أزمة تتقلب بين العناد والمكابرة ومبادرة متأخرة من الغنوشي

رئيس البرلمان ورئيس حركة النهضة يعلن أن الرئيس سعيد لم يتجاوب بعد مع مبادرته الداعية للحوار بين الرئاسيات الثلاث، فيما تثير مبادرته أكثر من سؤال حول توقيتها ولماذا لم يطرحها قبل استفحال الأزمة بين رئاسة الحكومة ورئاسة الجمهورية.
الغنوشي مقتنع بالحوار سبيلا لإنهاء الأزمة السياسية
وضع تونس لم يعد يحتمل المزيد من الأزمات
أزمة تونس شبيهة بأزمة لبنان.. بلد يغرق وقوى سياسية تغرق في خصومات جانبية
الغنوشي يرى ثورة مضادة تضعف وثورة لم تحقق أيا من أهدافها على المسار الصحيح!

تونس - تتقلب الأزمة السياسية في تونس في مربع العناد السياسي وما يصفها متابعون للشأن التونسي بـ"المكابرة" في معركة صلاحيات بين رئاسة الحكومة ورئاسة الجمهورية في ظل غياب محكمة دستورية تنهي الخلاف وتكسر الجمود السياسي الذي بدأ بالفعل يدفع البلاد إلى نفق مظلم مع تدهور الوضع الاقتصادي والاجتماعي.

ودخل رئس البرلمان التونسي ورئيس حركة النهضة الإسلامية على خط الأزمة مع أنه طرف فيها حيث تُشكل حركته حزاما سياسيا لرئيس الوزراء هشام المشيشي وتدعم التعديل الوزراء الذي أجراه ورفضه الرئيس قيس سعيد بسبب ما اعتبره اخلالات دستورية.

وكان الغنوشي قد أعلن قبل ثلاثة أيام أنه تقدم بمبادرة سياسية للرئيس سعيد تقوم أساسا على لقاء بين الرئاسيات الثلاث لحل الأزمة مع أن المبادرة التي طرحها جاءت متأخرة من جهة ولأنه يشكل ضلعا من أضلع الأزمة لأنه يدعم المشيشي.

وكان سمير ديلو القيادي البارز في حركة النهضة ممن دخلوا في خلافات مع الغنوشي ومن الـ100 المطالبين بتنحيه طوعا من على رأس الحركة، قد طرح منذ البداية حلا عمليا وبسيطا كان من الممكن أن ينهي الأزمة في ظرف وجيز إذ اقترح أن ينسحب الوزراء الذي اعترض عليهم رئيس الدولة طوعا وفسح المجال لمرشحين آخرين يختارهم المشيشي دون أن تكون قد تعلقت بهم شبهات فساد أو تضارب مصالح.

وبعد فترة من بلوغ الأزمة ذروتها، طرح رئيس حركة النهضة مبادرته، معلنا اليوم الثلاثاء أنها لم تلق تجاوبا حتى الآن من الرئيس قيس سعيد.

وتابع في مقابلة مع إذاعة 'ديوان اف أم" المحلية الخاصة بعد ثلاثة أيام من طرح مبادرته "الرئيس قيس سعيد لم يتجاوب بعد مع المبادرة، لكني شديد القناعة بأن الحوار وخاصة على صعيد الرئاسات الثلاث ضروري".

وقال "متمسك بأهمية هذا المقترح وبأن الحوار مفتاح لحل المشكلات الأخرى وأرجو أن يتسع وقت الرئيس ويقتنع بأن الحوار هو أقرب طريق لحل مشكلاتنا".

وتثير مبادرة الغنوشي في توقيتها أسئلة كثيرة، فبما أنه مقتنع بالحوار سبيلا لحل هذه الأزمة التي ترخي بظلالها على الشأن العام التونسي وعلى الوضع الاقتصادي المتأزم، فلماذا ترك الأزمة تذهب إلى التصعيد ولماذا لم يتدخل من البداية.

ثم إن مبادرته تأتي بعد أن أعلنت حركته دعمها للمشيشي في مواجهة الرئيس قيس سعيد الذي تعرض لانتقادات وهجوم حاد من عدد من كبار قادة الحركة الإسلامية.

ويشير سياسيون تونسيون إلى أن حركة النهضة كانت قد دعمت في السابق رئيس الوزراء الأسبق يوسف الشاهد في خضم أزمة بينه وبين الرئيس الراحل الباجي قائد السبسي مع أن الشاهد كان من حزب السبسي قبل أن ينقلب عليه وينشق عن حزب نداء تونس ويؤسس حزب 'تحيا تونس'.

تونس تشهد احتجاجات من حين إلى آخر بسبب تردي الوضع الاقتصادي والمعيشي
تونس تشهد احتجاجات من حين إلى آخر بسبب تردي الوضع الاقتصادي والمعيشي

والمحصلة برأي هؤلاء أن هناك استنساخا للأزمة السابقة ودفعا لتعقيد الوضع بدلا من المساعدة على حل الأزمة، فيما تواجه الحركة الإسلامية ذاتها مشاكل وانقسامات داخلية.

