أروى عثمان تقرأ صور اليمن الثائر في 'ربيع الفرجة'
عمت الحركات الاحتجاجية العالم العربي وهي سيرورة طبيعية وتاريخية، لما يعتمل داخله، من استبداد الأنظمة الحاكمة على مدى عقود من الزمن، والتي انحصرت كل مهمتها في القتال المستحكم على السلطة والثروة مقابل معاناة الشعوب من الفقر وغياب التنمية، وتفشي الأمية، والحروب والعزلة، والتراتبية الحادة في تقسيم المجتمع عموديًا إلى طبقات إلهية، وسفلية، ثم الهشاشة في بنية التعليم والثقافة، وتفشي الطائفيات، وغياب منظومة حقوق الإنسان الأساسية..إلخ. ففي اليمن، الذي لم يتخط عتبة الدولة في الألفية الثالثة، مازال يتخبط فيما دون الدولة لأسباب كثيرة، والسبب الرئيس، البنية القبلية شديدة الوعورة ومنظومتها القائمة على سيادة روح الغلبة وشوكة العصبية، والتي تستنفر، وتتحد مكونة التكتلات، ثم تنفض عنها، وتقاتلها، بل وتستشرس أكثر وتظهر ماهو خفي من أوجهها المتوارية عندما تشتم رائحة التغيير، أو حتى بوادر التفكير بالتغيير، أو رائحة دولة تعتمل من بعيد، فالعصبية والغلبة هما المبنى والمعنى المستحكم في اليمن.
كان لليمن نصيب من ذاك الحراك الاحتجاجي، الذي شهدته بعض الدول العربية انطلاقا من يناير/كانون الثاني 2011 مثل، تونس، ومصر وليبيا وسوريا، فـ"تيمنن" الربيع في اليمن في 11 فبراير/شباط، ودخلت الحالة الاحتجاجية في أكثر من طور ومسار إلى أن انزلقت من ورقة السلمية الهشة إلى جذور العنف والعنف المضاد لتفاقم تشظي بنية المجتمع اليمني الموسومة والمحكومة بالتشظي أصلًا، وفقا للباحثة أروى عثمان في كتابها "ربيع الفرجة.. سيميولوجيا المشهد الاحتجاجي في اليمن 2011-2012" وأكدت أن اليمن كان ومازال يرزح منذ قرون في ما دون الدولة وما يلازم ذلك من انعدام سبل الحياة الإنسانية الكريمة التي تغدو مستحيلة في ظل الانقسامات الأفقية والعمودية، والحروب الأهلية الطاحنة بين القبائل، أو على السلطة، وهي حروب كانت تفرز إلى السطح بالمزيد من عناوين الجماعات المسلحة كـ" جماعة الحوثي" التي خرجت من رحم الحرب الدائمة، وآخرها الحروب الست التي مهدت لحضورها الساحق.
وأوضحت عثمان أن الاحتجاجات في اليمن اتسمت في ساحات الحرية والتغيير المختلفة منذ بداياتها بطابع السلمية لـ" الصدور العارية" لمجاميع شبابية، كان مطلبها الأول هو دولة مواطنة تكفل حق الجميع، لكن سرعان ما انكسر المسار السلمي الهش والمؤقت للثورة، بـ" عسكرة الثورة"، مع دخول القوى التقليدية المحاربة من القبيلة والأحزاب" اللقاء المشترك" ورجال الدين" الإسلام السياسي" وزبانيتهم إلى الساحة وتوشى خطاب الاحتجاج عبر المنصات الإعلامية والمسجدية والكتابات ومنصات ساحات الحرية والتغيير، خصوصا " منصة ساحة التغيير بالعاصمة صنعاء" بالعنف والأحادية والإلغاء، كونه خطاب القوى المهيمنة، مما أفضى إلى دخول الاحتجاجات في لجة الصراع والاحتراب الداخلي والتهميش والإقصاء للأطراف الأخرى من النساء والشباب والقوى اليسارية والمدنية.
