مواجهات ابن باجه وابن طفيل وابن رشد مع الفلسفة الإسلامية والمسيحية

محمد الحمامصي
أهملوا الجانب البناء من عمل ابن رشد

أكد الروائي والباحث عبدالرشيد المحمودي أن الفلسفة الإسلامية لم تنل حظها اللائق من الاهتمام في بلادنا، لافتا إلى أن وراء ذلك عدة أسباب من أهمها أننا صدقنا بعض المستشرقين الذين ادعوا أن هذه الفلسفة ليس لها حظ من الأصالة وأنها نسخ مشوهة من مذاهب يونانية. وأصبح من الشائع في أقسام الفلسفة المصرية إعطاء الأولوية لعلم الكلام أو التصوف، أو علم أصول الفقه، وترك أمر الفلسفة الإسلامية لمستشرقين آخرين يهتمون بها ويفنون أعمارهم فى نقلها إلى لغاتهم وشرحها، ويصدرون عن الفارابى، وابن سينا، وابن رشد، أعمالا جليلة لا نظير لها بالعربية؛ ومن المثير للسخرية أن طلاب الفلسفة الإسلامية الناطقين بالعربية لا غنى لهم عن تلك الأعمال.

وأوضح في كتابه الصادر أخيرا عن الدار المصرية اللبنانية "فلاسفة الأندلس.. سنوات المحنة والنفي والتكفير" أنه من أسباب جهلنا بالفلسفة الإسلامية أننا لا نعنى كما ينبغى بدراسة الفلسفة اليونانية، وبخاصة أفلاطون وأرسطو وأفلوطين، ولا نحصل من ذلك إلا القشور. وليس من الممكن لمن لم يتقن دراسة أرسطو بصفة أخص أن يقدم دراسة جادة عن أي فيلسوف إسلامى، بما فى ذلك الغزالي الذي كان خصما لدودا للفلاسفة المسلمين.

وقال إن الفلسفة الإسلامية في الأندلس تميزت بالتركيز على فكرة التوحد وفقا لعبارة ابن ماجة، أو الاغتراب بلغة اليوم. والاغتراب وفقا لأول الفلاسفة الأندلسيين لا يعني بالضرورة رحيل الفيلسوف عن مجتمعه، بل يعني في المقام الأول أن ينأى الفيلسوف بنفسه عن الاندماج الكامل في الحياة الاجتماعية، وأن ينصرف إلى ما يمليه العقل وحده. ولم تكن تلك الفكرة جديدة في تاريخ الفلسفة، فلها أصول عريقة. ولكن يبدو أن التركيز اشتد عليها في الأندلس بسبب الاضطهاد الذي تعرضت له الفلسفة في المشرق وظل خطره قائما. ومن نشأت فكرة دراسة فلاسفة الأندلس الثلاثة (ابن باجة، وابن طفيل، وابن رشد) من هذه الزاوية التي لم تطرق من قبل.

ورأى أن الفلاسفة الثلاثة دار بينهم حوار شيق عن وضع الفلسفة المهدد في المجتمع الإسلامي بعد أن اتهم الفلاسفة بالكفر وأفلت شمس الفلسفة في المشرق؛ ومع إدراكهم أن الخطر محدق بهم لا يزال في بلادهم. كانوا جميعا يحتلون مكانة مرموقة في المجتمع، وكانوا مقربين من السلطان، ولكن يبدو أنهم كانوا يدركون ـ رغم هذه المكانة الرفيعة أو بسببها ـ أن ساعة الحسم قد حانت، فإما أن تحيا الفلسفة أو تنقرض. فكأنهم كانوا يخوضون المعركة الأخيرة – وظهورهم إلى الجدار كما يقال ـ في الدفاع عن الحكمة".

