أدباء ونقاد يؤكدون أن نجومية الكاتب لا تحققها رواية واحدة

أمير تاج السر: حقيقة كتابة عمل إبداعي واحد والتوقف بعده، أو ما أسميه الهروب من سكة الأدب ليست ظاهرة جديدة.
عماد البليك: نعم يمكن للكاتب أن يبني مجده من عمل واحد فقط
رواية "أزهار عبّاد الشمس العمياء" هي الرواية الوحيدة للإسباني ألبرتو منديس

القاهرة ـ من أحمد رجب

رواية "أزهار عبّاد الشمس العمياء" هي الرواية الوحيدة للإسباني ألبرتو منديس، أعادت إلى الأذهان ظاهرة الرواية اليتيمة لكاتبها الذي يبني مجده الأدبي معتمدا على عمل وحيد، حقا كان رحيل الكاتب هو السبب في عدم مراكمة إبداعاته، لكن الكثيرين غيره في الشرق والغرب توقفوا تماما بعد نجاح عملهم الأول، فإلى أي مدى يمكن أن يسهم عمل وحيد لكاتب في تحقيق نجوميته؟
الأسباب مجهولة
يقول الروائي السوداني أمير تاج السر: حقيقة كتابة عمل إبداعي واحد والتوقف بعده، أو ما أسميه الهروب من سكة الأدب ليست ظاهرة جديدة، وإنما تتكرر دائما في الأجيال الكتابية المتعاقبة، وغالبا ما تكون هناك محاولات من قبل الكاتب قبل أن ينشر عمله الوحيد، أي أنه ليس العمل الأول، وإنما العمل الناضج الذي سيؤهله للظهور كاتبا محترما، سيبقى ما أنجزه عالقا بأذهان الناس لفترة طويلة، ولا يهم إن كتب بعده شيئا أو لم يكتب، وترد إلى ذهني دائما رواية مثل: "الفهد للإيطالي" لومبيدوزا، أو "البركان" للأميركي مالكولم لاوري، وكلاهما من الروايات التي وضعت أصحابها في مكانة متقدمة من سماء الأدب، لكنهما لم يكتبا غيرها. 
ولا أحد يدري ما هي الأسباب الحقيقية لذلك، لكن غالبا كانت لدى الكاتبين، وغيرهما من الكتاب المماثلين، شحنات مزعجة، تمثل تجارب حياتية، معينة، أو مواقف قاهرة مرا بها، أجبرتهم على الكتابة، ولم يعد ثمة ما يقال.
ويضيف صاحب "صائد اليرقات": أذكر في نهاية الثمانينيات من القرن الماضي، حين كنت أبحث عن ناشر لروايتي الأولى: "كرمكول والحصانة القروية"، وأطرق كل الأبواب التي أظنها متاحة، بلا جدوى، إلى أن أهداني أحد الناشرين رواية ضخمة، قال لي إن عاملا بسيطا قام بكتابتها، مستخدما أبسط طريقة للكتابة، وأبسط لغة، هي اللغة التي يستخدمها في حياته اليومية. كانت الرواية مشحونة أيديولوجيا كما أذكر، لكنها بينت بلا شك، معاناة أولئك العمال البسطاء، في البحث عن لقمة العيش، وفي الحفاظ عليها حين يجدونها، برغم كل ما يواجههم.
إذن ما كتبه العامل، كانت تجربة جديرة بكتابتها، وكان ذلك في الثمانينيات من القرن الماضي، ولا نستطيع أن نطبق نموذجه على حاضرنا، بعد أن أصبحت الرواية تكتب بسبب وبلا سبب، وبلا أي تجربة حياتية أو قرائية من البعض، ولدرجة أن هناك من يسألني دائما عن كيفية كتابة رواية، من دون مشقة الاطلاع على قواعد الكتابة، أو قراءة من سبقه من الكتاب، أي أن الكتابة أصبحت من ضعف الشخصية، بحيث لا ترهب أحدا ولا يرتبك أحد حين يطرق بابها.
طاقة التجاوز