اتخذ كتاب عثمان الصادر عن مؤسسة أروقة من الصورة مسارا للتعرف على بعض ما كان يمور في ساحة التغيير. منطلقا من الإشكال الرئيس التالي: ما هي مكوّنات المشهد الفرجويّ الذي تشكّل في ساحات التغيير في اليمن بين الفترة 2011-2012؟ ويتفرع هذا الإشكال بدوره إلى أسئلة فرعية تهدف إلى معرفة الدلالات السوسيولوجية والسيميولوجية لــ "ربيع الفرجة"، متخذين من المشهد البصري الثوري اليمني مدخلًا للغوص في طبيعة الاحتجاجات، وأثر القوى الفاعلة فيها وأهدافها السياسية.
نحا الكتاب أيضا منحى الدراسات البصرية، لما أضطلع به خطاب الصورة الفوتوغرافية من أدوار حاسمة في تشكيل موتيفات الساحة، وكذلك الرأي العام وفرجوياته المختلفة فلقد كان هذا الخطاب مهيمنًا على الفضاء المحلي والدولي، وعليه فقد عمل على استنطاق الصورة وصولًا إلى المعنى/ الدلالة وفق مقاربة سيميولوجيا رولان بارت.
ورأت عثمان أن ثمة دوافع عديدة جعلتها تطرق موضوع الاحتجاجات، ترتبط جميعها بالسؤال الأهم:لماذا هذا الكتاب؟ حيث يتداخل الذاتي بالموضوعي نأتي على أهمها: أولا التعمق في كنه الاحتجاجات السوسيو- سميولوجي، والاحتجاج "البصري" على وجه التحديد، وما آلت إليه الأحداث المشهدية؛ بمعنى قراءة ما وراء الصورة الفوتوغرافية التي لعبت الدور الكبير والمكثف في أحداث 2011، عبر المعنى والدلالة التي تعدّ جوهر المنهج السيميولوجي لقراءة الصورة. ثانيا من خلال متابعاتنا البحثية للمقاربات المختلفة التي اشتغلت على حدث" احتجاجات 2011" لم نجد سوى دراسات علمية قليلة، لا ترقى إلى مستوى الحدث الذي ما تزال امتداداته سارية حتى اليوم، فجلّ الكتابات التي اشتغلت على حدث 2011، كانت ذات منحى سياسي/ صحفي/ حقوقي، ونعتقد أن السبب في ذلك يرجع إلى شحة الإمكانات المادية المخصصة للبحث العلمي، وأيضًا تعطل الجامعات والمراكز البحثية" القليلة" بسبب الحرب، وهجرة الكوادر إلى المنافي. ولذلك كله لم نعثر على دراسات علمية لتمثلات المرئي، خصوصًا الصورة.
وسعت عثمان إلى قراءة تشكلات الساحة وأساطيرها باعتبارها جغرافية ممتدة في ربوع اليمن لممارسة فعل الاحتجاجات بوصفها فرجة نوعية غير مسبوقة في التاريخ اليمني الحديث والمعاصر الذي دخلت عليه الساحات كحدث جديد وفارق بتنويعاتها بيئة نفسية-اجتماعية ثقافية مولدة للانفعالات والمشاعر والأحاسيس والصور الذهنية الحقيقية والخيالية وللمواقف وللأفكار والمنظومات الأيديولوجية.
وقالت "شكلت ساحة التغيير وكل العمل الاحتجاجي مجتمع الاستعراض فعملت المنصة والمسجد "الخطاب الديني" اللذان هيمنت عليهما القوى التقليدية والأصولية، على تخدير الجمهور بتحريك الصور والتقنيات الخاصة بها ليصبح الجمهور مسحورًا بها، وكما قال ديبور "حيث يتحول العالم الواقعي إلى صور بسيطة. تصبح الصور البسيطة كائنات واقعية، وحوافز فعالة لسلوك في حالة تنويم".وكون الكاتبة من الذين كانوا في ساحة الاحتجاج منذ البداية، فقد عكفت على تدوين الملاحظات، والشعارات، إلى جانب التصوير، والكتابة والنشر، وعند الاشتغال على هذا البحث عملت على طرح أسئلة لذوي الرؤى الثقافية والسياسية المنتمية سياسيًا وغير المنتمية، ومن أعمار ومهن ومهام مختلفة، سواء كانت من الفاعلين في الاحتجاجات، أو من ذوي الأصوات الخافتة، كالقوى المدنية والنساء والشباب أو من الصوت الحاسم للأحزاب والقوى التقليدية. واستطلعت الآراء التي اختلفت وتقاطعت، وتناقضت في مقاربتها لمعنى الاحتجاجات والممارسات المختلفة من قبل المحتجين، وعلى الأخص القوى الفاعلة، وخطاب الصورة، وبجانبه خطاب الكتابات والشعارات.وشمل الاستطلاع من يقيمون في اليمن، ومن يقطنون خارج اليمن،على اختلاف بيئاتهم فمنهم من سكنى المدن، ومنهم من القبائل والريف. كل تلك الآراء كانت مرتكزي في هذا الكتاب.
