العراق.. نهاية الأحزاب العقائدية!

في ظل هذه الظروف لم تعد الصلابة التنظيمية والتمسك بنقاوة النظرية هي المعيار الحاسم لتقديم الكادر الحزبي في التشكيلات الجديدة

جاء الانشقاق الجديد في حزب الدعوة الإسلامية قبيل انتخابات 2018 تتويجاً لظاهرة أفول الحزب بالمعنى المتعارف عليه وتراجع دوره في الحياة السياسية لصالح تنظيمات وتجمعات وكيانات أخرى، بل يمكن وصف الخطوة بأنها مسمار جديد يُدق في نعش الأحزاب التقليدية في العراق.

لم يأتِ الانقسام بين تحالف \"النصر\" بزعامة حيدر العبادي وبين ائتلاف \"دولة القانون\" بقيادة نوري المالكي نتيجة خلافات أيديولوجية أو حول الأهداف، وإنما تعبيراً عن صراع على السلطة كما حصل سابقاً أثناء انشقاق وزير الخارجية الحالي إبراهيم الجعفري عن حزب الدعوة عندما لم يُمكّن من ولاية ثانية على رأس الحكومة في عام 2006 بعد ولايته الأولى القصيرة. غير أنه من اللافت للنظر أن حزب الدعوة لن يشارك هذه المرة رسمياً في الانتخابات ولم يظهر اسمه في القائمتين الانتخابيتين في مؤشر على أن الانتماء التنظيمي للحزب لم يعد يلعب الدور الحاسم في الصراعات.

لا تقتصر هذه الظاهرة على حزب الدعوة أو الإسلام السياسي فقط، وإنما شملت جميع التيارات والتكتلات دون استثناء التي شهدت اصطفافات جديدة وعمليات انشطار وتفكك وتقارب وعمليات انتقال للأحزاب والمرشحين. ويرتبط ذلك أيضا بحالة التبعثر والتشتت التي يعاني منها المشهد السياسي حيث يشارك في الانتخابات الحالية أكثر من 200 حزب التي فضل أغلبها الانخراط في اتحاد أوسع يمكن تسميته بالحزب الأم. ولا يعد هذا التعدد مؤشراً على حيوية الحياة الديمقراطية وتنوع فرص الاختيار أمام الناخب بالدرجة الأولى، وإنما يشير إلى تفاقم ظاهرة التشظي السكاني والاجتماعي والديني والمذهبي للمجتمع العراقي.

يزخر الخطاب السياسي بتوصيفات كثيرة للتفريق بين الأحزاب من حيث توجهها. فكثيراً ما توصف الأحزاب بأنها يسارية أو يمينية، إسلامية أو علمانية، قومية عروبية أو كردية، ليبرالية أو راديكالية، ديمقراطية أو استبدادية، تقدمية أو محافظة وغيرها. مع أهمية هذه النعوت إلا أنها تميل للتبسيط ولا تعبر عن جوهر وطابع الحزب وبنيته الاجتماعية. في هذا السياق اعتمد رائد علم الاجتماع ماكس فيبر (1864-1920) تصنيفاً للأحزاب لا يزال يحظى بأهمية كبيرة في الأدب السياسي لأنه يوفر أداة جيدة للتحليل ويراعي أيضا الجوانب السوسيولوجية والاقتصادية. في كتابه \"الاقتصاد والمجتمع\" قسّم فيبر الأحزاب إلى أربعة أنواع: أحزاب موالاة (أو مصالح) وأحزاب كاريزمية وطبقية وعقائدية. بطبيعة الحال يتعلق هذا التصنيف بالطابع الأساسي للحزب الذي لا يمنع من ظهور عدة سمات في وقت واحد، ولكن بدرجة متفاوتة. كما أنه غير ثابت أبد الدهر لأن الأحزاب نفسها تستجيب للمتغيرات ويمكن أن تتحول من طراز إلى آخر.

يمكن القول عموماً بأن الانتماء الطبقي لم يلعب دوراً حاسماً في تأسيس وتطور الأحزاب في العراق حيث يصعب الحديث عن أحزاب فلاحية أو عمالية أو برجوازية بالمعنى الحقيقي للكلمة. ويعود ذلك إلى أن الظروف التاريخية الملموسة في المجتمع العراقي لم تسمح للطبقات بالمعنى الماركسي بالتحول من طبقة \"بذاتها\" إلى طبقة \"لذاتها\"، أي أن تتبلور ككيان اجتماعي مستقر وواعٍ سياسياً لدوره ومصالحه. صحيح إن الحزب الشيوعي كان يعتبر نفسه على مدى عقود حزب الطبقة العاملة العراقية، ولكن ذلك كان يعبر أساساً عن طموح أيديولوجي أكثر مما هو واقع معاش في نشأته وتركيبة قاعدته وقيادته.

