أزمة الإسلام السياسي.. أحزاب الله

الاسلاميون يطوعون النص ليتلاءم مع ما استجد من مفاهيم في المجتمع الحديث وهم المسكونون بعمق في الصراعات المذهبية فإذا اعتقد أحدهم أن الاسلام لا يعادي الاشتراكية اعتبر الاسلام نظاماً اشتراكياً.

بقلم: محمد علي مقلد

إن أخطر ما يعاني منه الاسلام السياسي، بل أخطر ما في الاسلام السياسي، هو اليقين على الصعيد السياسي والاجتماعي والاجرائي، مثل العلاقة مع الآخر، الحقوق، الحريات، إلى غير ذلك، إن اليقين الذي يجب أن يحمله المؤمن في قلبه هو اليقين بالميتافيزيقيا «وبالآخرة هم يوقنون» لماذا؟ لأنه ومن الناحية التاريخية كانت عصور اليقين في حياة البشر هي عصور الانحطاط. لقد كان اليقين سمة البدائي، فسادت حينها الأساطير التي لم يتطرق إليها شك، وكذلك الحال في العصور الوسطى كان المعتقد اليقيني هو الحالة العقلية السائدة، سواء أكان على الضفة الشمالية للمتوسط أم على الضفة الجنوبية، أو في الشرق الأوسط وصولاً إلى أواسط آسيا، يقين الحقائق المقدسة تقديساً دينياً، أو اجتماعياً، أو يقين المعرفة التي تخشبت في الفلسفة القديمة، لولا الحركة السفسطائية المظلومة دوماً في تاريخ الفلسفة اليونانية.

في مقابل ذلك، كانت عصور الشك والنقد والمساءلة، هي عصور التقدم والنهضة، كما كان الأمر في النهضة الاسلامية، ولا سيما القرون الثلاثة الأولى أو في أوروبا في مرحلة الرشدية اللاتينية (راجع: جينيفر مايكل هيكت، تاريخ الشك، المركز القومي للترجمة 2014)، بل أوجبت الماتريدية من الأحناف الشك على المكلف، لأنه إذا لم يشك كان مقلداً في العقائد، وهذا ممنوع، ولا يبدأ الشك إلا عندما ينتهي التقديس.

قليل من الشك يحي عقل الإنسان، الشك ليس سلباً ولا هدماً، إنه الرافعة التي يتكئ عليها العقل الإنساني للوثوب إلى مواقع فكرية وحضارية جديدة، نخضعها بدورنا لدورة الشك واليقين من جديد، وهكذا نتقدم، وهكذا ندخل في الحداثة، وتالياً ما بعد الحداثة. فبين الشك واليقين جدلية، على نحو ما بين الفكر والواقع من جدلية في الأدبيات الماركسية. هذه الجدلية تدل على ارتباط عضوي، إن مع اليقين شكاً، وإن مع الشك يقيناً، وليس بعده كما في قوله تعالى: إن مع العسر يسراً وليس بعده بل معه. ولولا هذا التلازم والتكامل بين اليقين والشك، لما عرفت البشرية في تاريخها أي منجز حضاري في قطاع معرفي أصلاً.

إن أهم أسباب العنف في الممارسة الدينية هو اليقين الديني تجاه الآخر، وهنا نذكر بمقولة نيتشه المشهورة: ليس الشك وإنما اليقين القطعي هو الذي يقتل. وهو ما يفسر هذا العنف في المجتمعات غير الدينية، والذي تمارسه الدول الغربية في العالم الثالث لكن الغرب - وبكل صلافة - يَسِم الإسلام دوماً بالإرهاب، وكأنه غريب عنه أو بريء منه. ومن أجل ذلك، يحرص الاسلام السياسي على نشر وسيادة العقلية الدوغمائية بين أتباعه. إجابات جاهزة عن كل سؤال يزيح عن عقله عبث التساؤل والنقد، الذي أمر اللّه تعالى به (بل نتبع ما ألفينا عليه اباءنا)، والآية مطلقة، وتعبر عن دعوة أبدية إلى المداومة على وضع التراث موضع المساءلة، والحال أنه لا مكان لهذه العقلية الدغمائية في عصر انهيار اليقينيات حتى في العلوم. وبكلام آخر، الأحزاب الدينية يحمل أصحابها العقلية الدغمائية ويشاركها في ذلك جلُّ الأحزاب العلمانية في المنطقة العربية إن لم يكن كلها.

