أوليفييه روا.. وتجربة الإسلام السياسي

تقديرات الإسلامويين الداخلية اختلفت حول الحليف الأفضل لدرجة التحالف مع الشيوعيين الراديكاليين بدلا من زملائهم الإسلامويين ناهيك عن أن فرضية الإسلام السياسي هي أن هذه الحركات على هدى من ربها

بقلم: أحمد الدريني

إن كتاب أوليفييه روا “تجربة الإسلام السياسي”، هو بحث نقدي معمق، لا يخلو من صيغة سجالية مع التيار الإسلاموي المعاصر، الذي اتخذ من الإسلام أيديولوجيا وديناً، لذا فهو لم يستهدف فكر وممارسة هذا التيار إلاَّ ليتقصى مسبقاته الفكرية الأبعد ويفككها ويفندها ويُظهر هشاشتها الفكرية وتهافتها، ويشخص أسباباً هيكلية في البنية الاقتصادية والسياسية والتاريخية في العالم العربي، دفعت بهذه التيارات بدرجة أو بأخرى للمسارات التي اتخذتها والمناحي التي سلكتها، ولم يقف عند المواقف السياسية الظاهرة حتى يتتبع أسسها الأبعد غوراً، ويتعرض خلال ذلك للبرامج النظامية للحركة، ولتكتيكها واستراتيجيتها، ومنطلقاتها ومراجعة مرتكزاتها وممارساتها بحيث تبدو في نهاية المطاف ظواهر سياسية واجتماعية مجردة بأكثر مما هي إسلامية/ دينية.

يشكك روا في مجموعة من المفاهيم التي تعالج العلاقات بين الإسلام والسياسة، لأنها كما لو كان ثمة إسلام أزلي مفارق للزمن، هذا فضلاً عن أن ذلك يكون خطأً تاريخياً، حين تحدث عن الخطاب الشائع بين المثقفين الإسلاميين وقال: إنه بمقدار ما نبتعد عن “رؤية المرايا”، أي تلك النظرات التي يعكس بعضها بعضاً، التي لا تزال تسود جانبا من الإسلامولوجيا الغربية، أو بتعبير أدق ما سوف يطلق عليه صفة “الاستشراق” أي إدراك الإسلام والمجتمعات الإسلامية كمنظومة ثقافية كلية شاملة ومفارقة للزمن.

حركي سني.. شيعي، هل من فارق يذكر؟

على الرغم مما يرى المؤلف أنه في مجمله “خلاصة تأليفية هشة” يتحدث عن نموذج الإسلام السياسي الشيعي من حيث ممارسات لها سياق عام ضابط بقوانين داخلية مشهرة، ويرى أن الشيعية، تتناظر مع مثيلتها السنية في محاولة “تدثير” مفردات السياق السياسي في القرنين العشرين والحادي والعشرين بـ”دثارات” الماضي وبمفاهيم الإسلام، حتى إنها لتكاد تقف عاجزة عن آلية لتحديد شخصية الزعيم أو القائد أو الأمير الذي يفترض أن يقف على رأس مثل هذه المنظومة. فما العناصر التي يحتكم إليها في اختيار هذا “الراشد” الذي سيسوق حشود المؤمنين نحو الشرع الشريف ويحكم بما أنزل الله، بلا لبس ولا تبديل ولا ظلم؟

يرى الباحث الفرنسي أن آلية اختيار الزعيم أو الأمير ليست جلية في الذهن الإسلاموي، بل ومضطربة ومفتقدة للمعيارية، وتبدو تلفيقية إلى مدى بعيد. فبالإضافة إلى الحديث عن (ذكر مسلم صحيح العقل) يشتهر عنه التقوى والورع والصلاح الشخصي، يتطرق البعض إلى ضرورة معرفة الأمير بالمعارف الدينية والفقهية اللازمة لممارسة دوره السماوي المقدس، غير أن آلية الإفراز وسط الهيئات العليا، الدينية أو السياسية ذات الصبغة الدينية، لا تزال غامضة، فهو -على حد تعبيره: “على الأمير أن يدل على نفسه، بوصف أن هذا أمر تلقائي وبديهي ولا يجوز التباسه. فالقائد أو الرئيس أو المتعين عليهم اختياره وتقديمه، يكون ظاهرا واضحًا لا يلتبس معنى “اصطفائيته” في عيني الأتباع. بل يكون نتاجا حتميا لهذه البيئة المؤمنة”.

