أنسنة مكة بين المقدس والدنيوي
يشغل المكان أهمية كبرى في حياة الناس، لكن أهميته لا تنبع فقط من كونه المحيط الحيوي الذي يتحركون فيه، بل من الطريقة التي تتكون بها علاقة عاطفية معقدة بين الطرفين: الإنسان والمكان. لا يوجد تفسير واضح للكيفية التي تتواشج بها علاقة الإنسان بالمكان، فطول إقامة إنسان في مكان واحد لا تجعل لهذا المكان أفضلية على غيره، وأيضا قصر إقامته في مكان آخر لا تعني أن أثر المكان هنا سيكون محدودا. بمعنى أوضح، الزمن ليس تفسيرا لهذه العلاقة بين الإنسان والمكان. يحب الإنسان بيتا ويكره آخر لأسباب لا علاقة لها بتكوين المكان ولا جغرافيته، إنما يعكس البيت مشاعر سابقة التكوين داخل الإنسان، وإلا فإن هذا البيت الواحد جنة لإنسان، وسجن لإنسان آخر. يتحول المكان الذي تحبه إلى ما يشبه المكان المقدس، وفي بعض المجتمعات، يجب أن تخلع نعليك قبل دخول البيت، في سلوك يشبه سلوك المسلمين وبعض أتباع الديانات الأخرى في وسط أسيا وشرقها، ولا علاقة لهذا بإجراءات النظافة. وفي القرآن الكريم قيل لموسى نبي الله "اخلع نعليك إنك بالوادي المقدس طوى".
فكيف تمت بنينة البيت بوصفه مكانا مقدسا؟ ولماذا أصبح مختلفا عن المكان الدنيوي؟ هذا السؤال طرحه مرسيا إلياد في كتابه "المقدس والمدنس" حين خصص الفصل الأول من كتابه للحديث عن المكان المقدس وتقديس العالم. وكان همه الأكبر هو البحث عن الكيفية التي نشأ بها هذا المكان، ولماذا أصبح من حيث النوع مختلفا عن المكان الدنيوي الذي يحيط به؟ يرى إلياد أن المكان تكوين غير متجانس بالنسبة للإنسان المتدين. توجد فيه أمكنة مختلفة نوعيا عن بعضها، أماكن تشكل حيزا مقدسا، وأخرى غير مقدسة، وبالتالي بدون بنية وبدون قوام، أي عديمة الشكل. في المقابل، فإن غير المتدين يرى المكان متجانسا، فلا قدسية لموضع فيه عن موضع آخر، لكنه يعود فيتشكك في هذا الموقف الأخير، وهو يرى أنه مهما كانت درجة نزع القداسة عن العالم لدى الإنسان غير المتدين، فإنه لم ينجح تماما بإلغاء السلوك الديني تجاه الأمكنة. بعض هذه الأمكنة ما زال يعامل بوصفه مكانا مقدسا حتى وإن ابتعد عن الطقوس أو الشعائر الدينية.
عبارة "أم القرى" عبارة مجازية، فمكة بوصفها مكانا ليست أما لأحد سواء أكان إنسانا أو مكانا آخر
يضرب إلياد أمثلة لبعض هذه الأمكنة المقدسة عند الإنسان غير المتدين: المشهد الطبيعي لمسقط الرأس، ومكان الحب الأول، شارع أو زاوية من أول مدينة أجنبية جرت زيارتها في فترة الشباب. كل هذه الأمكنة يراها إلياد تحافظ حتى بالنسبة للإنسان الأكثر صراحة بعدم تدينه على خاصية استثنائية وحيدة، أنها هي الأمكنة المقدسة لعالمه الخاص.
بهذا التصور، فالمكان المقدس ليس هو المعبد للإنسان المتدين فقط، بل قد يكون هذه الأماكن التي ذكرها إلياد أو غيرها، وهو بهذا يوسع من مفهوم المقدس ويدخل فيه عناصر دنيوية، فالمقدس ليس مرتبطا بالغيب فقط، أو بالمجهول، بل قد يرتبط بما يتكون لدى الإنسان من مشاعر أو ارتباطات دنيوية.