الصراع المذهبي

ومن أزمات الاسلام السياسي أيضاً الصراع المذهبي، وهو من الأمراض التاريخية المزمنة التي تحكمت بالحياة العربية والاسلامية في العصر الحديث، ومنعت العرب من دخول حلبة الحضارة، فالتخلف لم يكن وليد فطرة اختصها اللّه تعالى للعرب، بل هو وليد تطور تاريخي وظروف فكرية، وعوامل اقتصادية واجتماعية، ومذهبية لها الدور الأكبر، كل ذلك والإرادة مشلولة، لأن وعي التخلف يعجز عن البناء، وإن كان يجيد الهدم لما بقي من بناءات فكرية تنويرية، والدكتور مقلد لم يسلط الضوء كثيراً على أثر الصراع الطائفي في تدهور الأمة في تعليقه النقدي على أفكار مهدي عامل.

قالها الجبرتي في تاريخه: لقد أيقظت مدافع نابليون الشرق من سباته العميق، لكن يقظتنا لم تكن حاسمة ها هي المذهبية والطائفية تتلقفنا من كل حدب وصوب، إننا ننتحر وهذا يذكرنا بمقولة أرنولد توينبي في دراسته عن الحضارة «مختصر دراسة للتاريخ» يقول: إن الأمم لا تُقتل بل تنتحر. ولا ينبغي الاسترسال فيما تجره هذه الصراعات من هدر للطاقات الاقتصادية والفكرية، فالكل ماثل أمام أعيننا، ونحن سادرون، والأمم تتكالب على ثرواتنا.

وحتى تدرك عبثية الصراع المذهبي الطائفي، وتدرك تفاهة الأسس التي يرتكز عليها، أشير إلى مسألة مهمة بل غاية في الأهمية، وهي موضوعة الإمامة كمفردة من مفردات الفقه السياسي الاسلامي، التي قال عنها الشهرستاني في الملل والنحل: إنها أعظم خلاف بين الأمة، إذ ما سلَّ سيف في الاسلام على قاعدة دينية مثل ما سلّ على الإمامة في كل زمان (راجع الملل والنحل 1/22).

البعض قد يناقش هل هي قاعدة دينية حقاً؟! يرى هذا البعض، أن نظرية الخلافة أو الإمامة في الاسلام، هي انقلاب سياسي وقع في تاريخ الاسلام على مبدأ الشورى القرآني بعد وفاة النبي، وقد تنبأ القرآن بهذا الانقلاب - والكلام لهذا البعض - بقوله تعالى (وما محمد الا رسول قد خلت من قبله الرسل أفئن مات أو قتل انقلبتم على اعقابكم ومن ينقلب على عقبيه فلن يضرّ اللّه شيئا (آل عمران/144).

سواء أكان صالحاً أو طالحاً، إن في القرآن الإعلان الحاسم لموت السلطان، أو الخليفة، أو الإمام، أو الرأس، فهو يرى أن القرآن العظيم قد نسخ كل الأساليب التاريخية لرئاسة الفرد على الكل، لتحل محلها رئاسة أو قوامة كل الناس، ويستدل على ذلك أن القرآن الكريم وضع تشريعاً إسلامياً للقاضي العادل، ولم يضع التشريعات الاسلامية للرئيس العادل، أو الملك العادل، وأن ذلك تمّ في لحظة التنوير القرآني، هذه اللحظة التي ضاعت منذ ما يقرب من أربعة عشر قرناً.

بقيت بعض الأحافير لهذه النظرية المقتولة في الفكر السياسي عند الخوارج وعند أبي بكر الأصمّ من المعتزلة، الواجب عند هؤلاء إنما هو إمضاء الحكم بالشرع، فإذا تواطأت الأمة على العدل، وتنفيذ أحكام اللّه تعالى لم يحتج إلى الإمام ولا يجب نصبه (ابن خلدون، المقدمة 172 طبعة الشعب). وإذا أردنا أن نمثل لهشاشة هذا النزاع الذي مزَّق الأمة إلى ثلل متقاتلة، فهي تشبه حال رجلين، تنازعا على كنز في منزل مهجور، فدخله ثالث ليخرج عليهما بعدها، ويخبرهما أن لا كنز أصلاً يستدعي أن تتقاتلا عليه.

