الحريات والتنوع الثقافي: بين الحد الأدنى والأقصى

في أوقات الاستقطاب المجتمعي الداخلي الذي يصحبه مرحلة تحولات إقليمية ساخنة كالتي تشهدها مصر والمنطقة العربية، يجد المرء نفسه في حاجة لإعادة تعريف العديد من البديهيات واستحضارها للمقدمة، منها مفهوم الحريات والمبادئ الحاكمة لها، وكيفية دمجها في ثقافة المجتمع ومنظومة قيمها الحاكمة.

لنبدأ بالصعب؛ هل الحريات وتنوع وجهات النظر أو مكونات الهوية أيا كانت، ضد وجود مشروع مركزي سائد للبلاد او النخب المعبرة عنها؟ بمعنى إذا كان دستور البلاد يقول بأن ديانة الأغلبية هى الإسلام، فهل حرية أقباط مصر تكون منقوصة في ظل الإقرار بوجود نمط سائد مغاير يخص الأغلبية المسلمة؟

وبالمثل هل وجود التنوع البدوي في سيناء والأمازيغي في غرب مصر والنوبي في الجنوب، يعد درجة اقل من المكون التقليدي السائد للمصريين وعاداتهم على ضفتي النيل والدلتا؟

وإذا أخذنا الأمر لمستوى أكثر تعقيدا؛ وقلنا أن للبلاد –ككل البلاد- مجموعة من الاختيارات المعرفية والثقافية السائدة لدى نخب تعتنقها سواء عن قناعة أو لتدخل ضمن منظومة "الدمج والتسكين" والمصالح التي ترتبط عادة باختيارات السلطة الحاكمة، فما هو مصير التنوع وحرية الاختيارات المعرفية والثقافية المغايرة الخاصة بنخب أخرى؟

بمعنى إذا كان النمط السياسي السائد في البلاد يقول بالاشتراكية، فما هو مصير من ينتمي لنمط تنوع آخر يقول ربما بالرأسمالية أو طريق ثالث بينهما، أو من يرفض التسميات تلك وينادي بتسمية تنتمي لموروث عربي إسلامي ما؟

أو إذا كان النمط الأكاديمي السائد في البلاد يدعم اختيارات ما بعد الحداثة والفصل بين الأدب والعلم وسياقه الاجتماعي، وهناك نمط مغاير يدعم عودة الادب والمعرفة للسياق الاجتماعي، فما الموقف وحدود التنوع بينهما؟

وكذلك إذا كانت النخب السائدة تدعم نوعا ما من الشعر كـ"قصيدة النثر" مثلا، وترفض اتجاها شعريا آخر لا يؤمن بالقطيعة المعرفية ويعتقد في الجماعة وقيمها، فما هو الموقف بين التيار السائد والتيار المغاير؟

أعتقد أن مبادئ الحريات وقبول التنوع الثقافي بشتى تمثلاته هى معيار الحكم هنا على مجتمع ما، خاصة في وضوح الحدود بين ما هو شخصي ضيق وبين ما هو جماعي معلن.. وقدرة منظومة قيم ما في التعبير عن "مستودع هوية" البلاد؛ سواء في حدها الأدني أو الأعلى، وما بينهما.

بداية، إن الفطرة الإنسانية ستقول بأن الإنسان اعتاد ستر نفسه وارتداء الملابس، ولكنها ستقول أيضا بحرية اختيار نمط هذه الملابس. فاختيار نمط الملابس يعد مصدر تنوع ثقافي ومجتمعي. ولكن إذا كان هناك من يدعو للتخلي عن الملابس فهو هنا يمثل كسرا للطبيعة التاريخية للمسار الإنساني وردة عليه، قد ترى بعض المجتمعات الناضجة تركه ليدعو لما يقول به، وسترى بعض المجتمعات كمجتمعنا أنه طالما لم يخرج للناس بدعواه فلا ضرر ولا ضرار.