إن الإنسان غير المتدين ينشئ مكانه المقدس الخاص، أو يكوِّنه عبر الزمن، وهو بهذا المعنى يحمل قدسية نسبية حتى لغيره من غير المتدينين، بينما يتكون المكان المقدس لدى المتدين بإرادته أحيانا، وعلى غير إرادته أحيانا أخرى، وتسهم بعض الحيوانات في اختيار المكان المقدس، والمثال الأشهر على هذا ما حدث من النبي محمد صلى الله عليه وسلم حين دخل المدينة على ناقته "القصواء"، ولما أراد الصحابة المستقبلون له أن ينيخوها، قال لهم الرسول: دعوها فإنها مأمورة. وحين أناخت في موضع، بنى الرسول مسجده فيه.
ارتبط المكان المقدس كذلك بفكرة مركزية العالم. المكان المقدس هو مركز الكون، وفي هذا يتساوى المتدين وغير المتدين في نظرتهم للمكان، وبالنسبة للمتدين، فإن المكان المقدس هو الذي يربط الأرض بالسماء، وعن طريقه يمكن للإنسان أن يتواصل مع الله، ويمثل الجبل الصورة المعبرة المميزة لعلاقة الأرض بالسماء، فالجبل المقدس هو الذي يوجد في مركز العالم، وأشهر الجبال المقدسة في الإسلام هو جبل أبي قبيس الذي امتدت قداسته من الجاهلية، ونسجت حوله كثير من الأساطير، وفي الهند جبل ميرو، وفي إيران جبل هارابيرزيتي، وفي فلسطين فإن جبل جيريزيم يسمى سرة الأرض، وهو قطب الدنيا الذي يوصل الأرض بالسماء، وهكذا.
فكيف تتشكل العلاقة إذن بين المكان المقدس والإنسان؟ كيف ينظر إليه؟ ما مشاعره تجاهه؟ كيف يعبر عن هذه المشاعر؟ كيف يرى الإنسان المكان المقدس؟
إذا أخذنا مكة المكرمة أنموذجا لهذا المكان المقدس، فإن الشعر هو أكثر الحقول التي تكشف عن هذه العلاقة المعقدة بين الإنسان والمكان. وفي الشعر فإنه تمت أنسنة مكة. وتطرح هذه الأنسنة إشكالية كبرى، فوفق الصيغة اللغوية، فإن لفظة "مكة" تنتمي إلى حقل المؤنث، ولأنها ليست إنسانا على الحقيقة، فقد وضعت في حقل المؤنث المجازي. هذه البدهية لا يمكن القفز عليها ونحن نبحث عن الكيفية التي تمت بها أنسنة مكة. فقد أصبح قدر مكة أن تتحول إلى امرأة إذا تمت أنسنتها في اللغة، هذا التحول له أعرافه اللغوية، وله أعرافه الشعرية، وبارتباط هذه الأعراف بالقداسة، فقد تخلقت في صيغ التعبير موانع كثيرة؛ إذ كيف يمكن التعبير عن المكان بوصفه امرأة، وفي الوقت نفسه نحافظ على قدسيته؟ هل تظهر المرأة التي تحول إليها المكان بوصفها مقدسة؟ وإذا كان المتكلم رجلا، وإذا كانت العلاقة غزلا، فما حدود التعبير لديه؟ وهل يتحول المقدس في الحقيقة إلى مدنس في الشعر باعتبار التحول في صيغة الخطاب والانتقال إلى حالة تشخيص وتجسيد لعلاقة بين رجل وامرأة؟ بمعنى آخر، هل يظل الغزل في مكة محتفظا بكل شروطه الدنيوية، وهذا أمر مستبعد، أم تحدث فيه عمليات تحول كبرى يتخلق من خلالها شكل جديد للغزل تظل فيه مكة محتفظة بقدسيتها، وفي الوقت نفسه تظل محافظة على أعراف الغزل الكبرى؟
إن أكثر ما يعبر عن التوتر بين المقدس والدنيوي في الغزل المكي صورة ظهرت في قصيدة للشاعر أحمد قنديل، وهو من جيل الرعيل الأول من الشعراء الحجازيين، يقول:
كلما قال قائل في حنين ** هذه مكة العظيمة قدرا
جاءنا... جئتنا تميسين فيه ** في جلال، ضم المفاتن طُرا
في شتيت من المحاسن لاحت ** بين ماضيك حاضرا مستمرا
