أبي أحمد يترك الحياد في الصومال ويميل الى تركيا وقطر

تغذية التوترات في الصومال بمساعدة انقرة والدوحة قد تفيد اديس ابابا مؤقتا، لكنها تهدد بضرب الاستقرار في منطقة القرن الافريقي بأكملها.

لندن - وجدت تركيا وقطر في إثيوبيا استعدادا للتمرد على ثوابت السلام، وعدم قدرة على تحمل تكاليفه السياسة داخليا وخارجيا. وتوافقت الدول الثلاث على رعاية الرئيس محمد عبدالله فرماجو الذي لم يبذل جهدا في مواجهة التنظيمات المتشددة، وتعامل مع أنشطتها كوسيلة لإطالة بقائه في الحكم، ولم يدرك درجة التهديدات التي يمكن أن تمثلها أعمالها الإجرامية مستقبلا عليه ومن يقفون خلفه.
وإذا كانت الدوحة وأنقرة معروفتين بدعم المتطرفين والإرهابيين، فإن مصلحة أديس أبابا تسير عكس ذلك، غير أن نواة التقارب معهما بدأ يغري إثيوبيا، وأوجد تقييما جديدا بما يتضمنه من مصالح حال استمرار عمليات المتشددين. فالتوتر الدائم قد تجني ثماره مؤقتا أديس أبابا ولكنه يهدد بضرب الاستقرار في منطقة القرن الافريقي بأكملها.
وبعدما انكشفت حقيقة الأدوار الخفية التي تقوم بها كل من قطر وتركيا في الصومال، لجأ كلاهما إلى إثيوبيا كـ"عراب" أو وسيط لاستكمال المهمة في العلن داخل دولة تحتل أهمية إستراتيجية في منظومة التفاعلات الإقليمية، ما يعني المزيد من الإصرار على استمرار الصراعات والنزاعات في منطقة القرن الأفريقي، وابتعاد أديس أبابا عن الطريق المتوازن والمستقل الذي اتبعته قيادتها خلال العامين الماضيين، والذي أكسب توجهاتها السلمية والتنموية ثقة، وعزز رغبتها الكبيرة في تسوية الأزمات وتجنب المحاور المشبوهة.
بقدر ما تمثل الرعاية الإثيوبية لمصالحة أو "إذابة جليد" بين الصومال وجمهورية "أرض الصومال" خطوة سياسية جيدة، بقدر ما فتحت النار على إثيوبيا. فاللقاء الذي احتضنته أديس أبابا، برعاية قطرية، وفي حضور رئيس الوزراء آبي أحمد في 11 فبراير الجاري، بين الرئيس الصومالي فرماجو، ورئيس "ارض الصومال" موسى بيحي عبدي، أثار ردود أفعال حول توقيته وأهدافه، ونكأ جراحا عميقة تتعلق بالأطماع التاريخية لإثيوبيا في جارتها الصومال.

ابي احمد يخاطر بسمعة اثيوبيا ورصيده السياسي في صنع السلام
ابي احمد يخاطر بسمعة اثيوبيا ورصيده السياسي في صنع السلام