انطلقت عثمان من القراءة السوسيولوجية للمشهد الاحتجاجي اليمني، الذي طبع الحالة اليمنية في معظم مدن اليمن، ثم قراءة المشهد الفرجوي الاحتجاجي في اليمن. فرجويات أشكال التعبير والقوى الفاعلة. ثم قرأت الصورة الفوتغرافية بالأخص، وأشكال التعبير الأخرى، باعتبارها ممارسة فرجوية. فقد ركزت على المشهد الفرجوي الاحتجاجي، "البصري"، والتمثلات الاجتماعية والفكرية، والنفسية، والسياسية، لما يعتمل في ساحات الاحتجاج وانعكاسه على الفضاء البصري.
اعتمدتعثمان تحليل ثماني صور سيميولوجيا، واختيرت الصور قصديا لما يعتمل في الساحة، من ضمن فعاليات الساحة، ثم ما بعد الساحة(بعد التسوية بالمبادرة الخليجية 3 أبريل 2011)، وما تجسد من تمثل في الفعل الثقافي والفني وانفتاحه على الأطياف المختلفة: الجرافيتي تحت مبادرة شبابية اسمها "لوّن جدار شارعك"2012. وأخير رصدت مآلات الاحتجاجات، وإلى أين أودت باليمن واليمنيين، ومشهدية الفبرايرلجيين" الفبررة"، تلخص الأنوميا الاحتجاجية. ليشكل الكتاب بالنهاية واحة معرفية للاطلاع على أفق الدراسات النقدية الحداثية وما بعد الحداثية، خصوصًا لأحد بنياته ألا وهي السيميولوجيا للمشهد الاحتجاجي عامة، وسيميولوجيا الصورة بشكل خاص عبر مقاربة رولان بارت.
ورأت أن مشهد ساحة التغيير تزواج كل من السياسي والديني بسعار جامح وفرض الهيمنة والوصاية على العقل والأدوار بزعم الأحقية في السلطة والثروة، والثورة أيضا والأحقية في الاستحواذ على الديني، وهذا ما يطبع اليمن منذ عقود من الزمن، حيث جرت أسلمة المجتمع والتعليم والجيش والثقافة والفنون والنساء والحياة، وجرمت التعددية والتنوع في غمرة تلك الأسلمة الفرجوية، لينسحب كل هذا على الاحتجاجات باعتبارها جزءًا لا يتجزأ من الطبيعة المجتمعية لليمن.
وأضافت عثمان أن اليمن وقعت بين فرجتين تصارعيتين، للعليين من قبيلة/لحمة واحدة، "القائد التاريخي"، و"القائد الضرورة"، و"سادس الخلفاء الراشدين": علي عبدالله صالح الأحمر، و"الثوري الضرورة"، و"حامي الثورة وحارسها": الجنرال علي محسن الأحمر. تحولت فرجة الأوهام وخدرها، أو أحلام اليقظة الثورية، وصرف تعاويذ القداسة، التي أسبغت على الفعل الاحتجاجي، إلى لاهوت عصبوي وعصابي، خصوصًا من قبل أحزاب الإسلام السياسي، والجماعات المنضوية تحت عباءتهم.