ويبدو الوضع التونسي شبيه بوضع لبنان حيث يغر ق السياسيون في صراعاتهم الداخلية بينما يتجه البلد إلى حافة الإفلاس والانهيار مع تحول الاهتمام من معالجة أزمات قائمة إلى أزمة سياسية مُسقطة زادت الوضع تدهورا.

وطمأن الغنوشي التونسيين قائلا "مسار الثورة متقدم وتونس تمثل حالة نجاح الربيع العربي.  الثورة نضجت أكثر والقوى المضادة للثورة هي الآن أضعف".

وعلى نقيض تصريحاته حول الثورة التي لم يكن للإسلاميين دور فيها شأنهم في ذلك شأن إخوان مصر الذين ركبوا موجة الثورة بعد أن اقتربت من تحقيق أهدافها أي إسقاط النظام، ليس ثمة ما يشير إلى أنها تمضي في مسارها.

فثورة يناير/كانون الثاني 2011 التي أسقطت نظام الرئيس الراحل زين العابدين بن علي قامت على شعارات التنمية والتشغيل والكرامة للتونسي وهذه الأهداف لم تتحقق باستثناء هامش من الحرية بات مهددا بسبب ممارسات قمعية سرّية وعلنية ومحاولات استقطاب وتدجين للإعلام.

وفي الوقت الذي يتحدث فيه رئيس البرلمان التونسي ورئيس حركة النهضة عن الثورة والثورة المضادة، يجد التونسيون أنفسهم عالقين في وضع هو الأسوأ في تاريخ البلاد مع ارتفاع حاد في نسبة البطالة وزيادة في معدل الفقر وتراجعا في التنمية وتعطيلا مستمرا للإنتاج في القطاعات الحيوية وارتفاع قياسي في حجم الديون الخارجية وخدمة الدين العام وتراجع في نسبة النمو.

والمشاكل الاقتصادية والاجتماعية في تونس أكبر بكثير مما هو معلن فالصناديق الاجتماعية وصناديق الرعاية الصحية تئن بدورها تحت وطأة أزمة مالية غير مسبوقة فيما كانت قبل 2010 سندا للدولة وللمواطن والقطاعات المنتجة التابعة للدولة (قطاعات حكومية مثل الفوسفات) والقطاعات التي كانت تضخ إيرادات بالعملة الصعبة لخزينة الدولة، أصبحت عبئا على الدولة مع تعطل الإنتاج وارتفاع كتلة الأجور وعدد العاملين فيها بما لا يتماشى مع المردودية ولا حاجة تلك المؤسسات للعدد ضخم من العملة.

وتعرف تلك العملية بالتوظيف الوهمي وهي التي اعتمدتها الحكومات المتعاقبة منذ الثورة لشراء السلم الاجتماعي بدلا من اعتماد نموذج تنموي عادل ينهي الأزمات المتناثرة في اكثر من جهة.

وقد يفسر البعض حالة الفوضى الراهنة وتدهور الوضع الاقتصادي بأن كل دولة تحتاج إلى فترة انتقالية بعد أي ثورة شعبية وتعيد ترتيب أوراقها على طريق تحقيق التنمية وإنعاش الاقتصاد وتسوية الأزمات المتراكمة، لكن حال تونس بعد 10 سنوات من الثورة أسوا من أن يتم تشخيصه على أساس ما سبق أي ما تحتاجه الدول لإعادة البناء بعد الثورات والحروب.

ويثقل ملف استشراء الفساد بدوره على أي جهود للخروج من الأزمة الاقتصادية، فالسائد حاليا تضاعف عشرات أضعاف ما كان عليه في فترة حكم النظام السابق والكثير من العينات تقف شاهدة على هذا التردي والانحدار ومن الأمثلة صفقة النفايات الايطالية وتلف آلاف الأطنان من القمح وشبهات فساد تتعلق بوزراء سابقين وشبهات تتعلق بنواب بالبرلمان التونسي.

ورغم الكم الهائل من المشاكل، تنصرف السلطة الحالية إلى أزمة صلاحيات وخصومات جانبية تقفز على حقيقة وضع يزداد قتامة.

وفي 16 يناير/كانون الثاني الماضي، أعلن المشيشي تعديلا حكوميا شمل 11 حقيبة وزارية من أصل 25، وبعد 10 أيام صدّق عليه البرلمان، لكن سعيد لم يوجه الدعوة إلى الوزراء الجدد لأداء اليمين الدستورية، معتبرا أن التعديل شابه "خروقات".

وقبل أسبوع، أعلن المشيشي، إعفاء 5 وزراء جدد من مهامهم وتكليف آخرين من المتواجدين في حقائب أخرى بتصريف الأعمال في حقائب الوزراء المقالين لحين استكمال التشكيلة الحكومية.

واعتبر الغنوشي في بيان حينها أن "خطوة المشيشي حل مؤقت.. والحل الجذري هو في تشكيل المحكمة الدستورية (تعطل تشكيلها أكثر من 5 سنوات بسبب غياب التوافق) وإلى أن يتم ذلك يجب على كل الأطراف التعامل بمرونة حتى لا تتعطل الدولة ومصالح المجتمع".