أبو البقاء الرندي ومرثية الأندلس

القامة الأدبية الكبيرة في تراثنا العربي الزاخر لم يتحسر على مدنٍ سقطت فحسب؛ وإنما تحسر على حضارة ملأت الدنيا وشغلت الناس.
حاتم السروي
القاهرة

أبو البقاء الرندي من القامات الأدبية الكبيرة في تراثنا العربي الزاخر، ودراسته الآن تفيد الكاتب والشاعر معًا أدبًا وعلمًا وبلاغةً؛ حيث ترك لنا أبو البقاء سجلًا أدبيًا متميزًا، ومن أبرز ما فيه قصيدته في رثاء الأندلس،وهو رثاء للمبنى والمعنى، فأبو البقاء لم يتحسر على مدنٍ سقطت فحسب؛ وإنما تحسر على حضارة ملأت الدنيا وشغلت الناس، تحسر على فلك "المجريطي" والزرقالي" وطب "ابن جلجل" و"ابن رشد" وموشحات "عُبادة بن ماء السماء" تحسر على معاهد العلم في قرطبة فقال:

وأين قرطبةٌ دار العلومِ فكم.. من عالمٍ قد سما فيها لهُ شانُ

اسمه وكنيته:

هو صالح بن يزيد بن صالح، وفي المصادر تختلف كنيته بين أبي البقاء وأبي الطيب؛ غير أنه مشهورٌ في المشرق – لا سيما في عصرنا- بأبي البقاء، وهو أديبٌ شاعر وناقد، قضى معظم حياته في "رندة" بضم الراء، واتصل ببني الأحمر في "غرناطة" فكان يمدحهم وينال منهم الجوائز، وحين دخوله إلى "غرناطة" كان يحضر مجالس علمائها وينتفع بهم، ويخالط الأدباء ويسمع منهم ويُسْمِعُهم قصائده.

وأبو البقاء كعادة أكثر أدباء عصره كان فقيهًا حافظاً؛ حيث كانت علوم الشريعة هي المنطلق أو المعين الذي يخرج منه أكثر الأدباء، ونظرًا لإتقانه علوم اللغة بحكم دراسته الشرعية فقد برع في منظوم الكلام ومنثوره، وشهد له أدباء عصره بإجادة المدح والغزل.. يصفه لنا لسان الدين بن الخطيب فيقول: " شعره كثير، سهل المأخذ، عذب اللفظ، غير مؤثر للجزالة".

فنحن إذن بإزاء شخصية ثقافية مرموقة، وأديب نال حظاً من الشهرة في الأندلس وبلاد المغرب، ويظهر لنا من قائمة مؤلفاته أنه كان متعدد الجوانب، حيث كتب في "علم الفرائض" أو المواريث، كما كتب في علم "العروض والقوافي" وله مصنف كامل بعنوان " الوافي في نظم القوافي" وحين ترجم له "لسان الدين بن الخطيب" أثبت له كتابًا بعنوان "روضة الأُنس ونزهة النفس" وقد جمع بعض من اعتنى بشعره قصائده من كتابه "الوافي" ومن كتب التراجم والتواريخ وكتب الأدب أيضًا، فصار له بذلك ديوان شعري كامل، وحتى الآن لسنا على يقين إن كان ترك ديوانًا جمَّعَه بنفسه أم لا؛ غير أن ديوانه الذي أعده محبوه بعد وفاته يكفينا للاطلاع على شعره والوقوف على أسلوبه فيه.

أما قصيدته العصماء التي مطلعها:

لكل شيءٍ إذا ما تمَّ نُقصانُ.. فلا يُغَرُّ بطيب العيش إنسانُ

فهي قصيدة ترثي ما سقط إلى زمانه من مدن الأندلس، وتستنهض الهمم وتدعو إلى جهاد أعداء الأندلس، أعداء الأمة والدين، فبعد انهيار دولة "الموحدين" أصيب الجسد الأندلسي بمرضٍ شديد وهزالٍ جعله ضعيفًا جدًا أمام الضربات الأسبانية المتوالية، فسقطت جزيرة "ميورقة" و"قرطبة" و"بلنسية" و"شاطبة" و"دانية" و"بياسة" و"لورقا" و"قرطاجنة الأندلسية" و"إشبيلية" و"مرسية" وكانت "طليطلة" قد سقطت قبل ذلك بعد أن فرَّطَ فيها "المعتمد بن عباد".

