مصر.. فكر الإرهاب التقصير والمواجهة

عندما شهد الإخوان المسلمون لصالح القاتل

إذا كانت القوات المسلحة وقوات الشرطة قد نجحت أمنيا فى مواجهتها مع حشود الإرهاب فى سيناء واستطاعت ان تقضى على الكثير من فلول هذه المأساة التاريخية فإن الجانب الفكرى والثقافى والتعليمى مازال حتى الآن يمثل أرضا خصبة لإنتاج حشود أخرى من الإرهابيين.

فى دوامة الحماس الحكومى والمجتمعى انطلقت اصوات كثيرة تطالب بمواجهة فكرية مع فكر الإرهاب لأن الظاهرة فى الأساس ظاهرة فكرية اتخذت من الدين سببا لكى تتحول إلى مواجهة مسلحة مع المجتمع واختارت العنف طريقا لكى تفرض سطوتها بالسلاح معتمدة على فكر خاطئ ومنطلقات دينية فاسدة.

كانت المعركة الأولى التى مهدت لها الدولة هى قضية الخطاب الدينى وكان ينبغى أن نعالج القضية من خلال منطلقات فكرية وثقافية ودينية تشارك فيها المؤسسات التعليمية من خلال برامج التعليم أو المؤسسات الدينية ممثلة فى الأزهر الشريف أو المؤسسات الثقافية ودورها التنويرى.. كان ينبغى أن تتصدى المؤسسات الثلاث تعليما ودينا وثقافة للقضية ولكن سادت الساحة حالة من الإنقسامات الحادة التى تحولت إلى معارك وصراعات بين القوى خاصة فى الجانب الدينى الذى شهد مصادمات عنيفة بين أصحاب الفكر الدينى حتى إن الساحة شهدت اتهامات كثيرة وعدوانا صارخا على المؤسسة الدينية ورمزها الأكبر الأزهر الشريف.. لاشك أن الصدام جاء على حساب الإنجاز, فلم يتغير الكثير فى الواقع الدينى فى الشارع المصرى وكانت النتيجة أن الكثير من الوقت ضاع فى مهاترات واتهامات شوهت القضية كلها.. وفى ظل تجربة لإصلاح التعليم لم تتضح حتى الآن جوانبها كان من الصعب أن يدعى أحد إن مصر بدأت خطابا تعليميا يتناسب مع روح العصر وأنها بدأت أول المشوار مع مواجهة بذور الإرهاب التى تنتشر فى برامج التعليم الدينى يضاف لذلك أن النخبة المصرية شغلت نفسها بقضايا أخرى حاولت فيها أن تهدم الكثير من الثوابت الدينية والفكرية وشغلت نفسها بمعارك وهمية أخذتها بعيدا عن الهدف الحقيقى وهو ترشيد الفكر الدينى وإصلاح التعليم ومواجهة الإرهاب الفكرة والجذور.

شارك الإعلام فى تقديم صورة أساءت للمشهد كله بعيدا عن الرؤى الصحيحة وتحولت معارك الفضائيات إلى منازلات ومزايدات ابتعدت تماما عن القضية الأصلية وهى خطاب دينى وسطى ومعاصر, وهنا وجدنا هجوما ضاريا على الثوابت والرموز وتشويه الحقائق وبدلا من أن نعالج المرض اجتهدنا من يكون أكثر جرأة فى تشريح جسد المريض.. لقد شهد الإعلام المصرى معارك حول قضايا الخطاب الدينى وجذور الإرهاب وكيف نواجه هذه المحنة الفكرية.. بالمزيد من الانقسامات والاتهامات وهنا انسحب فريق من أصحاب العقول رافضا الدخول فى هذه المهاترات وتصدى فريق آخر تنقصه الحكمة والوعى وثوابت التاريخ.

وسط هذا الصخب شارك الأزهر الشريف بأكثر من لقاء جمع فيها عشرات العلماء من كل بلاد العالم وقاد الإمام الأكبر أحمد الطيب هذه المسيرة نحو توضيح وكشف الصورة الحقيقية للإسلام ليس فى مصر وحدها ولكن أمام العالم كله وهنا أصدر أكثر من وثيقة يوضح فيها الكثير من المفاهيم المغلوطة حول قضايا الدين والعلاقة بين الدين والإرهاب, وأصدر مجموعة من الكتيبات والدراسات التى تضع حدودا فاصلة بين فكر الإسلام بوسطيته وفكر الإرهاب بجنونه وشططه إلا أن الغريب أن هذه الكتب وهذه اللقاءات كانت مجرد لقاءات عابرة سرعان ما انقضت ولم يهتم بها أحد وتجاهلها الإعلام تماما فى وقت كان يملأ الشاشات بالمعارك والانقسامات, وفى نفس السياق كانت العملية الجراحية الناجحة التى قام بها د.محمد مختار جمعة وزير الأوقاف فى مساجد مصر وزواياها اقتلع فيها الكثير من الجذور التى شوهت عقيدة الناس ودينهم.

لم تتعامل النخبة المصرية مع قضية الخطاب الدينى بالشمولية المطلوبة فهى ليست قضية دينية فقط, ولكنها قضية تمتد بجذورها إلى جوانب الفكر والثقافة والواقع الاجتماعى وكيف فرض ضروراته الاقتصادية والإنسانية على مناخ أفرز ظاهرة الإرهاب وكان أرضا خصبة لها.. كان ينبغى أن تهتم النخبة بقضية الخطاب الدينى, إنها ليست صراعات أو انقسامات بين مؤسسات الدولة ورموزها ولكنها قضية مجتمع تخلى عن ثوابت كثيرة فى الفكر والتعليم والثقافة واختفت فيه تماما قوى مصر الناعمة ممثلة فى رموزها وكتابها ومفكريها وعلمائها وائمتها وان الخلل الذى أصاب العقل المصرى يقف وراء كل الظواهر السلبية التى طفحت على وجه المجتمع وأخطرها ظاهرة الإرهاب.

