أيمن الأغبري: الاستراتيجيتان الصينية والأميركية في المنطقة العربية متناقضتان

الباحث اليمني يحاول في كتابه 'الصراع في المنطقة العربية بين الصين وأمريكا' تقديم رؤية تحليلية عن طريق رصد أبرز قضايا التنافس بين البلدين.

تتنافس كل من الصين والولايات المتحدة الأميركية بشكل مستمرٍ ومتقدم يوما تلو الآخر، فالصين تأمل بأن تصبح دولة متقدمة بحلول 2035، وقوة عظمى على مستوى الولايات المتحدة الأميركية بحلول 2050، ولتلك التحولات التي يتنافس عليها كل من القوتين تأثير كبير في الكثير من المناطق الإستراتيجية في العالم؛ لاسيما المنطقة العربية التي تعد علامة بارزة على خارطة المصالح الجيوسياسية والاقتصادية لكل منهما، حيث تحظى باهتمام كبير من جانِب الصين والولايات المتحدة، لاسيما أن التوازن الاقتصادي والجيوسياسي بين القوتين في هذا الإقليم تحديدا أصبح حقيقةً تترسخ مع الوقت.

ومع تطور وتيرة الأحداث بين الطرفين بسرعة متزايدة خلال السنوات الأخيرة؛ باتت التساؤلات تكثر حول مدى تأثير المواجهات المتصاعدة بين أميركا والصين في المنطقة العربية، بالإضافة إلى ما قد يمكن أن تشهده المنطقة من تداعيات محتملة حال تصعيد المنافسة بين هاتين القوتين على المدى الطويل. وهذا ما يحاول الباحث اليمني د.أيمن علي الأغبري في كتابه "الصراع في المنطقة العربية بين الصين وأمريكا" الصادر عن دار العربي، تقديم رؤية تحليلية حوله عن طريق رصد أبرز قضايا التنافس بين البلدين، مرورًا بتحليل أهداف وقضايا التنافس في المنطقة العربية، وانعكاس هذا التنافس على موقف كلٍّ منهما من بعض الأزمات والقضايا العربية، وصولًا لمحاولة استشراف مستقبل هذا التنافس في تلك المنطقة. والواقع أنَّ هناك تنافسًا حادًا بين الصين والولايات المتحدة، قد تسارعت وتيرتُه خلال السنوات الماضية؛ ومن ثم يصبح من الضروري دراسة هذا التنافس وتحليل تداعياته على المنطقة العربية.

يؤكد الأغبري أن العلاقات الأميركية الصينية مرت بعدد من المراحل، تراوحت بين العداء والتعاون والتحالف، وأن التنافس بينهما تجاوز البعد الاقتصادي، إذ بات يجمع عدة أبعاد أخرى من بينها التنافس الجيواستراتيجي والتكنولوجي والعسكري والقيمي أو الأيديولوجي. كما يمتد هذا التنافس إلى ما وراء العلاقات الثنائية، فعلى الصعيد العالمي، فإنه يؤثر في عمل المنظمات الدولية، والترابط الاقتصادي والمجتمعي، والجغرافيا السياسية الإقليمية. ورغم ذلك، يظل جوهر هذا التنافس هو التنافس التكنولوجي؛ لاسيما في قطاعات مثل تكنولوجيا الجيل الخامس والذكاء الاصطناعي وأشباه الموصلات المتقدمة.

ويرجع التنافس بين الصين وأميركا إلى عدة عوامل رئيسة؛ أهمها: تضارب وتعارض مصالح البلدين، واختلاف رؤية كل منهما للنظام الدولي والعلاقات الدولية. فضلًا عن الرغبة الصينية في إعادة تشكيل (تعديل) النظام الدولي، ورفض الهيمنة الأحادية الأميركية، وسعيها لتعزيز نفوذها، وتأكيد دورها ضمن عالم متعدد الأقطاب بشتى الأدوات، بالإضافة إلى توتر العلاقات بينهما على خلفية عدة ملفات بدءًا من تايوان وبحر الصين الجنوبي، مرورًا بملفات حقوق الإنسان وكورونا والحرب التجارية وأشباه الموصلات، وصولًا إلى أزمة منطاد التجسس، والهواجس الأميركية من تقديم الصين دعمًا لروسيا في حربها على أوكرانيا، وما تعده واشنطن من سياسات عدوانية صينية في منطقة الإندو باسيفيك إلى جانب وجود رفض صيني للوجود العسكري الأميركي في منطقة الإندو باسيفيك، ولعدم رفع إدارة بايدن العقوبات الأميركية المفروضة على وزير الدفاع الصيني منذ إدارة دونالد ترامب، في عام 2018.

