إنجو شولتسه يرصد صدى انهيار جدار برلين في 'قصص بسيطة'

محمد الحمامصي
طبعة جديدة مُراجَعة ومُنقحة ومزودة بمقدمة خاصة

قدم الكاتب الألماني إنجو شولتسه - أحد أفضل روائيي جيله في ألمانيا - لروايته "قصص بسيطة: رواية من ألمانيا الشرقية" - في طبعتها العربية، والتي ترجمها الكاتب سمير جريس وصدرت أخيرا عن دار العربي - برؤية كاشفة لملامح تجليات الكتابة وخصوصيتها لديه، والتأثيرات التي أحاطت بتكوينه الثقافي النشأة سواء كانت اجتماعية أو سياسية، وقد بدأ من تساؤلين رأى أن أن أحدهما يفضي إلى الآخر الأول: لماذا أكتب؟ والثاني: لماذا تقرأ؟

وقال: "لقراءة والكتابة لهما الدافع نفسه بالنسبة إلي، حتى وإن كانت الكتابة هي مورد رزقي. إنني أقرأ حتى لا أبقى وحيدا مع خبرات معينة، خبرات لا يمكن وصفها أو التعبير عنها إلا من خلال قصص وقصائد وأغان وروايات ومسرحيات، وهي خبرات لا أستطيع الإحاطة بها عبر حديث شخصي أو مقالة علمية".

وفيما يخص الكتابة أضاف: "إنني أعشق أن أدخل كقارئ في عالم الشخصيات، مثلما تدخل الشخصيات إلى عالمي. لا تختلف الكتابة عن ذلك، الفارق الوحيد هو أن عليَّ أن أعثر على شخصياتي أولا. ولكن عندما تبدأ الشخصيات في التحدث، أصبح أنا نفسي متشوقا لمعرفة في أي اتجاه ستسير. في بعض الأحيان تكون خاتمة القصة أو الفصل هي التي أعرفها في البداية. عندئذ يثير اهتمامي أن أعرف كيف ولماذا وصلت شخصياتي إلى هذه الخاتمة؟ ولا يقل الأسلوب أهمية عن الشخصيات، نبرة الصوت التي أكتب بها. هل وجدت أسلوبا ملائما لمكان أو زمن ما؟ عندئذ تتحرك الشخصيات والأشياء في اتجاهي، فوجودها لا ينفصل عن الأسلوب".

وأضاف إنجو شولتسه موضحا الطريق الذي أدى به إلى كتابة هذه الرواية "البلد الذي ولدت ونشأت فيه كان ينتمي دائما، هكذا أعتقد، إلى الشرق. وفجأة، بين عشية وضحاها بالمعنى الحرفي للكلمة، أصبحتُ - دون أن أتحرك من مكاني - أسكن في الغرب. من لحظة إلى أخرى بدأ تقييم كل شيء من جديد: المهنة، قدرات الإنسان ومهاراته، العائلة، ظروف السكن، السيارة. بدا آنذاك أن النقود أصبحت عمليا هي المعادل لكل شيء. أما الشأن السياسي الذي تسيد حياتنا اليومية بشكل مباشر، فقد بدا وكأنه اختفى. كنت قد خرجت إلى الشارع مع مَن شاركوني التوجهات نفسها من أجل شيء آخر تماما غير ذلك الذي أفرزته في النهاية ثورة عام 1989.

تغيرت مفاهيم الحرية والتبعية، واكتشفنا أن الشأن السياسي غيَّر من ردائه فحسب، وأنه يسيطر على حياتنا اليومية الآن بشكل أكثر لطفا فقط، وذلك عبْرَ ما أُطلق عليه الضرورات الاقتصادية والأدوار التقليدية للجنسين والتصورات الدينية وصناعة تسلية ضخمة. كان عليَّ أن أتلمس طريقي في هذا العالم الجديد. فعلت ذلك بكتابة قصص قصيرة تقليدية. وبعد أن تجمعت لدي نحو عشر قصص، بدأت أربط بعضها ببعض. تساءلت: من المرأة التي يمكن أن تكون الراوية في هذه القصة، ومن الرجل الذي يمكن أن يكون الراوي في تلك؟ رسمت مربعات، ورحت أصل فيما بينها، وأحذف بعضها، وأختار تنويعات أخرى. ظللت أفعل ذلك حتى أصبحت كل القصص متصلة ببعضها البعض، إما على نحو مباشر أو غير مباشر. تلك الأمسية كانت إحدى أجمل الأمسيات في حياتي ككاتب. وفجأة كان لديَّ عائلتان، آل "شوبرت" وآل "مويرر"، وبعد ذلك "باربارا هوليتشيك" التي تدعي أنها قامت بدهس "جربوع".

