نسأل الله له وللشعب المصري أجمع التوفيق و السداد .

ما لفت انتباهي في هذا الشأن الأجواء التي مرت بها العملية الانتخابية ما بين الصمت والمقاطعة من ناحية، والصخب والأنغام الراقصة من ناحية أخرى .

ما يلفت النظر في تلك الانتخابات تفعيل قانون تنظيم الانتخابات الرئاسية الذي أصدره المستشار عدلي منصور رئيس الجمهورية الأسبق في مارس/آذار ٢٠١٤، حيث نصت المادة ٤٣ بالقرار رقم ٢٢ لسنة ٢٠١٤ " أن يُعاقب بغرامة لا تجاوز ٥٠٠ جنيه مصري مَنْ كان اسمه مقيداً بقاعدة بيانات الناخبين وتخلف بغير عذرٍ عن الإدلاء بصوته في انتخابات الرئاسة، الأمر الذي كان معمولاً به في ستينيات وسبعينيات القرن الماضي .

وهكذا رصد عدد من خبراء القانون وفقهاء الدستور عقوبة "الهارب" والممتنع عن التصويت في الانتخابات، ووفقاً لما حدده الدستور المصري في هذا الإطار، ووسط الهجوم الشديد الذي نالته بعض الدعوات للمطالبة بالمقاطعة الانتخابية، نظمت مواد القانون العقوبات التي يتم تطبيقها على عدد من المخالفات المتعلقة بممارسات الانتخابات الرئاسية ومحاولات إفسادها أو منع المواطنين في الانتخابات، وجاءت تلك العقوبات في فصلٍ منفصلٍ، وهو السادس من القانون، وضم ١٧ مادة عقابية خاصة بعشرين نوعاً من المخالفات .

واختلفت آليات تطبيق هذا القانون عن الهارب والممتنع، وأيٍّا كانت صورة التطبيق للقانون، وأيٍّ كانت أعذار الممتنع والهارب، فالأمر عندي أثار تساؤلاً حيوياً عن الظاهرة الصوتيةِ نفسِها، وليست التصويتية فحسب، فهل نحن شعوبٌ تعرف قيمة الصوت؟ أم أنه ليس سوى الصخب و الصياح؟ ولماذا غاب القانون الذي يهذب أصواتنا؟ ولماذا ظل الهارب هارباً ولَم يعد إلى الآن؟

ما بين التصويت واللا تصويت، وما بين الصوت واللاصوت تذكرت قانوناً آخر وهارباً من نوع مختلف، معتمدة في ذلك على التورية والمشابهة بين الرمز والمشار إليه والفكرة الأبعد التي ربما تكون هي الجوهر المفقود، والتي ربما تدل دلالة قاطعةً على أننا شعوب لا نظامية ولا تهيب القانون، بل وتتفنن بالهرب .

وإليكم ما أعنيه بالقانون وما قصدته بالهارب:

قانون قبل التاريخ بألف عامٍ، وسيط مشع بين العقل والمادة، يحمل عبقاً وألقاً وشجناً شرقياً خاصاً .

هو ذلك القانون شبه المنحرف، القائم الزاوية، متعدد الأوتار والنغمات والمقامات، دستور الأنغام وصاحب أجمل الأصوات، نعم هذا ما قصدته من القانون الآلة العظيمة الضاربة في عمق التاريخ والتي اختفت في التخت الشرقي ولم تعد إلا في محافل محدودة .

أخذتني حيرة القانون السياسي واضطرابه أحياناً بعيداً عن قميص عثمان الذي به يتناحرون، ووجدتني أسأل ماذا عسانا نفعل في زمن الجدب والحرب واليأس؟ ماذا نفعل إذا احترق المسرح ولم يمت بعد الممثلون؟

أليس حلاً في ظل ذلك الجدب أن ننصت إلى متعتنا الأخيرة، إلى الأصوات؟

ألم تقاوم تلك المقامات العربية الفكر المتشدد؟ أليس معظم الذين أسسوا أمجادهم بإتقانٍ كان على أوتار القانون؟ ذلك القانون الذي أُخذ من الهاربِ نفسِه الآلة الفرعونية المشدودة على الأوتار؟

لماذا الآن ضاع القانون، وظل الهارب مفقوداً، وقُطعت كلَّ الأوتار؟

أدعوكم معي أن تروا عبور الأشياء من بعيد، فما بين الصوت المحشو بالصمت، والصمت المشحون بالصوت، والهارب المذبذب الذي لم يُستطاع الامساك به، وما بين القانون السياسي والهارب منه، والقانون الموسيقي والهارب علاقة تبدو مبهمةً كجزر لا تنفك شطآنها .