فبيت القصيد هنا أن التنوع والحريات يكون في ظل الحد الأدنى والحد الأعلى لقيم المجتمع التاريخية، أما ما يخرج عن تلك القيم فلا يعد تنوعا في الغالب، ولكن قد يعد اختيارا خاصا لبعض الأفراد نتيجة مرورهم بظروف خاصة، حيث سيرفض المجتمع محاولتهم تعميم الظرف الخاص الذي مروا به والدعوة له، وفرضه كاختيار على الجماعة لا يتفق مع مجمل الظروف العامة للمجتمع المصري.

فمثلا ستختلف درجة قبول المجتمع لأشكال الزواج بين الرجل والمرأة، ومدى قبول التغيير فيها، وذلك يعد تنوعا ثقافيا واجتماعيا يخضع للحوار المجتمعي، ولكن كسر الطبيعة البشرية ومحاولة إقامة علاقة شاذة بين الأفراد من الجنس نفسه، لا يعد تنوعا، خاصة في سياق المجتمعات الشرقية العربية.

وفي الفنون والإبداع، لديك تنوع تقليدي في أشكال الفن المكتوب ما بين القصة والرواية والمسرح والشعر والسينما، ثم لديك حرية الخلط بين التقنيات تلك. لكن تظل مساحة الاختلاف في كسر "التابو" الاجتماعي وطرق التعبير عنه، سياسيا ودينيا وجنسيا، فهناك من يملك القدرة على التعبير عن أزمة اجتماعية ما بشكل فني لا يصطدم مع العرف وتقاليده، لكن هناك أيضا من سيختار أن يصدم المجتمع بمجموعة من التعبيرات التي قد تكسر التابو.

هنا ستدخل في أزمة كسر منظومة قيم المجتمع التي قد يعتبرها البعض وسيلة للاحتجاج والتمرد، لكن البعض الآخر سيرفض التصريح بها بدعوى وضوح السياق، ويظل الحوار المجتمعي وتلقي الناس والفعل والفعل المضاد، هو أحد معايير الضبط هنا، وفي ذلك تختلف المدارس الفنية أيضا، فكلما عجز المجتمع عن التعبير عن هويته واتساقه مع نفسه، زادت رغبة البعض في التمرد والاعتراض من خلال الصدمة استسهالا، في مواجهة تيارات أخرى ستتبنى التعبير عن أزمة المجتمع بطريقة أخرى.

وكذلك الأمر في سياق التنوع الديني، فمثلا في مجتمع يؤمن بالأديان السماوية، ستكون حدود التنوع مقصورة على الرسالات السماوية، ويظل اختيار الخروج عليها اختيارا متاحا طالما لم يتحول الأمر لفكرة التبشير بذلك، وتبنى دعوة الناس للخروج على اختياراتها التاريخية بتنوعها المستقر عليه، فالمُحدد هنا هو مساحة الفردي واحترامها لاختيارات الجماعة.

إذن إجمالا نحن نتفق على قبول التنوع في القيم الثقافية، ونتفق على مساحة التنوع في الحد الأدنى والأعلى لقيم المجتمع.

لكن تظل معضلة التغلب على فترات الاستقطاب كالتي تمر بها البلاد. فمن سمات مراحل الاستقطاب الحاد الذي تمر بها بلادنا أن كل جماعة ما، تتزيد في مواقفها وتتطرف في التعبير عن اختياراتها ويكثر اللانتهازية ودعاة المصالح الفردية والفئوية، من هنا تكون ضرورة ظهور "كتلة جامعة" تؤكد على القيم الأساسية المشتركة للبلاد مجددا، بكافة مستويات التنوع الحاضرة فيها.

استعادة القيم الأساسية، والحد الأدنى والأقصى المقبول اجتماعيا وتاريخيا وفق "مستودع هوية" البلاد ودورها في حاضنتها التاريخية، هي السبيل لمجتمع مصري فعال يسعى لتحقيق نهضته الحضارية القديمة، وتنصهر فيه وتُدمج مفاهيم الحريات وقبول التنوع الثقافي الواسع في شتى مظاهر الحياة وفعالياتها.