وأشار المحمودي إلى أن قصة الفلاسفة الثلاثة لا تخلو من عناصر الدراما. فلدينا ثلاث شخصيات متميزة تعيش وتعمل في ظل الخطر وتتصرف (أي تتفلسف وتكتب) بطرق تتلاقى أحيانا وتفترق أحيانا أخرى حول نفس القضية. كان ابن باجة أكثرهم وعيا بالخطر وأشدهم تشاؤما. ولم يكن ابن طفيل أقل منه تشاؤما ولكنه آثر أن يعبر عن موقفه بلغة قصصية رمزية توخيا للحذر وطلبا للأمان. أما ثالث الثلاثة ابن رشد، فقد كان هو الفيلسوف المتفائل، لا لأنه لم يكن يعي خطورة الموقف، بل لأنه كان بطلا مقاتلا في تلك المعركة، وكانت بطولته هى مبعث تفاؤله، وكانت أيضا سببا للمحن التي تعرض لها في وطنه وفي أوروبا. فقد شنت عليه في هذه الحالة الأخيرة حرب ثقافية لا نظير لها في تاريخ اضطهاد الفلاسفة، وانتهى الأمر بإقصائه إلى ركن مظلم من الذاكرة الجماعية الأوروبية؛ فلم يعد يذكر إلا على سبيل الاستهجان أو التنصل من "كفره". وأصبح الفيلسوف الذي وصف بأنه "الشارح الأكبر" (لأعمال أرسطو) هو الشيطان الرجيم في بلاد المهجر.

وأوضح أن فكرة التغرب بمعنى الانصراف إلى ما يقوله العقل اتخذت شكل إعادة النظر في الفلسفة المشرقية بهدف الدفاع عنها. يظهر هذا بصورة عابرة في نقد ابن باجة للغزالي، ثم يتضح بصفة خاصة في قصة "حي بن يقظان" لابن طفيل التي استعرض فيها فلسفة ابن سينا الإشراقية وهو يروي تطور البطل (المتوحد) بداية من مرحلة أرسطية إلى مرحلة أفلوطينية يختتم بها مسيرته نحو تعلم الحكمة وحده والتوصل إلى أعلى حقائق الدين والفلسفة، والتيقن من تطابق الجانبين. كما نرى ذلك في الجدل المفصل الذي أداره ابن رشد في تهافت التهافت ضد الغزالي. فكأن الفلاسفة الثلاثة كانوا يدركون أنهم أصبحوا في الموقع الأخير على الساحة، وأن عليهم بعد أن صارت ظهورهم إلى الجدار أن يقدموا أفضل دفاع عنها.

وقال "اكتفى ابن باجة إلى التلميح في نقده لحجة الإسلام. وفضل ابن طفيل أن يعبر عن دفاعه بلغة الخرافة والرمز. أما ابن رشد ثالث الفلاسفة الأندلسيين، فقد رأى أن يخوض معركة الدفاع عن الفلسفة في العلن وأن يتصدى صراحة للغزالي ولخصوم الفلسفة. إلا أن هذا الموقف البطولي قضى عليه بأن يكون هو المغترب الأكبر. فقد أحرقت مؤلفاته ونفي عن بلاده. ثم تغرب مرة أخرى عندما انتقلت أعماله إلى أوروبا مترجمة إلى اللاتينية، وأساء فهمه الأوروبيون عن قصد أو غير قصد، وتنكروا له، ورموه بأشنع التهم، وأغفلوا في النهاية ذكره وتجاهلوه".

وتساءل المحمودي: كيف يمكنننا في ظل هذا التغييب أن ندلل على أن ابن رشد أثر - كما يقال مرارا وتكرارا - على الفلسفة الأوروبية وأنه أسهم في تجديدها؟ وأكد أنه ليس هناك من إجابة شافية. وكتاب فصل المقال الذي هو أكثر أعمال ابن رشد رواجا وقراءة نظرا لسهولته البادية وإيجازه لا يهدي إلى تلك الإجابة، ولو على سبيل البداية. فهو كتاب برنامجي، أي أن مؤلفه قدم فيه وصفا موجزا لبرنامجه الفلسفي كما اعتزم تنفيذه أو كما نفذه بصفة جزئية، وهو لا يقدم بالضرورة عرضا دقيقا لمذهب المؤلف وطبيعة ما حدث أو ينبغي أن يحدث. بل ان أقوال المؤلف في الكتاب لا تخلو من الالتباس. فهو يحاول مثلا أن يمد جسرا بين الشريعة والفلسفة عندما يرى أن الأولى تستوجب النظر في الموجودات من أجل الاستدلال على حسن صنعة الصانع العظيم (الله) وحكمته. وهو يحاول أن يقرب الشريعة من الفلسفة عن طريق التأكيد على أنها (أي الشريعة) تتبع لغة العقل والبرهان.

