أمسيات تأبينية بمناسبة أربعينية المسرحي أنور الشعافي

المسرح الوطني التونسي ومركز الفنون الدرامية والركحية بمدنين يكرمان أحد رموز التجريب البارزين.

تونس - خيّم صمت مهيب على قاعة الفن الرابع بالعاصمة التونسية، الخميس، مع بدء توافد الجمهور لإحياء أربعينية المخرج والناقد المسرحي الراحل أنور الشعافي. وفي زاوية مألوفة من القاعة، كان الكرسي المتحرّك الذي لطالما رافقه حاضرا ساكنا كأنه ينتظر بداية العرض أو يراقب الركح بعينيه اللتين لم يخفت بريقهما رغم الغياب.

كان هذا الكرسي رمزا صامتا لمسيرة فنان قاوم الألم بالعطاء وواجه الصعاب بشغف لا يخبو. مشهد الكرسي أثار في الحضور مشاعر من الحنين والحزن، وقد بدا أن الشعافي لا يزال هناك في كل زاوية من فضاء المسرح وفي كل تفصيلة من تفاصيل الخشبة التي أحبّها وأحبّته.

وبهذا الكرسي الرمز، كرّم المسرح الوطني التونسي روح أنور الشعافي الذي رحل يوم 30 أبريل/نيسان الماضي عن عمر ناهز 60 عاما، مخلفا إرثا فنّيا وفكريا جسده في أكثر من عشرين عملا مسرحيًا ونصوصا لا تزال تُثرِي المشهد المسرحي التونسي والعربي.

وأقيمت أربعينية الفقيد بحضور عائلته وحشد كبير من الفنانين والمثقفين والإعلاميين، وتضمّن البرنامج فقرات فنية وشهادات حيّة تخلّد ذكراه وتستحضر مآثره الإبداعية والإنسانية.

واستعرض معز المرابط المدير العام للمسرح الوطني في كلمة مؤثرة أبرز محطات الشعافي، مشيرا إلى شغفه بالمسرح التجريبي ونزعته إلى التجديد والمغامرة الفكرية، قائلا إن الراحل تجاوز المألوف ليقدّم رؤى مسرحية عميقة وملتزمة مزج فيها بين الجماليات المسرحية والبعد المعرفي، فكان يؤمن بمسرح يدهش المتفرج ويحفّزه على التفكير.

وتحدث المرابط عن اهتمام الشعافي بأدق تفاصيل العرض المسرحي من الإضاءة والصورة إلى توظيف التقنيات الحديثة في خدمة الدراما، مضيفا "لم يفصل الشعافي بين أفكاره والحياة، فقد جعل من المسرح نهجا وجوديا يسمو بالفن فوق الألم والوجع... سيظل حيًا في ذاكرة المسرحيين وخالدا في وجدان المسرح التونسي".

وعبّرت نصاف بن حفصية، مديرة إدارة الفنون الركحية بوزارة الشؤون الثقافية، في كلمة ألقتها بالمناسبة، عن ألمها لفقدان من اعتبرته أستاذا وصديقًا، مشيرة إلى أن أعمال الشعافي ستبقى مرجعًا فكريًا ومصدر إلهام للأجيال القادمة من المسرحيين.

واستحضرت ذكرى أول عمل مسرحي شاركت فيه مع الفقيد سنة 1993 حين كانت طالبة في السنة الثانية بالمعهد العالي للفن المسرحي، ويحمل عنوان "عود رمان" أنتج في إطار الحركية المسرحية التي أسسها الشعافي بمسقط رأسه مدنين.

وتناول جمال شندول، مدير مركز الفنون الدرامية والركحية بمدنين، في كلمته إسهامات الراحل في بعث الحركة المسرحية بالجهة، من تأسيسه لجمعية مسرح التجريب سنة 1989 إلى إطلاقه المهرجان الوطني لمسرح التجريب سنة 1992، مؤكدا أن الشعافي أحدث نقلة نوعية جعلت من مدنين فضاء نابضا بالفن والإبداع.

وتضمنت تظاهرة أربعينية الراحل أنور الشعافي العديد من المكونات التي مزجت بين المسرح والموسيقى والشعر حتى أن جزءا من أعماله الفنية كان حاضرا من خلال إعادة تجسيد 3 مقاطع من ثلاثة أعمال مسرحية للراحل وهي، مقطع من مسرحية "أو لا تكون" أدته الفنانة نادية تليش، ومشهد من مسرحية "بعد حين"، من تمثيل سماح الدشراوي وخالد بوزيد ، ثم مشهد من مسرحية "كابوس انشتاين" أداه كل من كمال زهيو وياسين الفطناسي.