وأشار كقارئ يدخل المرء في عالم لا بد أن يقوم بتركيبه كأنه "بَزل". لكن ذلك يعادل أيضا الخبرة التي يمر بها الإنسان عندما يصل لأول مرة إلى مدينة، أو إلى مصنع أو إلى مدرسة. المرء لا يتعرف على السياقات والعلاقات إلا تدريجيًّا. وكثير مما يعرفه الآخرون في تلك اللحظة، يكون مجهولا بالنسبة إلى الوافد الجديد. بعض الأشياء ينساها المرء ثانية. ولكن كلما زاد انتباهه، اكتشف علاقات وارتباطات أكثر.

وختم إنجو شولتسه مقدمته قائلا "بالطبع أسأل نفسي: لماذا كتبت قصصي عن ألمانيا الشرقية بأسلوب القصص القصيرة الأميركية تحديدا؟ أحد التفسيرات الممكنة: بحدوث الوحدة النقدية في الأول من يوليو/تموز 1990 أصبحنا فعليًّا، وبين يوم وليلة، جزءًا من الثقافة المتأثرة بأميركا في خاتمة المطاف. بين عشية وضحاها أصبحنا نعيش في نظام رأسمالي. المواقف التي وجدت شخصياتي نفسها بداخلها، من الممكن أن تحدث هكذا، أو على نحو مشابه، في كل مكان من العالم الذي يطلقون عليه عالمًا غربيًّا. إنها مواقف بسيطة. غير أن الشخصيات تعلمت قواعد أخرى للعب غير تلك القواعد التي أصبحت فجأة سارية. رد الفعل على الضرورة يختلف عن ردة فعلهم لو كانوا وُلدوا في الغرب. المرء يلاحظ عليهم البهجة والصدمة، الاندهاش والقلق الذي تركه عليهم هذا التغيير من عالم إلى آخر. وأعتقد أن الخبرة التي يكونها المرء في فترة التحولات تلعب دورا في مصر أيضا، في حياة كل امرأة وكل رجل".

أما مقدمة المترجم الكاتب سمير جريس فألقت الضوء على الرؤية التي حملتها "قصص بسيطة" أو كما أطلق عليها رواية "الربيع الألماني" انطلاقا من انهيار جدار برلين الحصين الذي وقع بسبب سوء التفاهم، أو زلة لسان "جونتر شابوفسكي"، المتحدث الرسمي باسم الحزب الحاكم، ليذيع الصحفيون نبأ السماح لمواطني ألمانيا الشرقية بالسفر، ويتدفق الآلاف إلى حدود ألمانيا الشرقية وإلى جدار برلين العتيد. وسرعان ما انهار جدار برلين، بل وسقط المعسكر الشرقي بأكمله.

وأضاف جريس: الآن، بعد مرور نحو ثلاثين عاما على ذلك الحدث التاريخي، وبعد إتمام الوحدة بين شطري ألمانيا في الثالث من أكتوبر/تشرين الأول 1990، يتساءل كثيرون: ماذا بقيَ من ألمانيا الشرقية؟

في الحقيقة لم يبق الكثير. أو لم يبق شيء. الجدار الذي كان يفصل بين برلين الشرقية والغربية أُزيل بكامله ولم تبق منه سوى أجزاء صغيرة يقصدها السياح. الاقتصاد الاشتراكي تحول برمته إلى الرأسمالية، وتم بيع منشآت القطاع العام إلى مستثمرين (غربيين) من القطاع الخاص. المباني المتهالكة في المدن الشرقية رُممت أو هُدمت وبُنيت مكانها أبراج إدارية تملكها في الغالب شركات غربية. كل هذا ولَّد الانطباع لدى الألمان الشرقيين بأن بلادهم راحت ضحية الخصخصة، وأن الغرب الرأسمالي اشترى الشرق الاشتراكي.

ومن ناحية أخرى استمتع الألمان الشرقيون بالحرية، حرية السفر وحرية التعبير عن الرأي، وحرية النشاط السياسي، كما ارتفع على الفور مستوى المعيشة بعد تغيير العملة والتحول إلى المارك الألماني الغربي. فُتحت السجون، وتحول بعضها إلى متاحف تُذكِّر بفظائع الحكم الشمولي في ألمانيا الشرقية، كما فُتح أرشيف جهاز المخابرات (شتازي)، وبات بإمكان المواطن أن يقرأ التقارير التي كان يرسلها إلى الجهاز جيرانه وأصدقاؤه، بل وأحيانًا أفراد عائلته، مثلما رأينا في فيلم "حياة الآخرين" الذي أخرجه "فلوريان فون دونرسمارك" عام 2006، وبرع فيه الممثل "أولريش موهه" في تجسيد دور ضابط المخابرات البارد الخالي من المشاعر الذي يتفانى في تأدية عمله بقناعة كاملة.