فمكة عظيمة، ومكة جاءت تميس، وهذا الميس في جلال، ثم إنه ضم المفاتن طُرا في شتيت من الحسن. ولا بد أن تبذل جهدا زائدا كي تتصور امرأة تميس في جلال، وليس في دلال؛ إذ الميس لغة هو المشي في اختيالا وتبختر، وأكثر ما يرتبط بالمرأة، ولا يمنع ارتباطه بالرجل، وإذا ارتبط بالمرأة فهو إشارة إلى الإغواء والإغراء والدلال. وأما الجلال لغة فهو العظمة والرفعة والسمو والوقار، فكيف يمكن أن يجتمع الميس والجلال في سياق واحد؟ هل كان يمكن للشاعر هنا أن يستبدل كلمة الدلال بكلمة الجلال حتى تحافظ الدلالة على تجانسها؟ قد يمكنه ذلك، لكن حذره وهو يؤنسن مكة، ويحولها إلى امرأة معشوقة، مع ما يحيط بمكة من قداسة، هذا الحذر أظهر في الصورة توترا دلاليا بين عناصرها، فالشاعر يريد لمكة أن تميس، لكنه لا يريد لهذا الميس أن يكون في دلال؛ إذا الدلال قرين التهتك والخلاعة والإغواء، وهذا لا يجوز على مكة، إذن فليكن ميسها في جلال، ولتكن لها مفاتن دون تفصيل لها، إذ المفاتن مواطن الإغراء، وقد يقود التفصيل في المفاتن إلى دروب لا تجوز على مكة، إذن فلتبق مجملة دون تفصيل، وهذا ينسحب على كلمة "محاسن" في البيت الثالث. ولا ينحصر التوتر بين المقدس والمدنس فيما سبق، إذ أن وصف مكة بالعظيمة في سياق الغزل يخلق إشكاليات أخرى، فالعظيم لغة هو الكبير الفخيم الوقور الجليل، وكلها صفات لا تنسجم مع الميس الذي جاءت به مكة في البيت الثاني.
هذا التوتر الذي بؤرته كلمة "تميس" وأطرافه كلمتا "عظيمة، جلال" يقود إلى سؤال مهم: هل كان الشاعر على وعي بهذا التوتر الدلالي؟ وإذا كان واعيا، فلماذا لجأ إليه؟
وقد تصعب الإجابة عن السؤال الأول، لكن يمكن افتراض الإحساس بالقداسة لدى الشاعر فرض عليه قيودا في الوصف، ما كان يمكن أن يلجأ إليه. فمكة ليست أي مدينة على الأرض، ومكة لا تشبه أي مكان. يستطيع شاعر مثل نزار قباني أن يقول في بيروت:
سامحينا
إن تركناك تموتين وحيدة.
سامحينا
إن رأينا دمك الوردي ينساب كأنهار العقيق.
ويستطيع شاعر مثل علي الجارم أن يقول في الإسكندرية:
فعذرا إن وصلتك بعد هجر ** وما هجر الذي حفظ الذماما
فهل تدري النوى أنَّا التقينا ** كما ضم الهوى قُبُلا تؤاما
وأنَّا بعد عُتب واشتياق ** نناغي الحب رشفا والتزاما
لكن هذا غير جائز على مكة، ولا توصف مكة هكذا، ولا ينبغي لها. وإذن حين تتحول إلى معشوقة تجلب معها قيودا في الوصف لا توجد في المدن الأخرى.
نجد هذا أيضا عند الشاعر محمد حسن فقي، وهو واحد من أكثر الشعراء الذين تغنوا بمكة، وأظهروا عشقهم لها. في بيت لافت يؤنسن فقي مكة، فيقول:
أنت عندي معشوقة ليس يخزي ** العشق منها ولا يضل العشيق
في هذا البيت لا نجد توترا دلاليا بين أجزائه، بل نجد احترازا يليق بمكة، فمكة معشوقة، ولو اكتفى الشاعر بهذا لقاد مفهوم العشق إلى دروب كثيرة. لذلك يستدرك الشاعر، فيجعل عشقه بعيدا عن الخزي، بعيدا عن الضلال، هو عشق مقدس إن جاز التعبير. لذلك ينأى الشاعر بنفسه كما نأى أحمد قنديل عن الاستغراق في وصف المرأة التي صارت إليها مكة، لا يستغرقه عالم المجاز السحري، ولا تولد له مكة المرأة المعشوقة صورا تناسب هذا العالم، بل يعود ليبرر عشقه لها من خلال عالم الواقع المعاش، يقول بعد هذا البيت:
ما أباهي بالحسن فيك على كثـ ** رةِ ما فيك من مغان تشوق
أنت قدس، فليس للهيكل الفا ** ني بقاء كمثله أو سموق
كل حسن يبلى، وحسنك يا مكـ ** كـة رغم البلى الفتيُّ العريق
يشير هنا إلى حسنها، لكنه ليس حسن امرأة، بل حسن مكان، فالحسن في المغاني التي تشوق، والمغاني لغة هي المكان الذي ينزل فيه الناس، ويعمرونه. ثم يشير في البيت التالي إلى أنها قدس. ما نجده عند الشاعر هنا ليس توترا دلاليا، بل توترا بين الواقع والتخييل. الشاعر يؤنسن مكة، بأن يحولها إلى امرأة معشوقة، لكنه في الوقت نفسه يحتفظ بهويتها مكانا مقدسا. لذلك لا يُفسر الحسن في البيت الأخير إلا بوصفه حسنا للمكان، وليس حسن امرأة.