وتخلل الأربعينية بث فيديوهات توثيقية لأهم محطات مسار هذا المبدع الراحل الذي اختار القائمون على المسرح الوطني توديعه من خلال تعبيرات فنية متنوعة، فدوى صوت مقدمة التظاهرة الفنانة الشابة إشراق مطر بكلمات قصيدة "سجل حضورك" للمولدي الرحيلي التي تحمل رمزية حضور الشعافي رغم الغياب.

ولم تقف حدود التظاهرة عند خشبة المسرح بل كان الاحتفاء بالشعافي على مستوى مختلف أركان قاعة الفن الرابع التي احتضنت التظاهرة، فتم وضع كرسيه المتحرك الذي كان سنده في السنوات الأخيرة، بين الجمهور وتحديدا في المكان الذي كان يجلس فيه دائما، ثم تم وضع الكرسي على المسرح وتكليله بباقة من الزهور، فكان هذا الفنان الكبير حاضرا بإرثه الفني وبما تركه من أثر في قلوب الفنانين، فضلا عن حضور رمزي جسده الكرسي.

وتضمن برنامج الأربعينية أيضا، شهادات حية لعدد من الفاعلين الثقافيين الذين تقاطعت مساراتهم مع الفقيد في مراحل مختلفة من مسيرته الفنية والإبداعية وهم محسن بن محمد و رضا بو قديدة ولطفي العربي السنوسي وغازي الزغباني وعلي اليحياوي، بالإضافة إلى شهادة ابنة أخ أنور الشعافي الشابة مريم الشعافي التي حضرت مع العائلة لتسلم التكريم الذي أعده القائمون على التظاهرة وفاء لروح الفقيد.

انطلقت التظاهرة بالموسيقى، واختتمت بالغناء مع أغنية "كلمات" التي كتبها منور صمادح ولحنها حمادي العجيمي وأدتها على مسرح قاعة الفن الرابع إشراق مطر.

وبمركز الفنون الدرامية والركحية بمدنين الصرح الشاهد على هذا الرجل الذي أسسه في العام 2010 وكان مديرا له لمدة سنتين، حضر ثلة من المسرحيين ومن نخبة المثقفين أمسية أقيمت إحياء لأربعينية رائد المسرح التجريبي فقيد الساحة الثقافية والمسرحية، وفق وكالة تونس أفريقيا للأنباء.

وجاء في أغلب شهادات الحاضرين للأمسية أن الشعافي رحل جسدا لكنه بقي أثرا وفنا وفكرا، بقي حيا في الذاكرة، في التفاصيل، في النقاشات التي لم تكتمل وفي العروض التي مازالت تبحث عن أماكنها الجديدة سيبقى خالدا في ذاكرة المسرح التونسي وفي قلوب المسرحيين وستظل تجربته الثرية منبع إلهام للمبدعين.

وحول هذه الأمسية، قال مدير المركز جمال شندول "أبسط ما يمكن أن نفعله لقامة فنية مسرحية ليست فقط ملك مدينة مدنين بل ملك تونس وملك عربي ودولي لذلك من الجحود أن لا نحتفي به وأن لا نعرف الشباب بهذه القامة الفنية الكبيرة".

وتضمنت هذه الأمسية معرضا لملابس مسرحية لشخصيات اشتغل عليها أنور الشعافي، وصور لجمعية مسرح التجريب التي أسسها أيضا الراحل في العام 1990 وبدأ بها مسيرته الفنية، فكان معها عمله الأول "ليلة 27" وأرشيف المركز من الصور وإصدار كتيب برقيات مسرحية عنوان خاص بأربعينية أنور الشعافي وتقديم كتابه "استقراءات مسرحية" الصادر عن دار خريف والذي كان يعتزم تقديمه في مهرجان مسرح التجريب في ديسمبر/كانون الأول الماضي لكن المرض منعه، إلى جانب عرض فيديو توثيقي لجزء من مسيرة الفقيد وشهادات عنه منها شهادات حية وأخرى مصورة لفنانين عرب مع مشاهد مسرحية لأعماله.