انحسار العقائدية

يتمثل التطور الأهم بعد 2003 في انحسار دور الأحزاب العقائدية التي طغت على الساحة السياسية قبل وبعد ثورة تموز 1958، وفي مقدمتها الحزب الشيوعي والبعث والقوميون العرب وحزب الدعوة والحزب الإسلامي (الأخوان المسلمون). تميزت هذه الأحزاب بتبنيها لأيديولوجية شمولية تنطوي على حل سحري لجميع المشاكل وبوجود ارتباط وثيق وراسخ لمجموعة من الأعضاء والكوادر بالحزب والذي يتخذ شكل التماهي مع أفكاره وشعاراته الأمر الذي يضمن له الاستمرارية وتجاوز الانتكاسات واستيعاب الصدمات، أي أن هناك نواة صلبة من الأعضاء والمؤيدين تنطبق عليهم صفة \"من المهد إلى اللحد\".

بعد عام 2003 لم يقف القمع والتصفيات وراء أزمة الأحزاب العقائدية وخفوت الهالة المحيطة بها، وإنما جاءت نتيجة تحولات اجتماعية واقتصادية وثقافية عميقة في المجتمع العراقي والتي أدت لظهور أشكال جديدة من التنظيمات والكيانات وهيمنتها على المشهد السياسي. يكمن التغيّر الأبرز في الانتخابات التي أصبحت الوسيلة الأهم للوصول إلى السلطة والمشاركة فيها والتي تمثل بدورها السمة المميزة لأي حزب بحسب ماكس فيبر.

في ظل هذه الظروف لم تعد الصلابة التنظيمية والتمسك بـ\"نقاوة\" النظرية هي المعيار الحاسم لتقديم الكادر الحزبي في التشكيلات الجديدة، وإنما شبكة علاقته وحسبه ونسبه وحضوره الإعلامي وقدرته على مخاطبة مشاعر الناخب. في انتخابات 2010 صوّت أكثر من نصف مليون عراقي لصالح نوري المالكي ضمن قائمة ائتلاف دولة القانون محققاً بذلك رقماً قياسياً في الشعبية لم ينجح أحد في تحطيمه حتى الآن. أغلبية هؤلاء لم ينتخبوا المالكي على الأرجح لأنه الأمين العام لحزب الدعوة أو لاقتناعهم ببرنامجه أو لكاريزميتيه، وإنما وبالدرجة الأولى لتغليبهم معيار الانتماء الطائفي وتوقعاتهم بتحسن أوضاعهم، إضافة بالطبع إلى توظيفه لهيبة المنصب وإمكانيات الدولة. نفس الشيء ينطبق على إياد علاوي الذي نال المرتبة الثانية في عدد الأصوات في اقتراعي 2010 و2014. ومن المؤكد أن الآلاف من ناخبيه لا يعرفون حزب الوفاق الوطني الذي يتزعمه علاوي. لكن ذلك لا يعني أن شخصية المرشح وقدراته وكاريزميته باتت العامل الحاسم في فوز قائمته بمقاعد البرلمان، وإنما شبكة العلاقات والمصالح المحلية والإقليمية التي يمثلها ويمسك بخيوطها.

لو نظرنا إلى الائتلافات والقوائم المشاركة في الانتخابات الحالية فإنه من الواضح أن أغلبيتها لم تتشكل على أساس القناعة بأيديولوجية محددة أو سياسات وأهداف مشتركة، وإنما هي أحزاب مصلحية بحسب تصنيف ماكس فيبر. يستخدم فيبر لهذه الغرض مصطلح (Patronage) المشتق من كلمة (Patron) التي تعني الشفيع والكفيل والراعي وأيضاً زعيم العائلة (أو العصابة). بهذا يعبر مفهوم \"الحزب المصلحي\" عن علاقة قائمة على المصالح والمنافع المتبادلة وانتهاز الفرص والولاء الأسري والعشائري والمحسوبية. بحسب نظرية ماكس فيبر يهدف هذا الطراز من الأحزاب إلى إيصال القائد إلى رأس السلطة والذي يتولى بدوره توزيع المناصب والامتيازات والصفقات على النخب والمساعدين والمقربين والأعضاء النشطين. يرتبط ازدهار هذا الصنف في العراق بظاهرة أخرى لم تكن مألوفة بهذا الشكل قبل 2003، ألا وهي العوائل المتنفذة. في معظم التكتلات تلعب علناً أو من وراء الستار أسر كبيرة دوراً محورياً بحكم تمتعها بنفوذ واسع تتداخل فيه عناصر السياسة والمال والدين. يصعب فهم ما يجري في العراق دون تحليل دور عوائل الحكيم والصدر والعلاق والنجيفي والمطلك وبارزاني وطالباني وغيرها والتي تمسك بخيوط اللعبة سياسياً واقتصادياً في مجالات هامة وحيث تتجلى المحسوبية بـ\"أرقى\" أشكالها. هنا يسود غالباً مبدأ التوريث كما لوحظ في حزب البعث السوري والعراقي وأحزاب أخرى كثيرة في العالم العربي والذي يأتي امتدادا لتقاليد الخلافة الإسلامية. من جانب آخر تستثمر العوائل الكبيرة في معظم الأحيان الروابط العشائرية في تنظيم توازن القوى وطريقة تقاسم الكعكة داخل التجمعات والتكتلات الواسعة. وبما أن المصالح، وليست المبادئ والأفكار، تُشكّل الأساس لقيام هذه الكتل، فإن انتقال المرشحين، وحتى تنظيمات وحركات بكاملها، من قائمة إلى أخرى يصبح أمراً يسيراً ومقبولاً. بهذا ظهرت طبقة من السياسيين \"المحترفين\" يديرون الأحزاب وكأنها شركة تجارية هدفها جني الصفقات المربحة والسهلة. وهذا ما حذر منه ماكس فيبر قبل مائة عام في محاضرته الشهيرة \"السياسة كحرفة\" عندما ميّز بين السياسي المحترف الذي يعيش \"من أجل\" السياسة وبين نظيره الذي يعيش \"من\" السياسة.

