قمة ثلاثية لسوريا... بل خماسية

عقدت ثلاثة اطراف من اصل الخمسة التي تحتل الأراضي السورية قمّة في انقرة. تلك الأطراف هي روسيا وايران وتركيا. الملفت ان ليس بينها ايّ طرف عربي. الطرفان الآخران المرشحان أصلا للانضمام الى مثل هذه القمة، لو لم يفضلا اللعب بطريقة مختلفة، في الخفاء أحيانا وفي العلن أحيانا اخرى، هما الولايات المتحدة وإسرائيل. لا حاجة للإشارة الى انّ هذين الطرفين ليسا غير عربيين أيضا. كانا الحاضرين الغائبين عن قمّة انقرة.

هناك اعتبارات، اقلّه من النوع الشكلي، تمنع أي لقاء إيراني – إسرائيلي او أميركي- إيراني، في حين ان هناك هدفا نهائيا يجمع بين الأطراف الخمسة حتّى في غياب المحتلين الآخرين عن قمّة انقرة. يتمثل هذا الهدف في تفكيك سوريا التي عرفناها والتي تبيّن انّها لم تعد قادرة على الانبعاث من جديد.

في كلّ الأحوال، انعقدت القمّة الخماسية من دون ان تنعقد، لا لشيء سوى لان الهدف الخماسي واحد. يبقى ان السؤال الذي يطرح نفسه بقوّة هو كيف ستجد ايران مكانا لوجودها الدائم في سوريا. هل تكفي حملات التشييع وتغيير طبيعة دمشق وتركيبتها مع المنطقة المحيطة بها لتكون لديها مستعمرة في الداخل السوري... ام ان ذلك يحتاج الى تفاهم مع إسرائيل يمكن ان تؤمّنه روسيا حيث لم يخف فلاديمير بوتين انّه على تواصل دائم معها. ما الشروط التي ستفرضها إسرائيل على ايران كي تقبل بها في سوريا في ظلّ تفهّم أميركي لذلك؟

ليس سرّا ان بوتين لا يمتلك ايّ عقدة تجاه إسرائيل. على العكس من ذلك، لديه إصرار على إقامة افضل العلاقات معها. على سبيل المثال وليس الحصر، لم يجد في حديث تلفزيوني طويل على قناة "فرانس- 3"، بثّ قبل ايّام، سوى الراحل ارييل شارون يستشهد به. سئل الرئيس الروسي عن رأيه في الشرق الاوسط. كان جوابه التذكير بكلام لشارون جاء فيه: "انا لا اثق بايّ شخص في المنطقة، في ما يتعلّق بايّ موضوع كان". هذه خلاصة تجربة بوتين المستمدّة من تجربة شارون. يفترض في شخص مثل بشّار الأسد، لا يصلح سوى للعب دور الأداة في عملية تدمير سوريا، اخذ العبرة من هذا الكلام الصادر عن الرئيس الروسي. من سيتفوّق في الدهاء والباطنية على الاخر في نهاية الامر. هل يستطيع بشّار استخدام بوتين للبقاء في السلطة، ام لدى الرئيس الروسي حسابات من نوع آخر. تقضي هذه الحسابات باستخدام رئيس النظام السوري في لعبة تحسين شروط الكرملين في تعاطيه مع إدارة ترامب.

كلّ ما صدر عن قمة انقرة لا يمت الى الحقيقة بصلة. اتفقت الدول الثلاث على المحافظة على وحدة الأراضي السورية. كيف يمكن لوحدة سوريا ان تجمع بين التركي والروسي والإيراني في حين ليس هناك أي دولة من الدول الثلاث مهتمة ببقاء سوريا موحّدة. لدى تركيا همّها الكردي. وهذا يعني انّها تعد نفسها للبقاء طويلا في الشمال السوري وحول حلب وحتّى في حلب نفسها. امّا روسيا، فلديها همّان. الاوّل الساحل السوري الذي تريد البقاء فيه الى الابد، والثاني الورقة التي اسمها رأس النظام. هل ستجد من يشتري هذه الورقة في أي وقت من الاوقات، خصوصا في واشنطن. تأخرت روسيا في استخدام هذه الورقة. الطفل يعرف ان النظام السوري انتهى وشبع موتا، حتّى لو دعي الى لقاء عربي هنا او هناك، وانّ سوريا دمّرت مدنا وريفا. كلّ ما يستطيعه النظام عمله هو ان يكون ناطورا على الخراب ورمزا للبؤس والظلام اللذين يهيمنان على كل منطقة من المناطق السورية وشاهدا عليهما.