ومثلت هذه الأمسية لحظة الذكر بعد الرحيل، فما ذكر الأصدقاء هذا الراحل إلا بكل خير ذكروه إنسانا بكل ما تحمله الكلمة من معان وذكروه فنانا وذكروه مبدعا خرج عن السائد والمألوف وفق الروائي والناشط الثقافي عبدالعزيز الغزال، مضيفا "المبدعون لا يموتون فستخلدهم أعمالهم وإبداعاتهم وستمنحهم عمرا ثانيا".

ذكر الحاضرون الفقيد أنور الشعافي بأعذب الكلمات وبأصدق المشاعر، فقال عنه رفيقه الأستاذ الجامعي في علوم الثقافة والمختص في المسرح وفنون العرض زهير بن تردايت إنه الرجل الذي أضاء عتمة الاركاح ورسم في أذهان المشاهدين حكايات وأفعال ثم رحل جسده إلى عتمة قبر وبقي نوره لنا ضياء، متابعا أن الشعافي لم يختلف عن المعري الذي وإن كان أخير زمانه فقد أتى بما لم تستطعه الأوائل، ولا طه حسين الذي علا مقامه أدبا وإبداعا.

ووصف بن تردايت حياة الشعافي بملحمة في تحدي الوجع، قائلا إنه كان "سيزيف عصره يلفه المرض والوجع فيكافح عواصفه بـ'قبل حين' يرتد إليه فيحتمي بـ'بعد حين' يصاعد إليه فيمانعه بكابوس انشتاين تتعب ذاكرته فينجز شريط 'الذاكرة' كان دواؤه المسرح لا يعبا بغيره وكلما أنهكه المرض أو أغمي عليه وهو على الركح يستفيق ليعود إلى جبهة النقد والتحليل والنقاش".

وأشار إلى أن الشعافي حتى عندما كان مريضا جالسا على كرسيه، كان ينظم حركة عشرات الفنانين وأنفاسهم ويرسم إيقاعهم وضياءهم وإلى آخر أيام حياته كان له أمل كبير في العودة إلى الركح، فرسم قبل أيام من محنته الأخيرة برنامجا لاقتباس نص من مسرحية "سيدة الفجر" للكاتب الإسباني اليخاندرو كلسونا، حيث كان معجبا بشخصية الزائرة وهي ملك الموت وقد اختار من سيجسد هذه الشخصية المركبة.

وحضر موكب إحياء الأربعينية، المدير العام للمسرح الوطني التونسي معز المرابط، قائلا عن الراحل إنه نجح في مدينته مدنين بأن حولها إلى مركز استقطاب مسرحي مشع ببعث مركز للفنون الدرامية والركحية بها وتنظيم مهرجان وطني لمسرح التجريب استطاع أن ينشر الثقافة المسرحية لدى الجمهور من خلال تنظيم نقاشات وعقد ندوات وتكثيف ورشات التكوين.

ولفت إلى نجاح الشعافي عند تسيير المسرح الوطني لفترة قصيرة، في رسم ملامح مشروعه المسرحي القائم على الجودة والتنوع وحدد ما سماه خارطة طريق للتسيير والتصرف.

واعتبر أن هذا الرجل استطاع بالفن أن يتعالى على الوجع والألم فلم يهجر العروض ولا الندوات ولم ينقطع عن الكتابة حتى إن مسرحه في أعماله الأخيرة أصبح يرنو إلى عوالم أكثر خفة أين يختلط المحسوس بالحلمي والزمان بالمكان ويكاد الممثلون ينفلتون فيه من الجاذبية الأرضية.

الفنان أنور الشعافي علامة وطنية كما وصفه البعض، قام بعد سنوات قليلة من تخرجه بتأسيس فرقة مسرح التجريب بمدينة مدنين سنة 1991 وبعد سنة أسس المهرجان الوطني لمسرح التجريب ثم أدار المسرح الوطني وظل وفيا لعمق فلسفة مسرح التجريب حتى إنه وصف بمختبر مفتوح على الدوام لا يطور تقنياته وأدواته ورؤيته بين العمل والآخر فقط بل في نفس العمل محتلا في كل ذلك مكانة بين نخبة المسرحيين التونسيين.

وقال سمير عتيقي مختص في مجال التنشيط التربوي الاجتماعي وأحد أصدقاء أنور الشعافي إننا في مرحلة مدنين بلا أنور الشعافي، مدنين دون اسمه لكن اللقب سيظل خالدا ستشفع له أعماله وأسئلته وجماليته الخالدة كي يذكر كثيرا، سيشفع له حبه لعمله ولمدينته ولمهنته ولحقله الإبداعي الذي أهداه صحته.