ويتأكد هذا المعنى عندما يرى ابن رشد أن الفلسفة (فلسفة أرسطو على وجه التحديد) تتضمن دليلين (إسلاميين) هما دليل العناية (الإلهية)، ودليل الاختراع (أي إيجاد الله للموجودات). ويبدو من هذه الأقوال أن التطابق أو الانسجام بين الجانبين قائم وثابت.

وأوضح "ذلك هو الانطباع الذي يخرج به قارئ الكتاب. ولا يخامر القارئ أي شك في ذلك الانسجام حتى عندما يرى أن ابن رشد يعترف بأن الشريعة والفلسفة قد تتعارضان أحيانا، لأنه يعتقد أن التعارض ظاهري، ويمكن إزالته عن طريق التأويل - أي تأويل نصوص الشريعة - وعندئذ يتبين أن هناك تطابقا عميقا بين الجانبين، وأن للشريعة ظاهرا وباطنا، وأن هذا الباطن عقلاني (أو برهاني وفلسفي)، لولا أن الشريعة تخاطب فئات مختلفة من المتلقين وتستخدم في مخاطبتهم أساليب مختلفة في الإقناع، بعضها برهاني وموجه إلى الخاصة من العلماء، وبعضها مجازي مناسب لمن هم دون ذلك من حيث القدرة على الفهم. ولكن الحقيقة في نهاية الأمر واحدة، وهي عقلانية، وما باطن الشرع وظاهره إلا وجهين لحقيقة واحدة.

ورأى المحمودي أن هذا الانطباع يخفى حقيقة عمل ابن رشد وطريقته في تنفيذ برنامجه. وكتاب فصل المقال لم يترجم على أي حال إلى اللاتينية، ولا يمكننا بالتالي أن نعتمد عليه في فهم أسباب معاداته في أوروبا، ولا في اكتشاف تأثيره على الأوروبيين. ومن ثم كان اعتمادنا في هذا البحث على شرح ابن رشد لأرسطو، وذلك على سبيل الأولوية. فهنالك نكتشف أن التطابق الذي يرى مؤلف فصل المقال أنه قائم أو يثبت قيامه بين الشريعة والفلسفة عن طريق التأويل لا يكفي أحيانا لتحقيق الغرض.

وتبين لنا من خلال الدراسة الفاحصة لذلك الشرح على أن المنظومة الكونية الأرسطية تخلو من فكرة العناية وفكرة الاختراع. فإله أرسطو مكتف بذاته لا يفعل شيئا سوى التفكير في ذاته – أي أن علمه لا يخرج عن نطاق ذاته – وأنه لا يخلق ولا يخترع ولا يصنع شيئا ولا يسخر شيئا لخدمة الإنسان، وأن كل تلك الأفكار غريبة على أرسطو ومفروضة عليه. وقد تأكد لدينا ذلك عندما رأينا كيف حاول ابن رشد في بعض أعماله الأخرى – مثل تهافت التهافت - إدراج عنصر العناية الإلهية في تلك المنظومة عن طريق مفهوم العلم الإلهي. وهو علم منغلق على ذاته كما قلنا، ولكن أرسطو تغلب على هذه العقبة عندما رأى أن علم الله خلاق يوجد الأشياء أو يخترعها ويوجهها نحو غاياتها ويسخرها لخدمة الإنسان بمجرد التفكير فيها. ولا بد من الاعتراف بأن هذا الحل يتميز بالبراعة والحذق، ولكنه يعني أن تأويل نصوص الشريعة غير كاف للتدليل على انسجامها مع الفلسفة، بل ان الأمر يقتضي تنقيح فلسفة أرسطو بحيث تنسجم مع الإسلام. وذلك ما فعله ابن رشد مرارا لأن شرحه على أرسطو أظهر أكثر من مرة وجود تباين بين الجانبين.