وقال سمير جريس: بمرور الوقت شعر عديد من الألمان الشرقيين بالحنين، الحنين إلى تلك الأيام القديمة التي ربما لم تكن جميلة، ولكنها على الأقل كانت أكثر بساطة. وسرعان ما انتشرت "النوستالجيا" الشرقية، فكثرت البرامج التلفزيونية والأفلام والكتب التي راحت تمجد تلك الفترة وكأنها كانت فترة ذهبية، وربما كان منبع ذلك شعور كثيرين بالإحباط لما حدث بعد الوحدة من هزات اقتصادية واجتماعية، تماما مثلما يحن البعض في مصر بعد الثورة إلى فترة حكم مبارك، أو حتى إلى عهد الملكية. هذا الحنين موجود لدى كل الشعوب التي تمر بخبرات تاريخية مشابهة. وهذا ما جعل الفيلم الألماني "وداعًا لينين" الذي أخرجه "فولفجانج بيكر" عام 2003 ينجح نجاحًا ساحقًا، ويجتذب إلى قاعات السينما ستة ملايين مشاهد في ألمانيا. ينتقد الفيلم الاشتراكية و"يودع" شيوعية "لينين"، لكنه يثير في كثير من مشاهده الحنينَ إلى التضامن الاجتماعي في "العهد البائد".

وأوضح: انهارت ألمانيا الشرقية، وفرح كثيرون بزوال الديكتاتورية وسجونها، كما فرحوا باقتراب الرخاء الاقتصادي، لكن كثيرين أيضا أصابهم الحزن، لأنهم كانوا مقتنعين بالنظام الاشتراكي، رغم كل مساوئه.

آنذاك كتبت الأديبة الألمانية الشرقية الكبيرة "كريستا فولف" (1929 – 2011) إلى كبير أدباء ألمانيا الغربية "جونتر جراس" رسالة ترثي فيها وطنها القديم الذي اختفى من الخريطة: "لقد أحببت هذا البلد للغاية. كنت أعرف أنه يعاني سكرات الموت لأنه كان يلفظ أفضل مواطنيه، ولأن ضحاياه كانوا كثرًا".

كان "جونتر جراس" (1927 - 2015) من منتقدي الوحدة الألمانية، لا سيما الطريقة التي تمت بها. آنذاك قال مقولته الشهيرة: "العملاق (ألمانيا الغربية) يريد أن يصبح وحشًا". كان صاحب "طبل الصفيح" يفضل حدوث وحدة كونفيدرالية بطيئة بين ألمانيا الشرقية والغربية، لا أن يستولي "المستعمرون الغربيون" على ألمانيا الشرقية بين عشية وضحاها. وقد أثارت آراء جراس انتقادات كثيرة، لا سيما في الشطر الغربي من ألمانيا. غير أن كُتَّابا عديدين اتفقوا معه على انتقاد طغيان الجانب الاقتصادي على الوحدة الألمانية، ولعل أبرزهم هو الروائي (الألماني الشرقي) "إنجو شولتسه" الذي يصور في هذه الرواية اللقاء مع الغرب على أنه اغتصاب للشرق (الفصل الثاني: "نقود جديدة").

ولفت جريس إلى أن "إنجو شولتسه" في عديد من أحاديثه الصحفية عبِّر عن شعوره بالإحباط من سيطرة الاقتصاد على الحياة في ألمانيا الموحدة. هذا ما قاله مثلا في الحوار الذي أجراه معه في برلين الروائي الراحل جمال الغيطاني. في ذلك اللقاء – الذي توليت فيه الترجمة بين الأديبين - أبرزَ شولتسه المكانة السامية للغة في ألمانيا الشرقية، في حين أن الأرقام كانت تحتل المكانة العليا في ألمانيا الغربية: "المهم أن تكون الأرقام مضبوطة"، يقول "شولتسه". ("أخبار الأدب" في 24 مايو/آيار 2004). هذا الصراع المرير الذي خاضه الألمان الشرقيون مع الأرقام، ومع اقتصاد السوق الحر نقرأ تفاصيله في أولى رواياته "قصص بسيطة" التي نشرت عام 1998، وحققت بمجرد صدورها نجاحًا باهرًا في ألمانيا وفي العالم، وترجمت في غضون سنوات قليلة إلى أكثر من عشرين لغة. واليوم يجمع النقاد الألمان على أنها من أفضل المعالجات الروائية لموضوع الوحدة الألمانية.