هو هنا يشير إلى واحدة من المفارقات التي جعلت الحركات الإسلاموية السنية تكاد تستلهم معانيَ شيعية صرفة، تتحدث عن الإمام الغائب الذي سيدل على نفسه بنفسه فور ظهوره، أو عن فكرة الإمامة نفسها التي يعتقد الشيعة أن الإمام يكون بموجبها جليًا ظاهرًا للعيان مصباح هدى وسراج إيمان.

يرى روا أن التطبيق الشيعي نفسه للفكرة، شهد تناقضًا ذاتيًا، فبعدما أقر الخميني مبدأ ولاية الفقيه، وسط معارضة من كبار آيات الله المحيطين به، في أعقاب الثورة الإيرانية واختار آية الله حسين علي المنتظري نائبًا له، عدل عن (منتظري) في أواخر أيامه مختاراً بدلاً منه علي خامنئي، الذي كان دون الدرجة العلمية اللازمة لمرتبة الاجتهاد ومن ثم لرتبة ولاية الفقيه، التي هي –هنا- بحسب النموذج الشيعي الخميني سنام الحكم الديني وأعلى منصب في الدولة.

العدول في حد ذاته، ضرب في أساس وفلسفة فكرة الاصطفاء أو دلالة الإمام على نفسه، أو محسومية آلية الاختيار لمثل هذا المنصب الجليل. فالأمر قابل للتدخل البشري والتدارك السياسي والتعديل حتى اللحظة الأخيرة، وصولا للمجيء برجل الثقة (الذي تقل درجته العلمية عن رتبة الاجتهاد) مقابل الغضب على الرجل الذي كان الخليفة المرتقب للمرشد الأعلى للثورة الإيرانية، أو للنموذج الشيعي في هذه الحالة، حتى وافت المنية آية الله منتظري عام 2009، ليتحول من الخليفة المرتقب إلى آية الله المنحى جانبًا، فكأنما لم يدل على نفسه وكأنما الأمارات التي ظهرت عليه (كإمام ثان من بعد الخميني) قد جافته بغتة!

وعلى الرغم من اختلاف المسميات من (مرشد ومرشد أعلى ومراقب عام وأمير وزعيم) بين التيارات الإسلاموية، فإن آلية الفرز والاختيار، مادام موضوعها دينيا بحتًا هكذا، لا يمكن تكييفها بدلائل دينية أبداً، لأنها في كل مرة تتم، تتم وفق مواءمات بشرية سياسية شديدة العادية، يتدخل فيها القبلي مع الشخصي مع النفسي، بينما يتنحى الإيماني العرفاني جانبًا.

الإسلامويون والدولة القطرية.. تضارب النموذج والمصلحة

وعلى الرغم من الإرث الدلالي لكلمة “الخليفة” أو “أمير المؤمنين” التي ترمي أول ما ترمي في نفوسنا صورة مثالية عرفانية، لرجل قوي زاهد، يحكم بقعة مترامية الأطراف من بلدان الإسلام، ويأخذ بسدة القرار فيها، فتمتثل جميعها طوع يديه، لتنفذ “استراتيجية” أو قرارا بعينه، فإن شكل الدولة القطرية الحديث وتعدد الجماعات الإسلاموية يجعل من مفردات الخلافة وإمارة المؤمنين، موضع تطبيق غير عملي بل وربما مستحيل، إذ ليس بمقدور زعيم جماعة إسلاموية في بلد الحكم أو الإفتاء لجماعة أخرى في بلد آخر، بل حتى لو كانا ينتميان للفصيل نفسه.