فتحت الخطوة بابا للهواجس حول حقيقة النوايا التي يضمرها آبي أحمد لاهتمامه بهذا الإقليم ومدى علاقته بالتحركات التي تقوم بها دول أخرى هناك، ووضع أديس أبابا في كفة واحدة مع كل من الدوحة وأنقرة، لأن سياساتهما تقوم على تأجيج الصراعات وليس إطفائها، والتفرقة والتقسيم بدلا من التعاون والوحدة، ومنح فرصة للحركات المتشددة للتمدد في المنطقة، وهو ما يسير في اتجاه مخالف للتصورات الظاهرة التي تتبناها إثيوبيا وعملت على تصديرها للعالم.
أثارت الزيارة التي يعتزم فرماجو القيام بها قريبا إلى هرغيسا، عاصمة أرض الصومال، برفقة آبي أحمد، الكثير من الانتقادات، حيث رفضتها قوى سياسية عديدة، كما رفضت اللقاء الذي عقد بين فرماجو وعبدي في أديس أبابا من قبل، وشككت في الأهداف البعيدة التي ينطوي عليها كل من اللقاءين، لأن انعقاد الأول والترتيب للثاني جاءا في سياق لم يتم التمهيد له جيدا، وحمل معاني مريبة لدى الأطراف التي سعت بقوة إلى تقريب المسافات بين مقديشو وهرغيسا، وحشرت بينهما أديس أبابا.
وهددت قوى محلية بعقد مؤتمر وطني لمناقشة التطورات في أرض الصومال، لأن سكان هذا الإقليم غير مستعدين لاستناف الحوار مع الرئيس فرماجو، وتعاملوا مع اعتذاره لما ارتكبته السلطات السابقة في مقديشو من تجاوزات عسكرية على أنه مناورة تقف خلفها قوى خارجية تريد الهيمنة على إقليم أرض الصومال صاحب الأهمية الحيوية.
 ظل فرماجو يحاول ان يمسك العصا من منتصفها، لكن جرفته علاقته مع الدوحة وأنقرة نحو المربع الذي يريدانه. 
أبدى فرماجو استعدادا لتقديم تنازلات كبيرة ليكون قريبا من رئيس حكومة إثيوبيا الذي تملكته رغبة للهروب من أزماته الداخلية إلى الإنخراط في مزيد من تفاصيل الصومال، والإيحاء بأنه لن يتخل عن تصورات سابقيه في إحكام قبضته على هذه الدولة المجاورة.
كشفت الزيارة المتوقعة لهرغيسا عن حجم الخلاف في سلطتها الحاكمة. ونشرت مواقع صومالية معلومات قبل أيام، بشأن قيام إدارة أرض الصومال بإرسال خطاب اعتذار إلى وزارة الخارجية الإثيوبية، أوضحت فيه عدم استعدادها للترحيب بفرماجو، وضمنيا برفيقه آبي أحمد، وعلى الأول تحديد الصفة التي سيجىء بها، هل كرئيس للصومال الفيدرالي، بما فيها أرض الصومال، أم أنه يعترف باستقلال أرض الصومال، ويزورها كرئيس لدولة مجاورة؟
وتخشى بعض الدوائر السياسية أن يؤدي التنسيق بين فرماجو وآبي أحمد، إلى زيادة حدة التوترات، وتخلي أرض الصومال عن الهدوء الأمني الذي عرفته خلال السنوات الماضية، ونجاحها في تطوير علاقاتها مع دولة الإمارات العربية المتحدة على قاعدتي السلام والتنمية. الأمر الذي أزعج كلا من قطر وتركيا، لأنه يضرب الكثير من مخططاتهما في المنطقة.

ظل الرئيس الصومالي يحاول ان يمسك العصا من منتصفها، لكن جرفته علاقته مع الدوحة وأنقرة نحو المربع الذي يريدانه

تريد الدوحة، مدعومة من أنقرة وتتصرف تحت عباءتها في هذا الفضاء، الانقضاض على ملف المصالحات في المنطقة، والذي قطعت فيه دولة الإمارات شوطا كبيرا، لتصدير صورة مغايرة عن قطر، جعلتها تقدم أموالا كبيرة لإثيوبيا وإغراءات لدعم استثماراتها في الصومال.
توقفت تقريبا العمليات العسكرية ضد حركة الشباب الصومالية المتشددة منذ وصول فرماجو إلى السلطة، وقيامه بتدمير الكثير من المؤسسات الأمنية والعسكرية، وأصبحت للحركة ما يشبه دولة داخل الدولة، أو بمعنى آخر دولة موازية، لها توجهاتها السياسية وأجهزتها العسكرية والقضائية، ودبت فيها الحياة مرة أخرى بعد تلقيها أنواعا مختلفة من الدعم القطري والتركي.
يبدو أن الدوحة وأنقرة لعبتا على هذا الوتر، وأقنعتا القيادة الإثيوبية بأن مصالحها يمكن أن تتضاعف مع ارتفاع مستوى التعاون والتنسيق في الصومال، ولم تفطن أديس أبابا إلى أن هذا التوجه سوف يأكل من رصيدها الذي تزايد مع عقدها اتفاقية سلام مع إريتريا، برعاية سعودية- إماراتية منذ نحو عامين.
وأعلن آبي أحمد تبني سياسة تعتمد على تصفير الأزمات الإقليمية، وتصدر المشهد في منطقة القرن الأفريقي لدوره المنتظر في الأمن والاستقرار، بينما يؤدي تنامي علاقته بمحور قطر وتركيا لوضعه في خندق واحد معهما، وتغيير الصورة التفاعلية الواضحة إلى أخرى قاتمة. 
لذلك مرجح أن ينعكس التوجه الغامض حيال الصومال وتقاطعاته مع تحركات قطر وتركيا سلبا على سمعة إثيوبيا، ويقلل من رصيد الثقة الذي حصده آبي أحمد، ويضعه ضمن زمرة القيادات الجامحة الساعية إلى الهيمنة، متجاهلا الميراث المتراكم من الأزمات العرقية والإثنية والمناطقية التي تعج بها بلاده، وحجم تشابكاتها مع دول الجوار، خاصة الصومال.  