واليوم ينبغي أن يكون هذا اللاهوت/ المقدس" السوسيو- ثقافي" موضوعًا للدرس والتفكير، ما الذي يجعل هذا الشعب ينقاد في غمضة يوم، وفي أكثر من ميدان، يهرول معتصمًا بكنتونات وموزعًا بين اصطفافات أصلها، أصلها واحد. إن الكثير من الأكاديميين والمشتغلين في الحقل الثقافي، والبحثي، عاشوا الحلم، والأوهام وصوروا الواقع وقرأوه بمسارات فوق واقعية، فانتازيا بامتياز، بالرغم من أن بحوثهم السوسيولوجية تفند بصراحة أن النظام القبلي وعر، وأن سبب عدم وجود الدولة هي القبيلة، وأنها سبب الركود، والتعصب،..إلخ، ومع الاحتجاجات انساقوا مع عملية تقديس الوهم، كدعوة يقنية وأيقونية، فـ" حال نجاح الجماهير في تغيير النظام، فإن المتوقع تراجع القبيلة مستقبلًا، رغم أن هناك نخبًا قبيلية مشاركة في الثورة الشعبية، ذلك أن أبناء القبائل والنخب القبلية باتوا مرهقين من استمرار القبيلة، وباتوا يعانون من الثأرات والمشاكل، فبعض شيوخ القبائل هربوا إلى السعودية، وبعضهم الآخر قتل، وهكذا فان التوجهات القبيلية من المحتمل أن تتراجع بسبب ترشيد مصالح النخب القبلية. فالذي يسعى إلى الحفاظ على البنية القبلية هو النظام، أما النخب القبلية فقد بات كثير منها راغبًا في تغيير النظام، واستبداله بنظام يقوم على المواطنة المتساوية منه، ويتيح التنافس على السلطة على أساس تكافؤ الفرص"
وتابعت "كان الخروج إلى الفضاء العام، ساحات الاحتجاج "ساحة التغيير"، مفتتحا عتبة الحرية والتغيير بطاقات الشباب والتجمع المدني من ناشطين، وكتاب وصحفيين، وكذلك بعض الحزبيين، والنساء، ثم انضم إليهم العاطلون عن العمل، والفقراء والريفيون، ثم شباب القبائل، جميعهم رفعوا شعار التغيير السلمي" الشعب يريد إسقاط النظام، وارحل"، وكان المستهدف بالشعارين علي عبدالله صالح وكأنه "ثأر شخصي" وليس "إسقاط نظامه ومنظومته الاستبدادية والتوريث والتفقير..." أما المطلب الجديد القديم فقد ظل: دولة مدنية/ دولة موطنة ومواطنة متساوية-،هكذا كانوا يتكّئون على "المواطنة والمساواة"، ولكن سرعان ما دبّ الانقسام بسبب عسكرة حركة الاحتجاجات والطلب على الحماية العسكرية القبلية لمواجهة الآلة القمعية للنظام حيث انقسمت القبيلة، والمؤسسة العسكرية، وجهاز الدولة برمته لينضّم المنشقون عن السلطة إلى الاحتجاجات، ومن هنا بدأ المسار الآخر للاحتجاجات في اليمن، تمثلّ في عسكرة الفضاء العام للاحتجاجات خصوصا المنصة وخطابها الأحادي والإقصائي، بما فيه الفعاليات العادية من أغان وأناشيد، وحتى سُيسَّت الصلوات- صلاة الجمعة تحديدا- وصارت خطبها سياسية أكثر مما هي دعوية للإيمان والتقوى، ونضحت بالكثير من العنف، والتحريض على طلب الشهادة، وتأجيج الصراع الطائفي المذهبي، وقد تحقق ذلك على أرض الواقع بفرجة مؤلمة قاسية.
وأكدت عثمان أن فرجة الاحتجاجات ومآلاتها، هي المجتمع المشهدي المصغر "وهي جزء لا يتجزأ من المشهد المجتمعي الكبير بكل تلاوينه. فساحات الحرية والتغيير تشكّل بيئة نفسية-اجتماعية ثقافية مولدة للانفعالات والمشاعر والأحاسيس والصور الذهنية الحقيقية والخيالية وللمواقف وللأفكار والمنظومات الأيديولوجية. لقد تصارعت عقليتان "كتل صراعية" في الفعل الاحتجاجي، عقلية القوى التقليدية ذات المرجعية القبائلية الدينية والعسكرية، وعقلية الشباب غير المتحزب أو من الحزبيين خارج الإسلام السياسي، والمعتصمين بحلمهم الذي يريدونه متحققا من نضالهم وخروجهم إلى الشارع هو اليمن الجديد، بحسب" ما قرأوا عنه" و"حلموا به"، كما كشفت إجابات المبحوثين. وللأسف كانت الغلبة لقوى الهيمنة على اليمن عامة، والساحة بشكل خاص، وكان المشهد بائسا بتعطيل قدرات الشباب، وتحولت الفرجة السلمية المرحة المصاحبة للبدايات، إلى "بؤس الفرجة" بعد دخول القوى التقليدية.