تتكون الرواية من 29 "قصة"، أو تسعة وعشرين فصلا، تدور أحداث معظمها في مدينة "ألتنبورج" الصغيرة في شرق ألمانيا. هناك عاش "شولتسه" من 1988 حتى 1992، وهناك عمل مُعدًّا مسرحيًّا (دراماتورج)، ثم أسس صحيفة أسبوعية عمل فيها محررا، قبل أن يؤسس صحيفة أخرى تعتمد على الدعاية والإعلانات. في "ألتنبورج" شارك المواطن "شولتسه" مع أعضاء التجمع السياسي "المنتدى الجديد" في المظاهرات التي اندلعت عام 1989 للمطالبة بإصلاحات في النظام الاشتراكي، وهناك عايش البداية الجديدة بعد الوحدة.

تشكل تلك الفترة الخبرة الحاسمة لدى الكاتب "إنجو شولتسه". آنذاك آمن كثيرون بحدوث المعجزات، وانتظروا غدًا أفضل، أفضل في كل شيء. ولكن سرعان ما أصابهم الإحباط.

مَن يقرأ أعمال "شولتسه" يدرك أنه احتفظ لنفسه بمسافة نقدية، فلم يبالغ في التحمس، ولم يبلغ إحباطُه حدَّ اليأس. لن يجد قارئ "قصص بسيطة" سردا لتاريخ ألمانيا الشرقية، أو عرضا لأهم الأحداث التي أدت إلى انهيار سور برلين، بل إن كلمات مثل "الوحدة" أو "جدار برلين" أو اسم الحزب الحاكم لن ترد في الرواية مرة واحدة. ليس دور الأدب - هذه هي قناعة "شولتسه" - أن يكون بديلا لكتب التاريخ أو علم الاجتماع. ما نقرأه هنا هو صدى الأحداث التاريخية، وتأثيرها على حياة الفرد، دون كلمات كبيرة. "شولتسه" يلمح ولا يصرح، وكتابته - كالحياة - مفتوحة على تأويلات عديدة.

يحكي "شولتسه" عن البسطاء الذين لم يستطيعوا التأقلم مع تلك التحولات، وعن الذين عرفوا كيف يقتنصون فرص الواقع الجديد، ويبين أن الوحدة لم تكن النهاية السعيدة لكل مواطني ألمانيا الشرقية. الأسئلة التي يجيب عنها "شولتسه" روائيا هي: كيف عاش المؤمنون بالاشتراكية في ألمانيا الرأسمالية الموحدة؟ ماذا يفعل مَن فقدَ عمله بين يوم وليلة؟ الأستاذ الجامعي الذي يجد نفسه فجأة يعمل مندوبا للمبيعات؟ كيف واصل العاملون في جهاز المخابرات الشرقي (الشتازي) حياتهم بعد الوحدة؟ ماذا كانوا يفعلون عندما يقابلون ضحاياهم؟ ماذا يفعل "المخبرون" بعد أن افتضح أمرهم؟ ماذا يفعل مَن تعرض لظلم "الشتازي"، خصوصا إذا عرف مَن وشى به؟

"شولتسه" يصف بدقة مشاعر سكان مدينة "ألتنبورج" الشرقية الصغيرة، ويظهر لنا تمزقهم الداخلي، ويصف الشعور بالحيرة وفقدان الوعي، كما يصور الهلع الذي استولى على كثيرين.

صدرت ترجمة "قصص بسيطة" في طبعتها الأولى عام 2004 عن المشروع القومي للترجمة بالقاهرة، ولكنها للأسف الشديد لم تلق الاهتمام الذي تستحقه بسبب التوزيع السيء لمطبوعات المشروع، وربما أيضا بسبب البنية الروائية غير المألوفة لدى القارئ. لذلك أشعر بسعادة خاصة لظهور طبعة جديدة مُراجَعة ومُنقحة ومزودة بمقدمة خاصة من المؤلف، بالإضافة إلى مقدمة المترجم. وتيسيرا على القراء، وحتى لا يفقد القارئ طريقه بين زحام شخصيات الرواية (نحو 40 شخصية)، فقد أعددت لهذه الطبعة قائمة بأهم الشخصيات، يستطيع القارئ، إذا أراد، الرجوع إليها في أي وقت.