قطر تقاوم الدور الإماراتي في الصومال
قطر تقاوم الدور الإماراتي في الصومال

قال عضو البرلمان الصومالي، إلياس علي حسن، في تصريحات إعلامية له قبل أيام، إن زيارة فرماجو لهيرغيسا لها قيمة فقط "عندما يكون هو من يتخذ قرار القيام بها ويضع أجندة واضحة يتم التفاوض على أساسها، لا إذا رافق آبي أحمد"، مؤكدا أن فرماجو سبب تدهور العلاقة بين الصومال وأرض الصومال منذ وصوله إلى السلطة.
تعتقد الكثير من التقديرات أن هذه الزيارة تقف خلفها دوائر خارجية، ونابعة من تحريض جهات ترى أن المصالحة بين مقديشو وهرغيسا كفيلة بوقف تمدد مشروعات دولة الإمارات الرامية إلى نشر السلام وشيوع التنمية في منطقة القرن الأفريقي، وإيجاد بيئة مواتية للاستثمار ومبشرة في مجال التخلص من الجماعات المتشددة والإرهابية، وتم استمالة إثيوبيا من خلال إغرائها بدور رئيسي منفصل في موانئ الصومال، لاسيما بربرة الواقع في أرض الصومال، والذي يساعدها على أن تتخلى عن كونها دولة مغلقة.
انتقلت علاقات إثيوبيا وأرض الصومال إلى مرحلة متقدمة من التفاهمات والمقاربات، فخلال زيارة موسى بيجي عبدي لأديس أبابا ولقاء فرماجو هناك، تم بحث فرص تعزيز العلاقات والتعاون الثنائي، ومناقشة تدشين مشروع ممر ميناء بربرة- إثيوبيا قبل نهاية فبراير، وهو أضخم مشروع يربط بينهما، ويساهم في ربطهما بشبكة من الطرق البرية السريعة والسكك الحديدية، ويوفر حزمة كبيرة من خدمات الشحن من وإلى الأراضي الإثيوبية.
وقعّت موانئ دبي العالمية في مارس/اذار 2018 مع كل من حكومتي أرض الصومال وإثيوبيا اتفاقاً في دبي، تصبح بموجبه إثيوبيا شريكا استراتيجيا في ميناء بربرة، علاوة على استثمارها في البنى التحتية اللازمة لتطوير ما يعرف بـ "ممر بربرة"، كبوابة تجارية لإثيوبيا الحبيسة. واحتفظت موانئ دبي العالمية بحصة 51 بالمئة في المشروع، وهيئة الموانئ في أرض الصومال بحصة 30 بالمئة، ولإثيوبيا 19 بالمئة.

