'الأبناء لهم أجنحة' وتغيّر الوعي الجمعي

صيغة سردية لها حضورها في قصة الطفل

تُمثـِّل رواية "الأبناء لهم أجنحة" للكاتب الكبير يعقوب الشاروني، إحدى الروايات التي أفرزها التطورُ التكنولوجى الذى وصلتْ إليه البشريةُ في الألفيّة الثالثة، فهي من الرواياتِ الأولى في أدبِ الطفلِ، التي حرصتْ على تقديمِ أفكارٍ أيديولوجيةٍ عصريةٍ بلمساتٍ فنيةٍ تتناسبُ مع طفل التكنولوجيا الرقمية، الذي يختلفُ فى إدراكِهِ، وتصوراتِهِ، واهتماماتِهِ عن طفل مرحلة (ما قبل الرقمية).

ويستطيعُ الطفل إدراك ذلك بصورة مباشرة من خلال تفاعله مع غلاف الرواية، الذي تشكَّل فنيًا من رسومات تصويرية تُحِيل مباشرةً إلى عالم الكمبيوتر، بصورة تعطي انطباعًا أوليًا لدى القارئ بأنّ العالم الرقمي سيكون له دورٌ مؤثرٌ في صناعة الأحداث وتحريكها فنيًا.

من هنا قد يتساءلُ القارئ الطفل (في حالة كونه قارئًا إيجابيًّا): هل لشاشة الكمبيوتر الموجودة على غلاف الرواية علاقةٌ مباشرة بهؤلاء الأطفال الذين يحيطون بها، ويجلسون أمامها؟ وما طبيعة الأجنحة التي سعت القصة إلى تقديمها دلاليًّا وفنيًّا؟ بمعنى آخر: هل هناك دلالات إيحائية تمّ تضمينها في هذا العنوان لتحقيق هدف ما، يسعى الكاتب إلى ترسيخه في عقل قارئه الصغير؟ وهل الأمر له علاقة مثلاً بالحرية الإبداعية التي تتاح للطفل حاليًّا في عصر التكنولوجيا الرقمية، تلك التي تجعله يسبح في فضاء مفتوح لا نهاية له؟

تُعَدّ هذه التساؤلاتُ التخيّليّةُ لونًا من ألوانِ التفاعلِ القرائِي الذي يحرصُ القارئُ على إيجادِهِ للوهلة الأولى أثناء رؤيتِهِ لعتبتيْ الغلاف والعنوان، ولا يمكن الوصول إلى إجابات مقنعة لهذه التساؤلات الافتراضية، وغيرها التي تختلفُ باختلاف زوايا القراءة، إلا بعد الاشتباك فعليًّا مع المتنِ الداخلى للرواية المقدّمة، التي تجمعُ فنيًّا بين أسرتيْنِ تتباينانِ من حيث المستوى الاجتماعي: الأسرة الأولى ممثلة في أفراد عائلة "مروان الدهشان": "الأم بثينة"، والأبناء "انتصار، وممدوح، وفكري"، أما العائلة الأخرى، فتتمثَّل في أسرة "فريد الدهشان"، مدير شركة الدهشان للاستيراد والتصدير، والأخ الأصغر لـ "مروان"، وزوجته "رجاء" التي ورثت عن والدها مصانع السروجي الشهيرة.

يقدم الساردُ فنيًّا، حادثة سقوط منزل في حي السكاكيني، وذلك لإيجاد التفاعل والتقارب الاجتماعي بين هاتيْنِ الأسرتيْنِ، هذا التقاربُ الذي سيتحقَّقُ من خلاله هدفُ القصةِ الأساسي، هذا الهدف الذي تم اختزاله بصورة غير مباشرة في جملة: "الأبناء لهم أجنحة"، حيث تنتقلُ أسرةُ "مروان" للعيش مؤقتًا مع أسرة "فريد"، نتيجة إخلاء الشارع الذى يسكنون فيه، إثر سقوط مفاجئ لإحدى العمارات، الأمر الذي تسبّب في غضب "رجاء" زوجة فريد، التي كانت دائمًا ما تصف أبناء "مروان" بأنّهم شياطين.

يصف السارد حالتها النفسية عند سماعها الخبر: "بينما كانت تهمسُ في غضب لنفسها: لا يسقطونَ فوقنا إلا صباح هذا اليوم الذي أستقبل فيه لأول مرة أهم شريك لمصنعى الجديد؟!" (ص17). وفي موضع آخر، تقول في لهجة حادة: "بيتنا لا يتسع لاستضافة أحد" (ص13).