يتجلى مبدأ المصلحة في العلاقة مع الناخب أيضاً. ليس القصد من ذلك فقط إطلاق الوعود في الحملة الانتخابية أو المحاولات المباشرة وغير المباشرة لشراء الأصوات. فالأحزاب المصلحية – وبغض النظر عن ادعائها بأنها عابرة للطائفية - لا يمكن أن تكون شعبية (وطنية عامة) لأن فئة الناخبين ، أو مجموعة العملاء، التي تخاطبها تقوم على أساس مذهبي أو اثني أو مناطقي. كما أن الناخب أيضا يتصرف أثناء عملية التصويت غالباً بطريقة واعية وعقلانية مثله مثل الزبون أثناء شراء السلعة، بمعنى أنه يربط اختياره بتوقعات نفعية مثل فتح باب التوظيف في أجهزة الدولة وفرص التجنيد في الجيش والميليشيات وتنفيذ مشاريع خدمية أو رفع الرواتب وغيرها. من جهتها \"ربّت\" الأحزاب المصلحية الناخب على هذا السلوك من خلال تسخير إمكانيات الدولة الريعية لتوزيع الصدقات والمكرمات على \"الرعية\"، خصوصا قبيل الانتخابات. لهذا لم يكن صدفة أن تستغل الكتل المتنفذة بوادر الانفراج في الأزمة المالية لإلغاء الاستقطاعت البالغة 3,8 % من رواتب الموظفين والمتقاعدين في ميزانية عام 2018 على الرغم من أن أسباب الضائقة المالية لا تزال قائمة. وزيادة في الكرم الحاتمي قررت وزارة المالية إرجاع ما تم استقطاعه بأثر رجعي. قبلها وأثناء الاستعدادات لانتخابات 2014 مرّر البرلمان على عجالة ودون دراسة التبعات المالية المتوقعة قانون التقاعد السخي الذي لا يوجد نظير له في العالم، هذا إضافة إلى منح امتيازات باذخة لما يدعى بلاجئي مخيم رفحاء وغيرها من الإجراءات التي تهدف لاسترضاء \"الزبائن\" وترسيخ الولاءات.

التيار الصدري ودور القائد

من بين الكتل الرئيسة ينفرد التيار الصدري بأنه مثال على الحزب الكاريزمي في العراق الذي يعتمد بدرجة كبيرة على قدرات القائد في التأثير على الجماهير ويهدف في نهاية المطاف إلى وضع الزعيم الملهم على رأس الهرم. كما يتجسد ذلك أيضا في الطاعة العمياء ليس فقط لدى الأتباع، وإنما أيضا لدى النخب لتوجيهات القائد مقتدى الصدر الذي يحتكر اتخاذ القرارات الهامة. لكن هنا أيضا يتضح بأن مفهوم ماكس فيبر عن الحزب الكاريزمي لا ينفي وجود صفات أخرى، لا سيما وأن التيار الصدري ضالع منذ البداية في لعبة المصالح. لا يختلف الوضع كثيراً بالنسبة للحزب الشيوعي الذي فاجأ الكثيرين بالانضواء تحت عباءة مقتدى الصدر. لم تأتِ هذه الخطوة نتيجة لتشابه القاعدة الاجتماعية للتيارين، كما يحاول البعض تبريرها أيديولوجياً، وإنما بالدرجة الأولى لإدارك الحزب الشيوعي لمأزق الأحزاب العقائدية، لا سيما بعد غياب ممثليه عن البرلمان لدورتين متتاليتين.

كانت فترة السنوات الخمس عشرة الماضية كافية لظهور أحزاب من طراز جديد، ليس بالمعنى اللينيني، عندما وجدت الأحزاب العقائدية نفسها مضطرة للتأقلم مع الظروف الجديدة من خلال الانخراط في تجمعات أكبر تتحكم فيها غالباً المصالح والمزايا بمعناها المادي والمثالي. وفيما يصعب التنبؤ بنتائج انتخابات 2018 ، يبدو أنها ستشكل خطوة أخرى على طريق فرز اصطفافات تضم وجوهاً جديدة ، ولكنها قديمة من حيث الجوهر.

ناجح العبيدي

كاتب واقتصادي عراقي