'الصراع في المنطقة العربية بين الصين وأمريكا'

ويلفت الأغبري إلى أن المنطقة العربية تعد ساحة تنافس رئيسة بين القوى الكبرى؛ ومنها: الصين، وأميركا، اللتان تتشاركان في إدراك مدى أهميتها كونها تحتل موقعًا إستراتيجيا مهمًا يتوسط قارات العالم الثلاث، وتحتوي على الممرّات الحاكمة والشديدة التأثير في حركة النقل البحري الدولي، وعلى وجه الخصوص قناة السويس، وممر باب المندب، بالإضافة إلى مضيق هرمز؛ ومن ثَمَّ ضمان تأمين الملاحة في هذه الممرّات، يمكن كلا البلدين من استمرارية النفاذ، والوصول إلى الأسواق العالمية. كما تبرز أهمية المنطقة العربية اقتصاديًّا أيضًا كونها مصدرًا رئيسًا لأمن الطاقة لكلا البلدين؛ ومن ثَمَّ تؤدي دورًا مهمًا في دعم استمرار تنمية الصين، وضمان استقرار أسواق البترول العالمية بوصفها مصدرًا آمنًا وموثوقًا بالنسبة إلى البلدين. فضلًا على أن المنطقة تعد سوقًا مهمًا لاستيراد أنواع مختلفة من المواد الخام والمعادن الرئيسة الضرورية، بجانب أنها سوق استهلاكية واسعة للبضائع الصينية والأميركية قوامها أكثر من 400 مليون مستهلك، ومصدر للحصول على الاستثمارات في المجالات المختلفة.

ويضيف أن أميركا اعتادت أن تكون القوة المهيمنة في المنطقة العربية، وشكلت تحالفاتها ونفوذها المشهد السياسي والاقتصادي في المنطقة لعقود، لكن تراجعت أولوية المنطقة بالنسبة إليها طيلة السنوات الماضية، وهو ما نبع من انتقال مركز الاهتمام الأميركي إلى منطقة الإندوباسيفيك؛ لمواجهة الصعود الصيني المتنامي، والاعتقاد الأمريكي بأن منطقة المنطقة العربية أصبحت أقل أهمية للمصالح الإستراتيجية الأميركية، فالولايات المتحدة أصبحت أقل اعتمادًا على واردات النفط من المنطقة، بالإضافة إلى انخفاض حدة التهديدات الإرهابية النابعة من المنطقة، وبالشعور بالإجهاد من التدخل العسكري فيها، وفشل مشاريع تغيير النظم. يضاف لذلك تراجع مصداقية واشنطن لدى حلفائها كشريك يمكن الوثوق فيه. وقد خلقت هذه الأمور فراغًا سياسيًّا دفع خصومها الدوليين مثل الصين إلى تعزيز نفوذهما في المنطقة.

ويتابع الأغبري أن أميركا باتت في عهد الرئيس جو بايدن تعيد صياغة إستراتيجيتها تجاه المنطقة، فقد عادت تدرك أهمية المنطقة، ليس فقط بوصفها ساحة مهمة في الحرب على الإرهاب، ولكن لأهميتها في تنافسها الجيوسياسي مع الصين؛ ومن ثَمَّ تجاوزت ثوابت التمحور حول مرتكزي حماية إمدادات الطاقة وأمن إسرائيل، وظهرت مرتكزات وأهداف أخرى؛ لذلك عادت واشنطن للتأكيد لدول المنطقة أنها الحليف الموثوق به الذي تستطيع مظلته الأمنية أن تحفظ أمن الإقليم، وتحد من الصراع داخله. كما باتت حريصة لتوسيع دائرة التحالفات والتطبيع الإسرائيلي مع الدول العربية، وإشراك إسرائيل في المنظومة الأمنية الأميركية، واستمرار تدفق النفط بأسعار مناسبة كونه أحد أهم الضمانات لاستقرار سوق الطاقة العالمي، وعدم تحول المنطقة لبؤرة للإرهاب في المنطقة مرة أخرى، لكن مع وجود أميركي عسكري محدود. كما تسعى واشنطن أيضًا لإيجاد مسافة بين دول المنطقة وبين روسيا والصين، وهو ما تتحفظ عليه دول المنطقة؛ نظرا لأنهم يسعون لإقامة علاقات متوازنة مع الدول كافة بلا استثناء، وتنويع علاقاتهم الإستراتيجية.