ونبه إلى أنه أيا ما كان الحكم على مدى نجاح ابن رشد في عملية التنقيح ـ وهي الجانب البناء من برنامجه ـ فينبغى التأكيد على أن الجانب النقدي أو السلبي من هذا البرنامج كان مهما بصفة خاصة لأنه أبرز التباين بين الشريعة والعلم (كما تمثل في فلسفة أرسطو بعد تنقيتها وظهورها كمذهب طبيعي علمي)، وكانت هذه التفرقة ـ هذا الفصل بين الطرفين ـ بداية لاستقلال العلم عن الدين وهيمنة السلطات الكنسية. وكان ذلك الجانب من عمل ابن رشد وما أدى إليه من فصل للعلم عن الدين هو ما تنبه له بسرعة علماء اللاهوت المسيحيون وركزوا عليه نيرانهم، وأهملوا الجانب البناء من عمل ابن رشد إما بسبب الجهل أو التجاهل. ومن ثم كانت الحملة العدائية ضد ابن رشد وضد أتباعه الرشديين دون تفرقة بين هذا وذاك.

وقال المحمودي إن الثقافة الأوروبية المسيحية تنبهت للجانب السلبي من عمل ابن رشد وأغفلت لسبب أو لآخر الجانب الإيجابي البناء. يستوي في ذلك أتباعه وخصومه، أي علماء اللاهوت المسيحيين، فقد قرأوه جميعا قراءة جزئية وبسطوه تبسيطا مخلا عن علم أو عن جهل، وعن قصد أو غير قصد، وأسهموا في تشويه سمعته، وفي استبعاده في النهاية من دائرة الاهتمام.

ومما يقال في هذا الصدد لالتماس العذر لهم أن أعمال ابن رشد التي يعرض فيها فلسفته (في مقابل شرح أعمال أرسطو) لم تترجم إلا في مرحلة متأخرة، أو لم تترجم إلى اللاتينية على الإطلاق. ولكن ذلك لا يغير من الأمر شيئا. فقد كان ينبغي على من قرأوا شروح ابن رشد في المرحلة المبكرة أن يتمهلوا في الحكم عليه بوصفه شارحا لآراء غيره (وشارح الكفر ليس بكافر كما نقول). يضاف إلى ذلك أن الحكم المتسرع الذي أدان ابن رشد في المرحلة المبكرة هو الحكم الذي استقر في الثقافة الأوروبية حتى بعد أن ترجمت أعماله الفلسفية.

وأكد المحمودي أن علماء اللاهوت المسيحيين تنبهوا في وقت مبكر للعلامات التي تنذر بتصدع البنيان الثقافي السائد تحت سيطرة الدين وهيمنة الكنيسة. وكان الأمر شبيها بظاهرة الانجراف القاري عندما تتصدع قارة فينشق جزء منها لينجرف بعيدا عنها ـ هي القارة الأم - ويشكل قارة أخرى بمفردها.

ولقد كان هؤلاء العلماء بعيدي النظر عندما رأوا أن الأمر يستدعي اتخاذ إجراءات سريعة وحازمة - تكتيكية واستراتيجية مضادة ـ لتطويق الخطر ورأب الصدع قبل فوات الأوان وتلافيا لما هو أسوأ. وقد حدث ما هو أسوأ عندما أصبح الرشديون اللاتينيون في المرحلة المتأخرة من حضورهم، أي في إيطاليا، يجهرون بآرائهم ويعلنون ولاءهم لابن رشد، ويجنحون إلى مزيد من التطرف. وظهرت حركات أخرى تعمل على استقلال العلم ـ حتى وإن عادت "الرشديين اللاتينيين" لسبب أو لآخر ـ إلى أن وقعت ثورة العلم الحديث.