لم ندرك حتى الآن أن الإرهاب باسم الدين لابد أن تواجهه السماحة والوسطية باسم الدين أيضا. إن الدين الصحيح هو الذى يواجه الدين المتطرف ولا يمكن أن نلجأ إلى ترشيد الدين بفكر يرفض الدين ولا يضعه فى مكانته الصحيحة، ولهذا فإن الصراع القائم حول الدين واللادين يفتقد الحكمة والنزاهة. إن مقاومة فكر الإرهاب هى الهدف والغاية، أما الدين فى حد ذاته أيا كان فله مكانته المقدسة فى قلوب البشر، ومن الخطأ أن يتصور البعض أن المعركة ضد الدين وليست ضد الإرهاب, لأن الدين فى حد ذاته من القيم العظيمة فى حياة الشعوب, وإذا كان بعض الكارهين يرون فيها فرصة لتشويه الدين فهذه خطيئة فى حق أنفسهم وحق شعوبهم وحق معتقداتهم.

هناك تضارب بل وتناقض بين مؤسسات الدولة فيما يخص التشريعات والقوانين التى تصدرها هذه المؤسسات لمواجهة قضية الإرهاب آخر هذه التناقضات ما حدث فى الأسابيع الأخيرة حين وافق البرلمان على قانون قدمته الحكومة لإنشاء المجلس الأعلى لمكافحة الإرهاب يهدف إلى وضع وإقرار إستراتيجية وطنية لمواجهة الإرهاب والتطرف داخليا وخارجيا لمدة لا تزيد على 5 سنوات وإقرار السياسات والخطط والبرامج لمواجهة الإرهاب والتطرف لجميع أجهزة الدولة المعنية ووضع آليات متابعة وتنفيذ الإستراتيجية والتنسيق بين المؤسسات الأمنية والإعلامية لتمكين الخطاب الدينى الوسطى ووضع برامج لزيادة الوعى لدى المواطنين.

تحدث القانون عن الأولويات والإجراءات التى يقوم عليها نشاط الجهاز الجديد.. هذا ما حدث بين الحكومة ومجلس الشعب حول القانون الجديد.. إلا أن الغريب فى الأمر أن هذا القانون الذى صدر فعلا وأصبح ساريا قد ألغى القرار الجمهورى رقم 355 لسنة 2017 بإنشاء مجلس قومى لمواجهة الإرهاب والتطرف يهدف إلى حشد الطاقات المؤسسية والمجتمعية للحد من مسببات الإرهاب ومعالجة آثاره.

ولم يختلف الأمر كثيرا بين ما جاء فى قرار رئيس الجمهورية بإنشاء المجلس أو ما جاء فى قانون الحكومة والبرلمان بإنشاء مجلس جديد للإرهاب وهنا لى بعض الملاحظات:

إن قضية الخطاب الدينى لم تضع حتى الأن الأسس الفكرية والدينية التى ينبغى أن تنطلق منها وانها لم تتجاوز حدود المعارك الإعلامية بين أصحاب الفكر والنخبة وان مؤسسات الدولة لم تقم بدورها كاملا فى هذه المهمة وان الكثير من الوقت قد ضاع فى معارك لم نصل فيها إلى شئ وان قضايا التعليم والثقافة والمؤسسات الدينية يجب أن تقتحم أوكار الإرهاب الفكرية والثقافية التى تأصلت عبر سنوات طويلة فى الفكر المصرى.

إن صراعات النخبة بكل ألوانها الفكرية والدينية لم تكن على قدر المسئولية أمام تحديات ظاهرة الإرهاب التى وصلت إلى أسوأ درجاتها فى استخدام السلاح وتهديد الآمنين وقتل الأبرياء واستشهاد آلاف المقاتلين دفاعا عن الوطن.. كان ينبغى أن تكون معركة النخبة ضد حشود الإرهاب على نفس الدرجة من المواجهة التى تصدت لها قوات الجيش والشرطة.

إن معامل التفريخ الإرهابية مازالت تعمل بنشاط وتتلقى دعما ماليا وإعلاميا مشبوها من أكثر من دولة وأكثر من مؤسسة مشبوهة وان مواجهة مصادر التمويل لا تقل فى أهميتها وخطورتها عن المواجهة الفكرية.. وسوف تبقى مواجهة فكر التطرف واحدة من أهم وأخطر معارك مصر الفكرية لسنوات قادمة.

لا أتصور فى أقل من عام إنشاء جهازين فى الدولة لمواجهة ظاهرة الإرهاب الفكرى فقد صدر قرار جمهورى فى عام 2017 تحت رقم 355 بإنشاء مجلس لمواجهة الإرهاب ثم صدر فى الأسبوع الماضى قانون بمجلس جديد رغم أن الهدف واحد والمسئولية واحدة.. إن غياب التنسيق فى مثل هذه القضايا الخطيرة يهدد دور الدولة ومؤسساتها ويضع علامات استفهام كثيرة حول جدوى إنشاء هذه المجالس.

إن أخطر ما فى الإرهاب فكره وأخطر ما فى الظاهرة جذورها وان الحل الأمنى ضرورة لا بديل عنها ولكن تبقى معركة الفكر ضد الإرهاب وحشوده ومدارسه وجذوره مسئولية المجتمع كله، ونحن حتى الآن لم نضع أقدامنا على الطريق الصحيح فى المعركة ضد الإرهاب.

فاروق جويدة

كاتب مصري