ويشير إلى أن الصين تسعى بنشاط إلى توسيع نفوذها في المنطقة، ليس فقط اقتصاديًّا، ولكن أيضًا عسكريًّا ودبلوماسيًّا وسياسيًّا، متحدية بشدة الدور الطويل الأمد للولايات المتحدة كقوة مهيمنة في المنطقة. ويتزايد نفوذ الصين في المنطقة منذ سنوات، لاسيما من خلال مبادرة "الحزام والطريق"، وزيادة وتنامي دور الوساطة الصينية في الكثير من قضايا المنطقة وأزماتها، بل ونجاحها في حلحلة بعضها على غرار الوساطة الصينية بين السعودية وإيران مارس/آذار 2023، ودورها في استئناف العلاقات بينهما المقطوعة منذ 2016. وتعيين مبعوثين خاصين لقضايا المنطقة وأزماتها؛ مثل: الصراع العربي الإسرائيلي، وأزمات سوريا وليبيا، وقضايا القرن الأفريقي، بجانب تكثيف مشاركتها العسكرية والأمنية، بدافع الرغبة في حماية مصالحها ومواطنيها، فضلًا عن سعيها الحثيث لتعزيز قوتها الناعمة في المنطقة.

د.أيمن علي الأغبري
د.أيمن علي الأغبري: المنطقة العربية تعد ساحة تنافس رئيسة بين القوى الكبرى

ويرى الأغبري أن ثمة توافق عربي ـ صيني في القضايا المشتركة؛ إذ يتوافق الجانبان حول القضايا والمبادرات التي أطلقتها القيادة الصينية في السنوات الأخيرة، بما فيها مبادرة الأمن العالمي، وكذلك الأفكار والمبادئ التي أعلنها الرئيس شي، وتم إدراج بعضها ضمن مقررات منتدى التعاون الصيني ـ العربي؛ مثل: "بناء مجتمع صيني ـ عربي ذي مصير مشترك في العصر الجديد"، و"شراكة إستراتيجية صينية - عربية موجهة نحو المستقبل للتعاون الشامل والتنمية المشتركة". ويشمل الدعم السياسي العربي للصين، القضايا كافة ذات الأهمية بالنسبة إلى بكين؛ مثل: مبدأ "الصين الواحدة"، و"رفض استقلال تايوان بكل أشكاله"، و"دعم جهود الصين لصيانة الأمن القومي وتنمية الديمقراطية واستكمالها في هونغ كونغ". وكذلك احترام حق شعوب العالم في اختيار الطرق، لتطوير الديمقراطية والنظم الاجتماعية والسياسية التي تتناسب مع ظروفها الوطنية بإرادتها المستقلة، ورفض التدخل في الشؤون الداخلية للدول بذريعة الحفاظ على الديمقراطية.

ويؤكد أنه بالمقارنة بين الإستراتيجيتين الصينية والأميركية في المنطقة العربية، نجد أنهما متناقضان في الأهداف وآليات التنفيذ، فواشنطن تسعى لبسط نفوذها، وسيطرتها على المنطقة، ومنع أي قوى أخرى من منافستها، وتستخدم دومًا الأداة العسكرية لتحقيق ذلك، كما فعلت في غزو العراق 2003، والتدخلات العسكرية المستمرة في سوريا وليبيا والسودان (حتى وإن حدث تراجع عسكري أميركي نسبي خلال السنوات الأخيرة تظل الأداة العسكرية هي الأساس)، كما ترهن دومًا المساعدات الاقتصادية المقدمة بشروط سياسية ترفضها دول المنطقة؛ لأنَّها تُعَدُّ تدخلًا مباشرًا في شؤونها الداخلية. في حين تعمل الإستراتيجية الصينية على تعزيز تعاونها مع دول المنطقة عبر استخدام القوة الناعمة (الأداة الاقتصادية والثقافية)، كما تركز على مبدأ عدم التدخل والحوار والحلول السلمية للنزاعات والصراعات، وإرساء الاستقرار، وتعزيز فرص التنمية، ومحاربة الفقر، ومواجهة الإرهاب عبر برامج وخطط مستقرة وطويلة، تتوافق مع سياسات دول المنطقة العربية دون مشروطية سياسية. كما كانت مواقف الصين دومًا إيجابية ومؤيدة للمواقف العربية، وكذلك للتعاون والعمل العربي المشترك.