وابتداءً من النصف الثاني من القرن السابع الهجري لم يعد لدولة المسلمين وجود في كل بقاع الأندلس، عدا منطقة الجنوب الشرقي حيث بقيت إمارة "غرناطة" وحدها تغالب تصاريف الزمن ورياح الأسبان العاتية، وهي إمارة ضعيفة بتكوينها، وكان صمودها لقرنين ونصف وليد أسبابٍ معينة، منها مثلاً عدم رغبة الأسبان في الهجوم عليها لانشغالهم بتنظيم المدن التي استولوا عليها من المسلمين، أضف إلى ذلك أن مؤسس هذه الإمارة تنازل عن عدد كبير من من المدن والحصون، وتملق الأسبان بشكلٍ يمكن معه القول إنه كان يحكم "غرناطة" بما يشبه "الحكم الذاتي" في أيامنا هذه، يعني أنه كان تابعًا للأسبان في الحقيقة، لكنهم أجازوه بحكم غرناطة حتى يستريحوا منها لِما قدروه من العناء في حربها والتكاليف التي يُسْتَحسَن أن يؤجلوها.

أدرك أبو البقاء كل هذا الهوان، ورأى بعينيه ما يحدث من سفك دماء المسلمين وإجبار بعضهم على التنصر في المدن التي استولى عليها الأسبان، وآلمه جدًا زوال الحضارة العربية، فتملكه الخوف على مصير "غرناطة" فأنشأ قصيدته يستثير بها حماسة أهل المغرب ومن إليهم من المسلمين حتى يحافظوا على ما تبقى من الأندلس.

والقصيدة مكونة من 43 بيتًا وهي ثابتة لأبي البقاء؛ غير أن رجلًا من الموريسكيين، أي الذين بقوا من العرب في الأندلس بعد سقوطها الكامل، واسمه "الشريف يحيى" زاد على القصيدة 18 بيتًا فنسبها إليه "شهاب الدين الخفاجي" المتوفى سنة 1069هـ في كتابه "ريحانة الألِبَّا وزهرة الحياة الدنيا" وقال إنه نظم القصيدة يستنهض بها ملوك الروم، ويعني بهم سلاطين الأتراك في الأستانة والأناضول؛ فقد كانت الدولة العثمانية وقتها هي الدولة الإسلامية الكبرى التي ورثت أمجاد بني أمية والعباسيين.

ولنا بالطبع أن نرد على "الخفاجي" فيما ذهب إليه من نسبة القصيدة إلى "الشريف يحيى" فالقصيدة لأبي البقاء قولاً واحدًا؛ وإنما زاد فيها يحيى أبياتًا وأرسلها إلى ملوكٍ غير عرب، فكانت النتيجة سلبية بالطبع، لأن منظور الأتراك لهذه القصائد هو منظور من لا يفهم العربية وأساليبها فكيف تؤثر فيهم وهم لا يعرفون معانيها؟! وحتى وإن ترجمت؛ فليس وقع القصيدة بالعربية مثل وقعها عند الترجمة، يُعرَف هذا بداهةً،ويضاف إلى ذلك تأكيد المؤرخين على انشغال العثمانيين بفتوحاتهم الخاصة في وسط وشرق أوروباعن نجدة الأندلس، نظرًا لبعدها عنهم ولأنهم كانوا – كما يرى البعض- ذوي تكفير مادي برجماتي يتأسس على المنفعة وإن تستر بالشعارات، ويبدو أنهم زهدوا في منفعة الأندلس اكتفاءً منهم بمنافع بيزنطا والنمسا واليونان والمجر؛ لذا قيل إن تحركاتهم من أجل الأندلس كانت تظاهرات عسكرية غايتها أن يقال عن السلطان: "حامي الدين وناصر الإسلام والمسلمين"! ولسنا الآن في معرض تقييم العصر العثماني ولكِنا نقرر ما اتفق عليه المؤرخون، فالأندلس حين سقطت لم يهب لنجدتها أحد لا في المشرق ولا في المغرب، فصارت ذكرى عمرها الآن فوق خمسة قرون!

