الديمقراطية.. ورجال الدين في إيران

استمرار إضعاف المؤسسات المدنية

لا تنكر السلطات الحكومية في إيران شغف شعبها إلى التغيير الجوهري، وفي الوقت نفسه فإن المتشددين في “الجمهورية الإسلامية” مصممون على تقليص أي جهد جادّ لإصلاح النظام، لأنه في الحقيقة ليس مستعدًّا للتصدِّي بشكل مناسب لاحتياجات الشعب السياسية والاقتصادية والثقافية. فما الدور الذي يلعبه الدين في التفاعل بين الرغبة الشعبية في التغيير وتصميم النظام على منعه؟

كنظام شبه استبدادي، تعطّل “الجمهورية الإسلامية الإيرانية” القطاعات العامَّة بشكل منهجيّ، وتُضعِف المؤسسات المدنية، كما تسيطر على كل جماعة أو مجتمع ذاتي التنظيم وتضغط عليه (حتى المجتمعات السلمية وغير السياسية مثل الصوفيين والبهائيين)، وتهيمن أيضًا على النقابات المهنية والجمعيات وتقضي على إمكانية تشكيل شبكة اجتماعية فعَّالة ومستقلَّة. وعلى أثر استخدام الحكومة الإسلام الشيعي والمزايا السياسية والاقتصادية التمييزية الفريدة من نوعها لدى رجال الدين في خدمتها الخاصَّة، تختفي الأشكال التقليدية للتديُّن تدريجيًّا مع فشل الأجندة الآيديولوجية للحكومة لفرض التوافق الديني بشكل يائس وتنتهي بنتائج عكسية على المواطنين. بالمقارنة مع عصر ما قبل الثورة، يتمتع رجال الدين بسلطة وثروة سياسية كبيرتين، ممَّا يكلِّفهم الاعتماد على الدولة وعدم الشعبية في المجتمع. لا تُعتبر إيران مهدًا لحضارة محورية فحسب، بل أيضًا لعديد من الأديان العالمية، من الزرادشتية إلى الإيمان البهائي. بوجود هذه الشخصية الدينية العميقة الجذور، تفاعلت الروح الإيرانية مع التقاليد غير الكفأة والتطبيق المبتكر للآيديولوجية الدينية من خلال اختراع أشكال جديدة من التديُّن، وتخصيصها من خلال اختيار نهج انتقائي للولاءات الدينية التقليدية وترك عناصرها غير الموصلة للحياة الحديثة، أو خلق تفسيرات وروايات تعترف باحتياجات وتطلعات الإنسان المعاصر. ومن المفارقات أن إعادة تشكيل الأفراد للدِّين لا يمكن أن تتم خارج الإطار الديني التقليدي أو معزولة عن رجال الدين. إن النموّ المطَّرِد والكبير في عدد الحجاج الإيرانيين إلى المواقع الشيعية أو الإسلامية، في إيران مثل مشهد، وفي الخارج مثل مكة المكرمة، أو توسيع المساجد، أو ظهور طقوس قديمة أو جديدة أو معدَّلة، أو ظهور نمط فاخر من الممارسات والعروض الدينية، هي الدليل الدامغ على ما سبق.

إن الإرهاق الروحي للشيعة في إيران، الذي يرجع أساسًا إلى استبداد الحكومة، يمكن أن يؤدِّي إلى الإضرار بهيبة رجال الدين وزيادة عدم ثقة الشعب بمطالبة القيادة الشيعية بالسلطة المطلقة. وعلى الرغم من ذلك، لم يكُن دعم الحكومة هو الوحيد الذي لعب دورًا كبيرًا في تمكين الشيعة وتجاربها الاجتماعية، ولكن أيضًا ثورات الشعب الدينية المستمرة والعصرنة الحتمية للدين. مِن ثَمَّ فمن الجائز الادِّعاء أنه في إيران اليوم، كما هو الحال بالأمس، يستفيد رجال الدين، ولا سيما الاثنا عشرية، من الموارد المالية والبشرية، والشبكة الاجتماعية الواسعة والكيانات الشرعية التقليدية التي لا مثيل لها والبعيدة عن أي منافس. دعونا نتخيل أن الحكومة الإيرانية قررت يومًا قطع العلاقات بين المواطنين عن طريق فصل الهاتف والإنترنت، تبقى بعدها الشبكة الاجتماعية على الأرض الأمل الوحيد لإعادة ربط الشعب بعضه ببعض، كما أن هذه الشبكة المادية تملكها وتديرها السلطات الدينية، فأكثر من سبعين ألف مسجد يسيطر عليها أئمة رجال الدين، وتوفِّر معقلًا لميليشيا أساسية مجاورة، تصل سكان الطبقة الراقية في شمال طهران بالقرويين المحرومين في المناطق الحدودية النائية، كما توفّر الهيمنةُ المكانية للشيعة ديناميكيةً فريدة وقدرة لا نظير لها على تنظيم وحشد الجماهير. منذ أوائل القرن العشرين كانت جميع الحركات الجماهيرية في إيران، سواء حركة دستورية 1906، أو حركة تأميم النفط 1951-1953، أو ثورة 1979، بحاجة ماسَّة إلى رأس المال الاجتماعي الذي لا يمكن تعويضه. ودون مشاركة الشخصيات والقوى الدينية، لم يكُن بوسع أي من تلك الحركات الشعبية أن تنجح، في حين أن النخب العلمانية لا تشترك في العقلية والممارسة الدينية، فقد وجدت تلك النخب أن من الضروري أن تكون السلطات الشيعية برفقتها.