ويظهر هذا التوتر بين الواقع والتخييل أيضا عند محمد حسن فقي في هذا البيت:
مكتي أنتِ، لا جلال على الأر ** ض يداني جلالها أو يفوقُ
إن عبارة "مكتي أنت" فيها حميمية تخرجها عن أن تكون خطابا واقعيا، إنها حالة عشق وتملك تظهر في الضمير المتصل، وتظهر أيضا في صيغة المخاطب التالية. عملية تحول كبرى ينقل فيها الشاعر مكة كي تصبح امرأة معشوقة تتطلب كل عبارات العشق وشروطه، لكن تأتي الجملة التالية لتؤكد هذا التوتر بين الواقع والتخييل، فإذا كانت عبارة "مكتي أنتِ" تنتمي إلى التخييل، فإن جملة "لا جلال على الأرض يداني جلالها أو يفوق" تنتمي إلى الواقع، ويصبح هنا التوتر مضاعفا إذ يظهر أيضا توتر دلالي لا يمكن فيه الجمع بين دلالة العشق والجلال.
لكن صورة مكة بوصفها امرأة لا تقتصر فقط على كونها معشوقة، إذا تظهر أيضا بوصفها أما، فهي أم القرى، وهو الاسم الأشهر لها، فماذا تعني الأم هنا في ارتباطها بالمكان؟
لا بد أن نتذكر هنا عبارة "الطبيعة الأم" أو "الأرض الأم"، وتعني الأرض الواهبة للخصب والحياة، والمرأة بوصفها أمها أيضا تهب الحياة، وبهذا المعنى، فقد أحيط مفهوم الأمومة بهالة تقديس في كثير من الثقافات، لأن الحياة لا تنبعث ولا تستمر إلا من خلال الأنثى في الإنسان والحيوان على السواء. فما دلالة هذا في توصيف مكة بأنها أم القرى؟ وكيف تم التعبير عنها شعرا؟
الصيغ الشعرية التي أنسنت مكة ظهر فيها توتر عال بين المقدس والدنيوي لم يستطع الشعراء تجاوزه ولا خلق صيغ تخفض من حدة هذا التوتر الذي أثر، لاشك، على طريقة تلقي الشعر المكي
إن عبارة "أم القرى" عبارة مجازية، فمكة بوصفها مكانا ليست أما لأحد سواء أكان إنسانا أو مكانا آخر، لا يمكن تصور هذه العبارة بوصفها حقيقة، فهل تكون لكلمة أم دلالات أخرى غير الدلالة الشائعة لها؟ تقدم لنا المعاجم هذه العبارات التي ترتبط بالأم: أم البشر (حواء)، أم الخبائث (الخمر)، أم الرأس (الدماغ)، أم القرى (مكة المكرمة)، أم الكتاب (الفاتحة)، أمهات الصحف (الجرائد البارزة)، مصر (أم الدنيا)، أمهات الكتب (المصادر الأساسية المهمة)، اللغة الأم (اللغة الأولى التي يمتلكها الفرد، وهكذا. يصعب هنا أن نجد كلمة واحدة جامعة لكل هذه المعاني في استعمالها المجازي الجديد، لكن الجذر الدلالي الذي أُخذت عنه يمكن أن يعود إلى المرأة بوصفها أما، وهي بهذا الوصف تعد أصلا لذريتها من بعدها، ويمكن أن نجد ظلالا لهذه الدلالة الأصلية في كل الاستعمالات اللاحقة. فكيف وُصفت مكة بأنها أم؟
سآخذ هنا مجموعة من الأبيات للشاعر أحمد قنديل:
قلتِ في عزة العظيم تناهي ** وتعالى فوق التسامح قدرا
أمهات القرى لديكم وإني ** أنا أم القرى على الدهر كبرى
أنا أم القرى بعدتم وغبتم ** أم أتيتم قصد الزيارة أجرا