والحاصل أن المقري في "نفح الطيب من غصن الأندلس الرطيب" أكد نسبة القصيدة لأبي البقاء، ونحن الآن على يقين من أنها له بالفعل.

أبيات مختارة من القصيدة:

لِكُلِّ شَيءٍ إِذا ما تَمّ نُقصانُ.. فَلا يُغَرَّ بِطيبِ العَيشِ إِنسانُ

هِيَ الأُمُورُ كَما شاهَدتُها دُوَلٌ.. مَن سَرّهُ زَمَن ساءَتهُ أَزمانُ

وَهَذِهِ الدارُ لا تُبقي عَلى أَحَدٍ.. وَلا يَدُومُ عَلى حالٍ لَها شانُ

يُمَزِّقُ الدَهرُ حَتماً كُلَّ سابِغَةٍ.. إِذا نَبَت مَشرَفِيّات وَخرصانُ

وَيَنتَضي كُلَّ سَيفٍ للفَناء وَلَو.. كانَ ابنَ ذي يَزَن وَالغِمد غمدانُ

أَينَ المُلوكُ ذَوي التيجانِ مِن يَمَنٍ.. وَأَينَ مِنهُم أَكالِيلٌ وَتيجَانُ

وَأَينَ ما شادَهُ شَدّادُ في إِرَمٍ.. وَأينَ ما ساسَه في الفُرسِ ساسانُ

وَأَينَ ما حازَهُ قارونُ من ذَهَبٍ.. وَأَينَ عادٌ وَشدّادٌ وَقَحطانُ

أَتى عَلى الكُلِّ أَمرٌ لا مَرَدّ لَهُ.. حَتّى قَضوا فَكَأنّ القَوم ما كانُوا

وَصارَ ما كانَ مِن مُلكٍ وَمِن مَلكٍ.. كَما حَكى عَن خَيالِ الطَيفِ وَسنانُ

***

ولأبي البقاء قصيدة رقيقة في الغزل تشبه غزل العذريين، غير أنك تجد فيها تأثرًا بما شاع في عصره من البديع والجناس والألعاب البلاغية ومحسنات الصنعة الشعرية، لكنها أشياءٌ مقبولة على أية حال إذ لم يُغَالِ فيها، وفي القصيدة كذلك تأثر بالقرآن الكريم، وهي كما يلي:

يا سالب القلبِ مني عندما رَمَقا.. لم يُبْق حبُّك لي صبرًا ولا رَمَقا

لا تسأل اليومَ عمَّا كابدَت كبِدي.. ليت الفراق وليت الحُبَّ ما خُلِقا

ما باختياريَ ذُقتُ الحبَّ ثانيةً.. وإنما جارت الأقدارُ فاتَّفَقا

وكنتُ في كَلَفي الساعي إلى تَلَفي.. مثل الفَراش أحَبَّ النارَ فاحترقا

يا من تجلى إلى سِرِّي فصَيَّرَني.. دَكَّاً وهزَّ فؤادي عندما صَعِقا

انظر إليَّ فإن النفسَ قد تَلِفَت.. وارفُق عليَّ فإن الروحَ قد زَهِقا

نعتقد أن القارئ الكريم سيرى بعد اطلاعه على هذه القصيدة وعلى "مرثية الأندلس" أننا أمام أديب يمسك بناصية اللغة، ويحتاج منا إلى دراسة وإنصاف.