امّا ايران، فاقل ما يمكن قوله ان لا وجود لكلمة تصدر عن ايّ مسؤول فيها ذات علاقة بالواقع والحقيقة. على سبيل المثال، قال الرئيس حسن روحاني على هامش قمّة انقرة: "بعض البلدان، وبينها اميركا، تساعد جماعات إرهابية مثل الدولة الإسلامية (داعش) في سوريا التي تخدم مصالح هذه الدول. تعتقد ايران انّ لا وجود لحل عسكري للازمة السورية. الحفاظ على استقلال سوريا أولوية بالنسبة الى ايران". لا حاجة الى تفنيد كلّ عبارة، بما في ذلك الكلام عن مساندة اميركا لجماعات إرهابية. فاذا كانت اميركا تساند "داعش" ماذا عن "الدواعش" التي تدعمها ايران، بل التي صنعتها ايران، وهي ميليشيات مذهبية منتشرة في كلّ المنطقة تشكل الوجه الآخر لـ"داعش" السنّية. لعلّ الجانب الأهم في كلام روحاني هو ذلك المتعلّق بـ"الحفاظ على استقلال سوريا". أي سوريا يريد الرئيس الايراني المحافظة على استقلالها... هذا اذا بقي شيء من سوريا، غير انّها تابع لطهران أحيانا ولموسكو في أحيان اخرى.

بعض الاحترام لعقول الناس يبدو ضروريا بين وقت وآخر. ليس هناك من يريد المحافظة على وحدة سوريا التي انتقلت من ازمة الى أخرى منذ اليوم الذي استقلّت فيه. في سوريا، كان اول انقلاب عسكري في العالم العربي في آذار - مارس 1949. وفي سوريا كان هروب للوحدة مع مصر في 1958 من دون ان يكون هناك أساس منطقي لمثل هذه الوحدة التي جلبت الخراب الى البلد واسست للنظام الأمني فيه، وهو النظام الذي كرّسه حزب البعث ثمّ الضباط العلويون الذين مهدوا لوصول حافظ الأسد الى السلطة والاستفراد بها عن طريق اللعب من تحت الطاولة مع إسرائيل ومن فوق الطاولة مع ايران. ليس الوضع السوري الحالي سوى نتيجة طبيعية لممارسات نظام لعب طوال نصف قرن على التناقضات في المنطقة. شمل ذلك تفجير لبنان من داخل والرهان على اللاحرب واللاسلام مع إسرائيل بغية الوصول الى وضع اصبح فيه ضمّ هضبة الجولان المحتلة منذ العام 1967 امرا واقعا.

لم تنعقد قمّة انقرة من اجل المحافظة على وحدة سوريا. انعقدت من اجل تنظيم عملية تفكيك سوريا والبحث في مرحلة ما بعد الانسحاب الاميركي في حال حصوله. لم يعد مصير سوريا لغزا، خصوصا انّه سيُفرض عليها في مرحلة معيّنة دستور جديد يجعل منها دولة فيديرالية، أي دولة تتقاسم فيها النفوذ قوى خارجية. اللغز الحقيقي ما الذي تريده إدارة ترامب وهل هي مختلفة، في ما يخص سوريا، عن ادارة باراك اوباما.

اللغز الحقيقي الآخر كيف ستجد ايران وسيلة لضمان بقائها في منطقة سورية معيّنة تعتبرها حيوية للربط بينها وبين "حزب الله" في لبنان. يظل للحزب اهمّية كبيرة بالنسبة الى النظام الايراني اذ يعتبره من اكبر الانجازات التي حققها في الخارج منذ قيام "الجمهورية الإسلامية" في العام 1979.

تدخل الحرب السورية هذه الايّام مرحلة جديدة. انّها حرب إعادة تنظيم للاحتلالات والوصايات لا اكثر ولا اقلّ. ستسقط ضحايا كثيرة أخرى، تماما كما حصل في الغوطة الشرقية. ستكون هناك مفاجآت. يمكن ان ينزل عدد اللاعبين الخارجيين من خمسة الى أربعة اذا انسحبت اميركا من شرق الفرات. الثابت الوحيد ان المرحلة الجديدة لن تكون اقلّ صعوبة وتعقيدا من المراحل التي مرّ فيها البلد منذ اندلاع الثورة الشعبية في مثل هذه الايام قبل سبع سنوات.