العراق.. أفول عهد المرجعيات الدينية

المرشد الأعلى في إيران عندما أخذ الإيرانيون ينتخبون خلاف رغبته

شهد التاريخ الحديث والمعاصر حركات جماهيرية وثورات شعبية لعبت فيها المركزيات/ المرجعيات، الدينية أو الثقافية، الدور الأساس والحاسم في توجيه خطاب التغيير وترسيم معالم المشروع المرتقب. لكن هل مازالت هذه الظاهرة فاعلة وقائمة؟ هذا ما نريد اكتشافه عن طريق متابعة سريعة لادوار الفعل المرجعي الديني في العراق منذ 2003 وحتى اليوم.

في سرد سريع لهذه الأدوار والمواقف يمكننا تشخيص حقيقة أن المرجعية الدينية في العراق مرت بمازق بعد آخر في مواقفها العديدة والمتباينة:

- دعت المرجعية الدينية بقوة الى كتابة الدستور بايدي عراقية، قبل اجراء الانتخابات، فاستغلت الأحزاب السياسية هذه الدعوة، فانفردت بكتابة الدستور، بدلا من أن تحيل مهمة كتابته الى خبراء مستقلين. وكانت النتيجة أن ظهر دستور مثير للجدل، دستور مكوناتي، بدلا من دستور وطني.

- اندفعت المرجعية لدعم شخصيات مستقلة في تحالف سياسي مواز لتحالفات الأحزاب المعروفة، فاختارت شخصيات تبدو مستقلة، فكانت النتيجة ان تظهر هذه الشخصيات غارقة في الفساد، شأنها شان غيرها؛ حسين الشهرستاني، علي الدباغ، خالد العطية، وأصحابهم. ثم ما لبث هذا الكيان المدعوم مرجعيا ان انضوى تحت خيمة المالكي الذي وقفت منه المرجعية موقفا صارما، خصوصا في الدورة الثانية من حكومته.

- اندفعت المرجعية بقوة في انتخابات (2014) للدعوة الى عدم إعادة انتخاب الفاسدين وقادة الفشل، تحت عنوان (المُجرَّب لا يُجرَب) فكانت النتيجة مقلوبة تماما، حيث حصد هؤلاء المجربون جل أصوات الناخبين.

- أطلقت المرجعية ندائها في (الجهاد الكفائي) فاستثمرت ايران هذا النداء أيما استثمار، فجمعت تحت ذريعته كل الفصائل المسلحة الموالية لها، والتي مضى على تأسيسها سنوات عديدة سابقة على الفتوى، تحت مسمى (الحشد الشعبي). وأتقن الحشديون الادعاء بأن الحشد هو وليد فتوى المرجعية، سائر باتجاه ارادتها، على الرغم من الموقف الواضح لدى الجميع من قبل المرجعية التي لم تذكر في شيء من خطاباتها او بياناتها مفردة (الحشد الشعبي) وانما تتحدث دائما عن المتطوعين، وهم معروفون حتى لدى قادة وعناصر الحشد الشعبي، منفصلون عنهم كليا.

- وقفت المرجعية مساندة للمتظاهرين المحتجين على الفساد وأسباب الفشل، ووجهت عشرات النداءات للحكومة والبرلمان بلزوم الشروع بقوة في محاربة الفساد والمفسدين، حتى اضطرت أخير الى الاعتزال والصمت بعد ان اطلقت توجعها الشهير "لقد بُحت أصواتنا من النداء"، اذ ذهبت نداءاتها جميعا ادراج الرياح.

- قاربت انتخابات (2018) فأطلقت المرجعية نداءاتها المتوالية في مواجهة اندفاع فصائل الحشد الشعبي بعناوين سياسية لدخول الانتخابات، فنهت عن ذلك بصيرح العبارات مرة بعد أخرى، لكن كل شيء مضى كما كان يمضي، ولم تتعد نداءات المرجعية الآذان.

- أعادت المرجعية تركيز وتكرار نداءاتها بحرمة انتخاب كل شخص شارك في عضوية البرلمان السابق، او عمل وزيرا في الحكومات السابقة، وحرمة انتخاب قائمة عليها مؤشرات فساد، أو تتحمل مسؤولية إزاء التراجع والفشل والاخفاق المتراكم منذ 14 عاما. وكانت اكثر إصرارا على الايضاح من كل مرة قطعا للاعذار ومنعا من التأويل والتحريف، فأكدت لزوم الامتناع عن انتخاب حتى المرشح الصالح النزيه اذا كان مرشحا ضمن قائمة معروفة من القوائم التي شاركت في حكم العراق وتلوثت بالفساد.

مع كل ذلك فان جماهير هذه الأحزاب الفاسدة هي هي، لم تتزحزح عن ولاءاتها، وسوف لن تتوقف عن انتخاب قوائم احزابها وشخصياتها المعروفة بالفساد او التي تحوم حولها شبهات فساد كبيرة، ولقد نجح قياديون معروفون بالفشل والفساد في جمع اعداد غفيرة من الجماهير وخوض الحملة الانتخابية بشكل فعال ومباشر. كما نجح وما زال ينجح كثير من مثقفيهم بالدفاع عن صوت المرجعية ومكانتها المتقدمة، في خطاب دعائي زائف ومفهوم تماما.

- كل ذلك يؤشر بوضوح الى أفول عصر المركزيات، دينية كانت او سياسية، فلم تعد المرجعيات بأنواعها قادرة على تحريك الشارع وتوجيه بوصلة الخطاب، كما لم يعد أيضا بالإمكان البحث عن (سارتر) عراقي يؤجج الحراك الثوري انطلاقا من مرجعيته الثقافية. وليست تجربة ايران ببعيدة عنا، ففي معظم الانتخابات الرئاسية تتجه غالبية الأصوات بعكس رغبة المرجعيات الدينية، بما فيها مرجعية المرشد الأعلى.

- ان افول عهد المرجعيات المطلقة، والزعيم الأوحد، والشخصية الكارزمية المتفردة، ظاهرة متعددة الجذور والابعاد، ولعلها واحدة من سمات عصرنا الحاضر ومستقبلنا القريب.

صائب عبدالحميد

كاتب وباحث عراقي