اتفاقية ميناء بربرة استفزت قطر ودفعتها الى الدخول في عمليات الموانئ في الصومال

قد يكون هنا بيت الداء، حيث استفزت هذه الاتفاقية بعض الدول المنافسة، وعمدت قطر إلى دخول مجال الموانئ في الصومال. وفي أغسطس/اب الماضي احتفلت موانئ قطر بتوقيع عقد شراكة استثمارية لبناء ميناء هوبيو بإقليم مدغ وسط الصومال.
وقاد آبي أحمد الرئيس فرماجو إلى تحسين علاقاته مع دول الجوار، وتبنى زعماء الصومال وإثيوبيا وإريتريا في 27 يناير الماضي، في اللقاء الذي عقد في أسمرة، خطة عمل مشتركة للعام الجاري تركز على "توطيد السلام والاستقرار والأمن، وتعزيز التنمية الاقتصادية والاجتماعية، والتعاون مع الأصدقاء والشركاء على أساس الاحترام والمنفعة المتبادلة".
لعبت أديس أبابا دورا في تهدئة الأزمة التي نشبت بين كينيا والصومال العام الماضي، بشأن خلافات حول ترسيم المياه الإقليمية، عندما قامت الأولى بالتنقيب عن النفط في مياه تقع ضمن حدود الصومال. وجاءت هذه الوساطة بالتنسيق مع قطر التي دخلت بازار النفط الكيني. 
وكشفت شركة قطر للبترول في يوليو الماضي عن اتفاقية أبرمتها مع شركتي إيني الإيطالية وتوتال الفرنسية، اشترت بموجبها 25 بالمئة من أسهم الشركتين اللتين تقومان بالتنقيب عن النفط في ثلاثة حقول في سواحل كينيا على مقربة من حدود الصومال. وفضحت الاتفاقية طبيعة الدور الذي تقوم به الدوحة في النزاع حول الحدود البحرية بين كينيا والصومال.
تم تداول معلومات، قالت إن قطر من الجهات التي تمارس ضغوطا متواصلة على مقديشو لإنهاء النزاع بينها وبين نيروبي وفقا لمفاوضات ثنائية بعيدا عن محكمة العدل الدولية، وتستغل الدوحة علاقتها الجديدة النامية بأديس أبابا لتعظيم وساطتها مقابل تفاهمات إقليمية سوف تصب في صالح إثيوبيان بينها توسيع نفوذها في أرض الصومال.
أشار موقع "جوهر" الإخباري الصومالي عن مصادر وصفها بالموثوقة إلى زيارة سرية لمدة يوم لمقديشو، قام بها نائب رئيس المخابرات القطرية، عبدالله محمد مبارك صالح الخليفي، برفقة ضباط من المخابرات القطرية في 8 سبتمبر الماضي، التقى فيها مدير وكالة الاستخبارات والأمن القومي الصومالية، فهد ياسين، والذي عمل مديرا لمكتب قناة الجزيرة في مقديشو قبل تعيينه في هذا المنصب الحيوي.

رئيس المخابرات الصومالية لا يقبل أي رأي مخالف ويعارض اتخاذ الصومال سياسة خارجية مستقلة عن قطر

تحاول الدوحة السيطرة على مفاصل الأجهزة الأمنية في الصومال لخدمة أطماعها في دعم الميلشيات والتنظيمات الإرهابية، معتمدة على أدوار مختلفة تقوم بها شخصيات داخل الصومال، وباتت قطر من أكبر الداعمين لفرماجو منذ وصوله للسلطة.
وأصدر منتدى الأحزاب الوطنية المعارض، ويتزعمه رئيس الصومال الأسبق شريف شيخ أحمد، ويضم ستة من الأحزاب السياسية المعارضة، بيانا في 15 فبراير الحالي، حول الصراع الدائر في إقليم غدو، بسبب القوات التي أرسلها فرماجو وحكومته إلى الإقليم، وتعاونه مع قوات إثيوبية غير تابعة لبعثة الاتحاد الإفريقي في الصومال "أميصوم".
أبدى المنتدى أسفه لاستخدام المعدات العسكرية التي قدمتها قطر إلى القوات المسلحة الصومالية في سفك دماء الأبرياء وتدمير إدارة جوبالاند، لافتا إلى معارضته الشديدة لما وصفه بـ "تدمير فهد ياسين الهيكل الدستوري للقوات المسلحة الصومالية واعتياده استخدام القوات الحكومية في سياسات خبيثة بعيدا عن واجباتها".
وجه عبدالله محمد علي "سنبلوشي" رئيس جهاز المخابرات والأمن القومي السابق انتقادات شديدة إلى الحكومة الفيدرالية الصومالية وقيادتها، قائلا بسخرية "إن فهد ياسين معلم الثورة الجديدة يؤمن بأن القرار بيده، والدولة كشركة يديرها"، مضيفا إنه "لا يقبل أي رأي مخالف ويعارض اتخاذ الصومال سياسة خارجية مستقلة عن دولة قطر".
وتميل غالبية التقديرات السياسية إلى أن الدوحة عرضت على أديس أبابا توظيف هذا التغلغل لصالحها، وحثتها على غض الطرف عن تصرفات قطر الداعمة للمتشددين، وإبعادها عن التقارب مع الإمارات التي فتحت الباب أمام أديس أبابا لتسوية جزء معتبر من أزماتها الإقليمية. 
بالتالي يتسبب تطور العلاقة مع الدوحة في إثارة مخاوف إقليمية في القيادة الإثيوبية، وخسارة الدول المعتدلة التي وقفت إلى جوارها، وفقدان جانب من مصداقيتها في ملف السلام ووأد التوترات ومحاربة التطرف والإرهاب في المنطقة.