هناك ثلة من المبدعين، عاشوا على ميراث نص وحيد
د. حسام عقل

ويقول الأكاديمي المصري حسام عقل: ليس من المنطقي أو المعقول أن تقوم شهرة أي مبدع على عمل واحد فقط لا غير ولكن هناك ظروف معينة  اقتصادية أو سياسية أو اجتماعية أو ثقافية تجعل من العمل الواحد ذائع الشهرة بين الناس وهذا استثناء لا يمكن القياس عليه مثل رواية "ذهب مع الريح" أو "كوخ العم توم" وغيرهما، فالأديب يحكم عليه من خلال تقصي مجمل أعماله نقديًا أو تحليليًا فبعضها يكون جيدًا والبعض يكون متواضعًا، فموضوع العمل الواحد لا أعتقد أنه قاعدة يمكن الانطلاق منها أو يمكن من خلالها تقييم الأعمال الإبداعية لأي مبدع.
ويضيف عقل: هناك ثلة من المبدعين، عاشوا على ميراث نص وحيد، حقق لهم ما يأملون من الذيوع، فاستناموا لذلك كل الاستنامة، وبقوا "حبيسي النص الواحد". و مثالا  لا حصرا  لم يستطع الشاعر أحمد فتحي الخروج من عباءة قصيدة "الكرنك" التي حققت له ذيوعا  لافتا، خصوصا بعد أن غرد بها محمد عبدالوهاب. استنام أحمد فتحي "لنجاحات النص الأول ولم يستطع الخروج من عباءته مطلقا. وفي ساحة السرد بقيت رائعة "عادل كامل": "مليم الأكبر" حالة نجاح وحيدة، لم يستطع أن يتجاوزها. ولم يأنس في نفسه من الإرادة النافذة ما يستطيع به أن يتجاوز نجاحات التجربة الأولى وإغراءاتها. 
ولم يسلم النقد الأدبي من الأمر نفسه فثمة من النقاد من تشبعوا بمرحلة نقدية بذاتها، فأقلموا أدواتهم تكييفا بها، كالبنيوية أو التفكيكية أو الهرمنيوطيقا أو نقد استجابة القارىء أو نقد الأنساق الثقافية، فعاشوا بدورهم حبيسي نجاح "التجربة النقدية الأولى".
وأرى – والكلام لحسام عقل- أن هذه ظاهرة عالمية، فلم يستطع باولو كويلو، أن يقارب نجاحات "الخيميائي"، التي مثلت حالة نجاح شديد الفرادة والخصوصية، فترجمت إلى ثمانين لغة، وبيع منها ما يقارب مائة وخمسين مليون نسخة، وهو سقف نجاح كان من المتعذر تكراره. 
وفي تقديري أن على الكاتب ألا يستنيم لـ "خدر" النجاحات الأولى. فنجيب محفوظ مثالا  لا حصرا ، كان نموذجا فذا لطاقة التجاوز المستمرة. فلم يسجن طاقته السردية الخلاقة في قفص النموذج الواقعي الذي حقق له أعز النجاحات، فطوى صفحته إلى النماذج الفانتازية والرمزية والفلسفية في "قلب الليل" و"رأيت فيما يرى النائم" و"أحلام فترة النقاهة" وغيرها من النصوص التي تمرد بها على ذاته، وهو بعينه ما صنعه يوسف إدريس عبر اثنتي عشرة مجموعة قصصية، تغايرت بها الرؤى، فلم تكتب "النداهة" أو "لغة الآي آي" على النمط الذي كتبت به "أرخص ليالي" ولم يسمح إدريس لذاته أن يكون حبيس النجاح الأول. وهو ما صنعه توفيق الحكيم الذي تقلبت نصوصه المسرحية بين الواقعية والتعبيرية والملحمية والعبث بنمط يوجين يونسكو. وبالجملة فإن كلمة السر للاستمرار في رحلة الإبداع وملحمتها، هي "طاقة التجاوز" المتصلة.
ظاهرة نسائية

يمكن للكاتب أن يبني مجده من عمل واحد فقط
عماد البليك

ويقر الروائي السوداني عماد البليك بالظاهرة ولا يربطها بالمرأة، ويضيف: نعم يمكن للكاتب أن يبني مجده من عمل واحد فقط، على سبيل المثال مارجريت ميتشل في "ذهب مع الريح" وأيضا إميلي برونتي في "مرتفعات وذرنج"، خاصة إذا ما رحل هذا الكاتب مبكرًا فلم  يكمل مشروعه، 
والفكرة أنه بإمكان عمل أن يختمر ويلخص فكرة وتجربة هذا الإنسان، وليس شرطًا في أي سن قد كتبت هذه الرواية، وفي السودان على سبيل المثال تأسست الرواية كفن حديث، عندنا على الكاتبة ملكة الدار محمد من عمل واحد لها هو "الفراغ العريض" كتب في 1948 ونشر في 1970 وكانت كافية لتصنع اسمها، بل إنها تسبق الطيب صالح زمنيا باعتبار توقيت الكتابة وليس النشر ويعتبرها بعض النقاد مؤسسة الرواية السودانية.
ومن وجهة نظره أن المرأة أقدر على هذا من الرجل، ليس لي من تفسير أو معادلة لذلك، لكنها مجرد ملاحظة. أما توقف الكاتب بعد العمل الأول، فربما لظروف متعلقة بالمعاش، لكن أعتقد أن الظروف الأقوى هي قضية التحفيز باتجاه فكرة الكتابة نفسها، إذ أن الشخص يشعر بأنه لم يعد قادرًا على البوح أو القول. 
وثمة أسباب أخرى، فنجاح عمل الكاتب الأول قد يضعه في دائرة ضغط نفسي وتخوف من الكتاب الثاني، أن يعجز فيه عن مسايرة ما أنجزه، وهنا يحدث الانقطاع، وهناك بعض الكتاب توقفوا ليس بعد عمل واحد بل ربما بعد عملين أو ثلاثة أو الفوز بجائزة كبيرة عندما شعروا بأن هناك رقيبا جديدا يتشكل. (خدمة وكالة الصحافة العربية)