يقول أوليفييه روا في الفصل السابع والمعنون بـ(الجيوستراتيجية الإسلاموية.. دول وشبكات): “وقد تحقق الأنموذج الإسلاموي اللينيني على أكمل صورة في أفغانستان عبر (حزب إسلامي) الذي يتزعمه قلب الدين حكمتيار الذي ذهب إلى حد التحالف مع أكثر شرائح الحزب الشيوعي الأفغاني راديكالية خصوصا أن محازبي الفريقين يتحدرون من القاعدة العرقية والقبلية نفسها). وقد احتفظ هذان الأنموذجان في كثير من الأحيان بصلاتهما مع شبكات الإخوان المسلمين. وهكذا فإن لحزب حكمتيار علاقات ممتازة مع “الإخوان” الأردنيين، في حين أن منافسه المعتدل “جمعيت اسلامي” أكثر ارتباطا بالإخوان المصريين”.

ويتابع: هنا اختلفت تقديرات الإسلامويين الداخلية حول الحليف الأفضل، لدرجة التحالف مع الشيوعيين الراديكاليين بدلا من زملائهم الإسلامويين. ناهيك عن أن فرضية الإسلام السياسي هي أن هذه الحركات على هدى من ربها، فكيف بها وقد تفرقت بها السبل وتفاوتت معها التقديرات، بل وتنافست إلى حد الخصومة كثيرا؟ فأي الأطراف يمثل إرادة السماء والإسلام الأول النقي الخالص؟ وهنا أيضا، مارس الإخوان لعبتهم المشهورة في توزيع الأدوار مقابل احتواء كافة الأطياف، فالأردنيون يستميلون طرفًا ويستميل المصريون الطرف الآخر. وعلى الرغم من الضبابية المعروفة عن التنظيم الدولي للإخوان وللكلمة الفصل فيه، وهل تلزم أفراد تنظيم الإخوان في كل دولة أم لا، فإن الشواهد العامة تشير إلى أن حركة الإخوان نفسها وهي الأكثر اتساعًا وصاحبة الفروع الأكثر انتشاراً وذات الأدوار الأكثر ملموسية بامتداد البلدان العربية، قد تفاوتت فيها تاريخياً مواقف التنظيم في كل قطر عن التنظيم في قطر آخر، بل لقد تفاوتت التقديرات تجاه المسألة الواحدة، وتم الإعلان عن موقفين مختلفين في أمور حاسمة للغاية.

في موضع آخر يتناول تعقيدات علاقة الإسلامويين بالدولة القطرية قائلاً: فمن الدار البيضاء إلى طشقند، تقولبت الحركات الإسلاموية في إطار الدول القائمة، واستعارت منها أساليب ممارسة السلطة ومطالبها الاستراتيجية وحسها القومي. فكافة الدول التي تعلن الانتماء إلى الأمة الإسلامية تبقي على مبدأ الجنسية وجواز السفر. وهي في انتمائها هذا الذي يفترض أنه يتجاوز الجنسيات والقوميات، لا تزال دون مستوى المجموعة الأوروبية. والحقيقة أن الفوارق بين الجبهة الإسلامية للإنقاذ الجزائرية وبين حزب “جبهة التحرير الوطني” ليست على النحو الذي نظن: فكلاهما يحمل الخطاب العالمثالي إياه المعادي للغرب، وكلاهما يتقولب بقالب الحزب الواحد، ويمارس الممارسة الاستزبانية إياها، ولو وصلت الجبهة الإسلامية المذكورة إلى السلطة فإنها ستعارض تونس والمغرب كما عارضها حزب جبهة التحرير ولكن بفارق وحيد، وهو أنها ستفسر معارضتها بمصطلحات أيديولوجية مختلفة.

نشر في مركز المسبار للدراسات والبحوث
ملخص مقال