إذاً القدر المتيقن أن القرآن يدعو إلى نظام الشورى أي نظام المؤسسات، لكن الشورى في الفقه السياسي الاسلامي مقطوعة اليدين والرجلين، فهي غير ملزمة للحاكم (الخليفة) فصار وجودها كعدمها (راجع، كتب الآداب السلطانية، الماوردي، أبو يعلى الحنبلي). هذا الاقصاء لنظام الشورى والمؤسسات، ترك الفكر السياسي في صراط التخبط، خذ مثلاً العلاقة بين الحاكم والمحكوم في الفقه السياسي الاسلامي، فقد ادعى البعض من دعاة تحديث التراث تماهي مفهوم الانتخابات الديمقراطية مع مفهوم البيعة في الاسلام، وغفل عن أن مفهوم البيعة يقوم على التكليف، بينما تقوم الانتخابات على الحق، فلا تعادل بينهما، فالبيعة ليست من حق المبايعين بل من تكاليفهم وواجباتهم، وأن من لا بيعة في عنقه مات ميتة جاهلية، كما في الأدبيات الاسلامية، خلافاً لظاهرة الانتخابات التي تعتبر في الفقه السياسي الحديث من حق الناخبين، وهكذا كثير من المفردات التي لا يسع المقام لذكرها وعرضها.

والاسلاميون يطوعون النص ليتلاءم مع ما استجد من مفاهيم في المجتمع الحديث، وهم المسكونون بعمق في الصراعات المذهبية، فإذا اعتقد أحدهم أن الاسلام لا يعادي الاشتراكية، اعتبر الاسلام نظاماً اشتراكياً، فكتب الدكتور مصطفى السباعي كتابه «اشتراكية الاسلام» وإذا اعتقد بديمقراطية الاسلام وأنه يقول بالحريات وحقوق الانسان والديمقراطية، وجدنا راشد الغنوشي يكتب «الحريات العامة في الدولة الاسلامية» وكتابه الآخر «الديمقراطية وحقوق الانسان في الاسلام». وإذا اعتقد بالإمامة على الطريقة الشيعية نادى بولاية الفقيه، وإذا بكى أو تباكى على سقوط الخلافة أواخر الدولة العثمانية، نادى بعودتها، وأسس هذا التشتت هو الصراع المذهبي والانقسام الطائفي، فهو الذي يفرز هذه الظواهر. وكل يروج لمذهبه حتى حاصرتنا الشعائر والشعارات من كل جانب، «ويغيب العمر في صحن الربيع».

لا ننكر أن بين الاسلام والحداثة تقاطعاً، لكن ما به الافتراق ضاغط وبقوة، وهو ما يشكل أزمة العلاقة بين التراث والحداثة إلى جانب أزمة التراث مع نفسه، كلنا «مصطفى سعيد» في رواية الطيب صالح «موسم الهجرة إلى الشمال» وكلنا «محسن» في رواية توفيق الحكيم «عصفور من الشرق». يجانب العلمانيون، ودعاة تجاوز التراث الصواب، إن الماضي والموروث لا يموت، فإسماعيل باق فينا(اسماعيل رمز التراث في ديوان ادونيس «الحصار»،بيروت،1985) نعم قد يخمد، ويتوارى إلى حين، لكنه يبرز ويتفجر من جديد في أتون صراعات مذهبية، ولا مشاحة في الدعوة إلى تجاوز التراث، لكنه تجاوز إعمال، وليس تجاوز إهمال، أعني لا بد من استيعابه وهضمه ومن ثمَّ القفز إلى المعاصرة، والدخول في الحداثة، وهذا يحتاج إلى ورشة عمل تقوم على الإبداع وفق المقاصد الشرعية، وتجاوز المنظومة الاسلامية السائدة لا على مشاريع استخراج المفاهيم الحديثة من عمق التراث، لأن هذا عمل يجانب الصواب في مواطن كثيرة، وذلك لانتماء كل من الحداثة والتراث إلى حقول معرفية متغايرة، وهذه المغايرة لا تفقد التراث حيويته وحضوره.

على كل حال، ما نريد أن نقوله هنا هو أن الانقسام المذهبي هو أحد المصادر، إن لم يكن أهمها لتكوّن الاسلام السياسي، وأسواق الكتب العربية حبلى بالمؤلفات القديمة والحديثة لتوكيد النزعة التعصبية والمذهبية بين الناس.

باحث لبناني

المنشور جزء من بحث: "مقدمة كتاب أحزاب الله بقلم الشيخ علي حب الله"