قد يجد رجال الدين الشيعة اليوم، داخل إيران وخارجها، أن الأوضاع السياسية والاجتماعية والاقتصادية الحالية غير مواتية بقدر ما يفعل الناس العاديون أو النخب العلمانية، ولو لأسباب مختلفة. مع ذلك فإن النقاد الكتابيين “للجمهورية الإسلامية” الذين يرفض بعضهم شرعية ولاية الفقيه، ولا يوافق بعضهم على مؤهِّلات قيادات خامنئي، يشعرون بقلق عميق حيال التغيير الجذري في النظام السياسي بغضّ النظر عن اسم الإصلاح أو الثورة. في جميع الحركات الجماهيرية الإيرانية الناجحة، يصوّر رجال الدين والنخب الدينية أنفسهم مستفيدين خاصِّين من امتيازات حصرية. لأول مرة في التاريخ الحديث لإيران، لا يمكنهم تَخَيُّل مكان آمن لأنفسهم في أعقاب التغيير السياسي الراديكالي، لأنه على خلاف نقاط التحول السابقة، أي إصلاحٌ ذو معنى، أي يتطلب مراجعة الدستور الحالي أو التغييرات التي تحدث من خلال الثورة أو الانقلاب، وهذا على الأرجح سيحرمهم مزاياهم التقليدية والحديثة. إن إيران الديمقراطية، التي ينتجها إصلاح حقيقي أو تطورات تخريبية، سوف تُلغِي الحقوق والسلطات الحصرية، وتعيد تشكيل الحكومة على أساس الأفكار والقيم الديمقراطية الليبرالية. في اجتماع خاصّ، وردًّا على سؤال ضيفه الإيراني عن سبب رفضه دعم الحركة الخضراء لعام 2009 لمعالجة توقُّعات آلاف من أتباعه الذين شاركوا فيها، قال المرجع الشيعي الأبرز آية الله علي السيستاني إنه يشكّ في الهدف النهائي للمتظاهرين، وقال: “إذا نجح هؤلاء المتظاهرون في الإطاحة بالنظام، فما الذي يؤكِّد أنهم لن يديروا ظهرهم لزعماء الحركة الخضراء المعوَل عليهم دينيًّا ويبحثوا عن إقامة حكومة علمانية؟”.

إضافة إلى ذلك، فإن وجود نظام عسكري بقيادة الحرس الثوري الإيراني بدلًا من خامنئي هو احتمال معقول. لقد جعلَت رغبة الحرس الثوري في الهيمنة منه منافسًا اجتماعيًّا وسياسيًّا ضخمًا لرجال الدين. كذلك يدّعي الحرس الثوري الإيراني أنه ليس جهة سياسيةً فحسب، بل أيضًا ديني، ويمثِّل المُثُل العليا للإسلام “والجمهورية الإسلامية”، ويضحي من أجل حمايته أكثر من أي كيان سياسي آخر، وتبدو خسارة رجال الدين الكبيرة في هذا السيناريو واضحة للعيان.

وضع رجال الدين الجديد

على الرغم من رأسمالهم الاجتماعي الفريد، ومواردهم المادية وشبكاتهم، فإنهم يدركون تمامًا عدم قدرتهم على استخدامها لإطلاق حركة جماهيرية جديدة تطمح إلى تشكيل نموذج مختلف للحكم الديني. لكن في الوقت نفسه قد يكون بوسعهم عرقلة القوى الاجتماعية الاقتصادية الأخرى التي تسعى للاستبدال “بالجمهورية الإسلامية”، عن طريق إما النزعة العسكرية المتسلطة وإما الديمقراطية الليبرالية. إن الديناميكية المادية والرمزية للشيعة توقف أو تبطئ تَحَوُّل البلد نحو هذه الاتجاهات. فعلى سبيل المثال لم يكُن دستور “الجمهورية الإسلامية” فحسب، بل دستور عام 1906، استثناءً في دساتير الدول الإسلامية من حيث عدم جعل الإسلام دينًا رسميًّا للبلاد، بل هو الاثنا عشرية. هذا بوضوح إنشاء أساس قانوني لإشراف رجال الدين على عملية التشريع وإجراءات إنفاذ القانون، وللحفاظ على الطبيعة الشيعية للنظام السياسي، حتى إن المرشد الأعلى حذّر الرؤساء خاتمي وروحاني من تعيين السُّنَّة في مناصب رئيسية، في حين أنه من غير القانوني منع السُّنَّة من الحصول على وظائف حكومية رفيعة المستوى، باستثناء المرشد الأعلى والرئيس، وفي مثل هذه المناصب عدد قليل جدًّا من السُّنَّة.

وبالنظر إلى ضعف المجتمع المدني ورفض رجال الدين دعم المبادرات التخريبية، فقد تستمر الاحتجاجات، لكن قد تظلّ مبعثرة، بلا زعيم، دون خطة أو رؤية دقيقة. إن مزيج الدوافع يولّد اضطرابات عفوية تزداد تشويشًا للنظام ولا تفسده. مع عدم نجاح أي إصلاح أو ثورة في “الجمهورية الإسلامية” في المستقبل القريب، قد تصبح عيوبها الأساسية مميتة. كما تكافح الطبقة الدينية الشيعية من أجل الحفاظ على الامتيازات والمواقف التمييزية المناهضة لليبرالية والمعادية للديمقراطية. بغضّ النظر عن المدى الذي يصل إليه نظام طهران من مدينة فاضلة شيعية، فإن “الجمهورية الإسلامية” هي الأمل الأخير لرجال الدين في العالم المعاصر.

مهدي خلجي

كاتب إيراني