وفي ثنايا هذا الخط القصصي، يوظّفُ الساردُ موضوعيًّا تفاعل الأطفالِ مع عالم الكمبيوتر، هذا العالمُ الذي جعلَهُ النصُّ مرتبطًا بشخصية الطفل "ممدوح" ابن مروان، وقد تجسّد هذا التوظيفُ في ثلاث صور فنية:

الصورة الأولى: (الصورة النفسية) التي تظهرُ أثناء حدوث هزة للعمارة التي يسكن فيها "مروان" وعائلته، ففي الوقت الذي يفكّرُ فيه الجميعُ في النجاة، نجد "ممدوح" يفكرُ في حاسوبه الذي يمثِّلُ أنيسًا له، يقول: " كيف أتركُ جهازَ الكمبيوتر وأسطواناتي؟! ستضيع كل برامجي؟!" (ص8)، ولذلك عندما انتقل للعيش في شقة عمّه "فريد"، ورأى حاسوب "هيثم"، حدَّث نفسَّهُ قائلا: "هذا هو الجهاز الذي حلمت دائمًا أن يكون عندي" (ص20).

الصورة الثانية: (الصورة الإبداعية) التي تجسّد فيها عالمُ الكمبيوتر من خلال استغلال فضائه في تشكيلِ أعمالِ إبداعيّةِ (رسومات وتصميمات فنية)، يقومُ الأطفالُ بتنفيذها من خلال برامج إلكترونية معينة يوفرها الكمبيوتر، كما في الفصل المعنون بـــ "مواهب غير عادية".

أما الصورة الثالثة: (الصورة النفعية) التي تتجسّد في (توظيف الكمبيوتر في حلّ المشكلات التي قد نتعرض لها في حياتنا)، وهذا ما تكفلتْ بعرضه الفصولُ الأخيرة من الرواية: "يتواضع.. لكنه يعرف الكثير"، و"الجهاز الذي تخلى عنهم"، و"كيف حدث هذا الخطأ"، و"مهما كانت مهارتك"، و"كيف توصلت إلى هذا؟!"، و"هذا الولد المعجزة"، و"ما فعلتَه شيء مستحيل".

لقد كان الكمبيوترُ، كما تُبيّن هذه الفصولُ، سببًا أساسيًّا في توطيد العلاقات الاجتماعية بين العائلتيْنِ فيما بعد، خاصة في تغيّر حالة "رجاء" ونظرتها إلى أبناء "مروان"، وذلك عندما نجح "ممدوح" في حلّ الأزمة التي تعرضت لها من فَقْد حسابها البنكي، الأمر الذي كان سيمثّل لها عائقًا في تحقيق مشروعاتها المستقبلية، لولا تدخل "ممدوح " ونجاحه في اكتشاف الخطأ من خلال استعمال برامج إلكترونية سرية تمكنّه من الدخول على المواقع المختلفة، وكان نتيجة ذلك أن وصفته بقولها: "هذا الولد معجزة.. إنه معجزة حقيقية" (ص81).

كانت هذه هي الصور الرئيسيّة التي رسمت الحالةَ التفاعليةَ التي جمعتْ بين الأبناء والكمبيوتر، بوصفه إحدى التقنيات الرقمية المهمة التي أفرزها الواقع المعاصر. وقد تمّ تقديم هذه الصور في صيغة سردية لها حضورها في قصة الطفل، ألا وهي صيغة السرد الموضوعي، الذي يتكئ فنيًّا على استعمال ضمير الغائب في تقديم الأحداث القصصية.

يقول السارد: "وحَانتْ من فريد التفاتةٌ إلى شاشة الكمبيوتر .. كان ابن أخيه ممدوح هو الذي يجلس أمامه.. وفوجئ فريد بصورة مُجسّمة ثلاثية الأبعاد تُطِلُّ من الشاشة لتلك اليمامة، وحولها رسومٌ واضحة بخطوط دقيقة تُبيِّنُ خُطوات صنعِها عن طريق التشكيل بالورق، الذي يعرفه الصغار باسمه اليابانى الأورجامى" (ص39-40).