ويكشف الأغبري أن تصاعد حدة التنافس الصيني الأميركي لن يكون في مصلحة دول المنطقة؛ لأن هذا التصاعد قد يعيد أجواء الحرب الباردة القديمة التي فرضت على الدول المختلفة، الاختيار بين أي من القوتين الأكبر في العالم، ولكن حتى لو لم تعد أجواء الحرب الباردة، فإن تزايد التنافس الأميركي الصيني سوف يمثل قيدًا على قدرة هذه الدول على تطوير علاقتها بالتوازي والتوازن مع كل من الصين وأميركا، وهو ما يفرض حينها خيارات محددة، وحينها فلن يكون أمام تلك الدول إلا عدد محدود من الخيارات؛ أهمها: تعزيز الاستقلالية الإستراتيجية لدول المنطقة العربية؛ حتّى لا تجد تلك الدول نفسها في موقفٍ يحتِّم عليها الاختيار بين المعسكرين، أو دفع جزءٍ من فاتورة الحرب الباردة الجديدة. هذا بالإضافة إلى استمرار اختيار سياسة متوازنة بين القوَّتين لتعظيم المكاسب والتعامُل بحذر وبراغماتية مع كليهما، بدلًا من الميول في رهاناتهم إلى أحد الطرفين، وذلك عبر الاعتماد على الولايات المتحدة في التعاون الأمني، مع الحفاظ على التعاون المهم في مجال التجارة والطاقة مع الصين. فضلًا عن الاستفادة من موقف القوَّتين من تحقيق الاستقرار الإقليمي، مع إعادة التموضُع الإقليمي وتكثيف الشراكة مع القُوى المتوسِّطة والمؤثِّرة في النظام الدولي؛ إذ يكون الإقليم رقمًا صعبًا أمامَ أيّ محاولةٍ لتوظيفه في إطار الصراع بين القُوى الكبرى.

ويخلص إلى أن أميركا ستستمر في التركيز على الأمن والتعاون العسكري، وسوف تلوح دائمًا بورقتها الإضافية المتمثلة بتحالفاتها الإستراتيجية مع المنطقة العربية في إشارة مباشرة إلى العمر السياسي الذي قضته الولايات المتحدة في المنطقة، على الجانب الآخر ستلتزم الصين بأجندتها التي تركز على الطاقة والتجارة والاستثمار، لاسيما في القطاعات الناشئة في إطار مبادرة الحزام والطريق. ومع توافر الإرادة السياسية المشتركة، واحترام كل جانب للشؤون الداخلية للآخر، وعدم سعي الصين لتصدير نموذجها السياسي، أو الاقتصادي للعرب، أو العمل على فرضه عليهم، بجانب تبنّيها موقفًا إيجابيًا من القضايا العربية؛ فمرجح أن تشهد العلاقات العربية- الصينية مزيدا من النمو والازدهار، خاصةً مع تجاوز اهتمام بكين بالمنطقة احتياجاتها من الطاقة، لتصبح الشريك الاقتصادي والتجاري الأكبر لدولها في الكثير من المجالات؛ مثل: الاستثمار في البنية التحتية، والاتصالات، والطاقة المتجددة، والمدن الذكية، والذكاء الاصطناعي، والتعاون المالي والتعليمي والتجارة في السلع، والخدمات والتكنولوجيا الرقمية. ويبقى مستقبل المنطقة في ظل التنافس الصيني الأميركي في الأخير متوقفًا على مدى قدرة دولها على توظيف هذا التنافس لصالحها، والاستفادة منه قدر الإمكان، من خلال الحفاظ على نهج متوازن، وتقييم المكاسب والتحديات المحتملة المرتبطة بالمنافسة الصينية الأميركية، ووضع إستراتيجيات شاملة لتعظيم المزايا مع التخفيف من المخاطر المحتملة. ومن خلال القيام بذلك، يمكن للدول العربية أن تضع نفسها كلاعبين ديناميكيين في المشهد العالمي المتطور، وأن تحقق تنمية مستدامة وشاملة.