فبين الرنة وأختها، وبين الذبذبة وثانيتها، ما بين الرست، والدوكاه، والسيكا، وجهاركاه، وتؤي، وكردان، وغيرها من المقامات طريق وسكة وتتابع أجناس موسيقية وعلائق بين الأجناس ليتشكل الرصيد الإنساني والثقافي .

عن تلك الموسيقى أكتبُ، فأين اختفت تلك التجربة التي أسمتها العرب (الطرب) التي جوهرها الحرية ومادتها الصوت، والتي تجعلك تشعر كم هي خالدة كمصر، عريقة كسوريا، جميلة كبيروت، جريحة كبغداد، وحيدة كالقدس .

تلك الأصوات التي كانت تمتلئ حريةً وابتكارا في ليل القاهرة وطرابلس ويافا وحلب ودمشق والموصل وغيرها، نفس المفردات، والمقامات، والألفة والرصيد العظيم من الانفعالات فأين ذهبت بعيداً؟ كل ذلك وأكثر يثبت أن الموسيقى ليست دعاية ولا رقصات، القانون الذي نعنيه الآن والذي كان تطوراً تاريخياً للهارب آلة وترية تحتاج لعقلٍ ودراية وخبرة كما تحتاج لمصمم فنان على قدر كبير من الذكاء، بل واستخدم في مصر القديمة للتعبير عن الحركة الكونية، كما استخدم في الطقوس الدينية، الأمر الذي دفع أفلاطون في كتابه "الجمهورية" دعوة اليونانيين للاستمتاع بالموسيقى المصرية ذات القواعد والقوانين العلمية واعتبارها أرقى موسيقات العالم وأعظم نموذج يحتذى به وتنشد التعبير عن الجمال وخير وسيلة لتهذيب العقول.

ودأب المصريون القدماء على المقارنة بين الهارمونية الكونية والموسيقية، وأقاموا مقابلات بين الكواكب السبعة والأنغام الموسيقية كما مثلوا الفصول بأوتار القيثارة، فاستخدمت القيثارة وحيدة الوتر كرمزٍ لحركة الكون وتقلبات الفصول الأربعة والمسافات الخاصة بالكواكب والنجوم .

وقد نصح فيثاغورث ثلاميذه بالعودة للقيثارة وحيدة الوتر للتعبير عن الحركة الكونية التي كان يعتقد الكهان أنها تشكل تناغماً هارمونياً محسوساً.

هكذا رأيت الأمر من زاوية بعيدة ربما لكنها مرتبطة بالوعي والدراية، فمن قانون التصويت، لصوت القانون وبينهما هارب لا يزال بيننا مفقودا ولا يزال يرى في هروبه مبرراً مقنعاً!

فإذا كان القانون (low) ينظم علاقة الفرد بالمجتمع، فالقانون (canon) يمثل علاقة بين النص والمحتوى، فيصبح الأول درع أمان وصيانة مجتمعية، والثاني درع لتحدي الألم والحزن والموت .

ولنعلم إنهم اذا صرخوا ضد الموسيقى سيعزف الشعب، وإذا صرخوا ضد الغناء سيغني الشعب، وإذا صرخوا ضد الفن سيمارسه الشعب، وإذا صرخوا ضد الفكر الحر والمفكرين سيقرأ الشعب، وإذا صرخوا وملأوا الدنيا صراخاً سيكونون في النهاية ضحايا لصراخهم وسيحتقرهم الجميع ويرفضهم الجميع ويطاردهم الجميع، وستكون دروعهم أنغاماً وموسيقى تلغي احتمال أن الحياة مجرد غلطة، وسيعود الهارب يوماً قريباً.

ولنتذكر ان أبوللو إله الشمس والطب والفنون اخترع آلة (الجنك) الهارب، وقد صنعها من قوس صيادٍ فضي مشدود على أوتار تعطي أنغاماً حرةً وشجية.