مثل هذه المفردات السردية، تبرهِنُ على أنّه على الرغم من تضمينِ القصة موضوعات ومفردات رقمية جديدة لم تعهدْها قصةُ الطفلِ من قبل، إلا أنّ الكاتبَ حرص على تقديم الصور والمفردات السردية بلغة تتناسبُ مع الطفلِ، ومعجمِهِ اللغوي الذي أصبح أكثرَ ثراءً عن ذى قبل، نتيجة تطعيمه بمفردات جديدة أوجدتها التكنولوجيا الرقمية، كتلك التي تم تطعيمها في نسيج الرواية، مثل: (الفأرة، شاشة الكمبيوتر، برامج ثلاثية الأبعاد، مؤشر الفأرة، أسطوانة .. إلخ). تلك المفردات التي أصبح لها حضورٌ قوي فيما بعد، في النصوص التي تنتمي فنيًّا إلى ما يسمى بأدب الطفل الرقمي، هذا الأدب الذي يحاول الإفادة مما يتيحه العالم الرقمي من تقنيات، في تقديم أفكار وتصورات تتلاءمُ مع اهتمامات الطفل المعاصر، من خلال نصوصٍ تُراعي الفئات العمرية المختلفة.

وبهذا يمكن القول بأنّ روايةَ "الأبناء لهم أجنحة"، تُعَدّ من الروايات الأولى الرائدة، التي حاولت الاقتراب فنيًا من هذا الأدب التفاعلي (في وسيطه الورقي)، في محاولةٍ لترسيخِه في بيئتنا العربية.

وهكذا يتضحُ للقارئ أنّ مفردةَ "أجنحة"، التي تمّ تضمينها في عنوان الرواية الرئيسي، تُحيل دلاليًا إلى فئة الأبناء الذين تمّ تقديمهم في القصة، خاصة أبناء مروان، وعلى رأسهم ممدوح، وأنّ النص لا يقصد من وراء توظيف هذه المفردة المعنى الواقعي، إنما غلَّفها بدلالة جديدة أكثر إيحاءً وإشارة إلى المعنى المراد، وذلك من خلال إحالتها إلى العوالم الإبداعية والمواهب الفنية التي يُجيدها أطفال الألفية الثالثة "أطفال العوالم الرقمية"، الذين تمّ تجسيدهم في شخصية الطفل "ممدوح"، هؤلاء الأبناء الذين وصفتهم "رجاء" في نهاية الأمر بقولها: "كنتُ أُطلق عليهم الشياطين، لكنني اكتشفت أنهم شطار بأجنحة ملائكة، يحلقون عاليًا بقدراتهم المتميزة !" (ص85).

يؤكد هذا المقطع أنّ الكمبيوتر قد أسهم في تشكيل مسار الأحداث وتطورها، كما في تغيير طريقة تعامل"رجاء" مع أبناء "مروان"، وهذا يؤكد أيضًا أنّ توظيف الكمبيوتر في الرواية لم يكن حشوًا أو أنّه من باب مسايرة الواقع المعاصر على المستوى الشكلي، إنما هو في حقيقة الأمر عنصر محورى في تشكيل الأحداث القصصية واكتمالها موضوعيًا وفنيًّا.

وفي هذا الإبداع السردي الحداثي، إشارة واضحة من الكاتب إلى أنّنا مقبلون على عصر جديد بمفاهيم وأدوات غير مسبوقة، سواء على مستوى التقنيات الفنية أو الأفكار والقضايا الأيديولوجية، وهي أدوات ينبغى إدراكها وفهمها جيدًا إذا أردنا مخاطبة طفل العصر الرقمي بصورة مقنعة أيديولوجيًا وفنيًّا، وقد اتضح هذا بصورة جليّة في تعبيرات "فريد" الموجّهة إلى "رجاء": "وأنتِ تقولين دائمًا إن الجيل الجديدَ يعرف أكثر من الكبار كيف يتعامل بنجاح مع هذه الأجهزة الحديثة" (ص62).

عندئذ يمكن لنا في هذه الحالة، الانتقال من ثقافة الاستهلاك في تعاملنا مع التقنية الرقمية، إلى ثقافة الإبداع والابتكار التي لن تتحقّق إلا من خلال فهْمِ أبعاد التقنية الرقمية وتجليّاتها المختلفة، ومن ثَمّ تطويعها فنيًّا في إنتاج نصٍّ قصصى يتناسبُ في دلالته الموضوعية والفنية مع الفئة العمرية الموجّه إليها الخطاب الإبداعي.