كلكم هنا... هناك... عيالي ** أين كنتم وُقيتموا الدهر شرا
أين كنتم... أبناي...، فالكل يلقى ** باسمي الخالد المبارك خيرا
كلكم في الكيان هذا سيحيا ** بين قلبي شفعا بساحي ووترا
يتذبذب أحمد قنديل هنا بين دلالتين للفظة (أم)؛ الدلالة الأصلية الحقيقية المرتبطة بالمرأة، والدلالة المجازية في استعمالها التالي. في الدلالة الأصلية يقول على لسان مكة (عيالي، وأبنائي، سيحيا في قلبي)، وفي الدلالة المجازية يقول (أنا أم القرى، كلكم في الكيان، بساحي). مثل هذا التذبذب يؤثر على الطريقة التي يتم بها تلقي الصورة الكلية التي يريد الشاعر أن يرسمها لمكة، فهل يتلقاها بوصفها أما، وهنا يؤدي التخييل الدور الأكبر؟ أم يتلقاها بوصفها مكانا مقدسا، وهنا تكون الرؤية صاحبة الدور الرئيسي؟ كما أثر هذا التذبذب على القيمة الفنية للصورة.
ويقع محمد حسن فقي في قصيدته "مكة" في مثل هذا التذبذب، لكن صياغاته الشعرية أقوى من صياغة أحمد قنديل، يتناثر في قصيدته وصف مكة بالأم، فيأتي مرة مختصرا حاملا لدلالة واحدة تنبثق عن التخييل في هذا السطر الشعري:
فما أغلاك يا مكة أنجبت الميامينا
أو في هذين السطرين الشعريين:
هي الأم التي احتضنت
فبوركتِ الندى الأمُ
ويأتي مرة أخرى في صورة ملتبسة بين التخييل والرؤية في هذه الأسطر الشعرية:
ألا يا مكة العصماء
أيا حب الملايين
وذات المجد في الدنيا
وذات المجد في الدين
لقد أنجبت من أنجبت
من غر الميامين
ولا تدري إن كان يتحدث هنا عن مكة الأم وحدها أو مكة المكان وحده. فلماذا يلتبس الأمر هنا عند فقي، مثلما التبس عند أحمد قنديل وعند غيرهما من الشعراء؟ في ظني أنه يمكن أن تطرح أكثر من سبب لهذا الالتباس، لكن أكثر هذه الأسباب قوة هو مهابة مكة التي تفرض على المتحدثين عنها صيغا لغوية تناسب مقامها وجلالها ومهابتها، فما يجوز في وصف المدن الأخرى لا يجوز على مكة، والإفراط في التخييل معها قد يقود إلى مزالق في التعبير لا تناسب مكانتها في نفوس المؤمنين، ومن ثم فإن الاحتراس والحذر هو الذي يهيمن على الشعراء، وهو احتراس وحذر جعل تجربتهم الشعرية المكية واحدة تقريبا.
ما أخلص إليه في هذه الشواهد أنه تمت أنسنة مكة من خلال الصيغ المجازية في الشعر، لكنها أنسنة تميزت بخصوصية لم تتوفر لمكان آخر سوى المدينة المنورة، خصوصية سببها الأول وربما الوحيد هو أنها مكان مقدس. ولأن الأنسنة تتطلب شروطا تتعلق بالدنيا وما فيها، فإن الصيغ الشعرية التي أنسنت مكة ظهر فيها توتر عال بين المقدس والدنيوي لم يستطع الشعراء تجاوزه ولا خلق صيغ تخفض من حدة هذا التوتر الذي أثر، لاشك، على طريقة تلقي الشعر المكي.
نص الورقة التي ألقاها الباحث بنادي مكة الأدبي يوم السبت 19 رمضان 1442 هـ (الموافق الأول من مايو 2021).