"أين أبي" السرد بدموع القلب

حرق ركام هائل من الألم اختزنته ذاكرة الكاتبة جهاد الجفري وامتلأ به وجدانها سنوات طويلة.
إذا كانت الخبرة تمنحنا القدرة على إعادة موضعة المواقف وتوظيف تقنيات السرد، فإن تغذية العاطفة الشخصية للعمل هي التي تسبك مادته وتشغّل فعاليته فينا حين نتلقاه
الكتاب أغنية للمكان "المعلا" وصرخة في وجه الظلمة والايديولوجيات المدججة بالجهل والطيش والعمه الزائد عن الحد

علوان الجيلاني

ما موقع كتابة الذاكرة، في تصنيفات السرد؟ الكتابة السيرية التي يتواشج فيها سرد الذات بسرد الآخرين في سياق وقائع تاريخية؟ كثيراً ما طرح هذا السؤال إذ هو مفصلي فيما يتعلق بهوية النص من حيث تصنيفه، ومن حيث طرق تلقيه من قبل النقاد والدارسين. هذه الإشكالية يطرحها علينا كتاب جهاد الجفري "أين أبي"، هل هو توثيق لفصول من حياة المؤلفة الشخصية وأسرتها، في إطار قضية أو حدث تاريخي واجتماعي وسياسي أم هو فن قبل ذلك وبعده؟
لطالما كانت السيرة الذاتية عنصراً جوهرياً في الأعمال الروائية، ولطالما تلامعت شخصيات الكتّاب في أعمالهم الروائية وإن تفاوتت درجات الالتماع. 
إن رواية السيرة الذاتية تحتاج إلى موهبة خاصة، إلى طاقة تذكّر عالية، وإلى رهافة في طريقة ملامسة الوقائع، وإذا كانت الخبرة تمنحنا القدرة على إعادة موضعة المواقف وتوظيف تقنيات السرد، وتعديد المداخل إلى الحدث الواحد فإن تغذية العاطفة الشخصية للعمل هي التي تسبك مادته وتشغّل فعاليته فينا حين نتلقاه. 
لقد اعتبر الفلاسفة السيرة الذاتية فناً وأسقط عنها أرسطو صفة التاريخ، فالفن أصدق من التاريخ٬ فهي إن لم تكن رواية مكتملة الأركان فلها جاذبية الرواية جماهيرياً. بل ربما فاقت جماهيريتها جماهيرية الراوية القائمة على التخييل السردي فحسب، وهذا ما سنفهمه بمجرد الولوج إلى كتاب أو مأساة "أين أبي". 

الهدف الأكبر كان رسم صورة أبيها الذي لم تره وإدانة من حرموها منه، والهدف الأهم إنصاف أمها الشجاعة المكافحة وتخليد صراعها من أجل استعادة زوجها

فعلى مدار 210 صفحات من القطع المتوسط أنجزت المؤلفة جهاد الجفري أربعاً وثلاثين لوحة سردية يشتبك فيها الذاتي بالتاريخي، والخاص بالعام، الأسري بالاجتماعي، ليس هناك خيال يصنع الأحداث، هناك أحداث تفوق الخيال وتتجاوزه بما لا يقاس، ولكي ندرس هذه النصوص يجب أن نفهم الخلفية التي تأسست فيها فنحن لن نستطيع فهم النص، ما لم ندرس الترابط بين اختيار نوع السرد وطبيعة السارد ثم الظروف الاجتماعية والسياسية، والتاريخية، إذ نحن أمام لوحات سردية يتشظى فيها الحدث التاريخي متغلغلاً في أوجاع الذاكرة السيرية. 
لا مناص من التفكير في التاريخ بوصفه زمناً كي تتحدد معاني ودلالات الأحداث فثمة طفلة فوجئت في لحظة فارقة أنها بلا أب. من هنا تبدأ قصة المؤلفة بوصفها الرواي للحدث، ومن هنا تبدأ قصة الأب عبدالله صالح الجفري الثائر المناضل المحارب الشجاع ضد الاستعمار والمحامي الشاعر والرجل الاجتماعي المميز وأحد القيمين على أخلاق العناية التي توارثتها أسر العلم والخير في اليمن.
فقد الأب يحضر في كل مفاصل السرد، وهاجسه يلح على السارد في كل لحظة زمنية، متواشجاً مع كفاح حاضته الأم سنوات طويلة من أجل معرفة حقيقة ما حدث لزوجها وأين تم إخفاؤه، تتكرر زياراتها للسجون وتصحبها الطفلة الراوية مرراً لتتشبع ذاكرتها بمرارات الألم والحرقة والوجع جراء ما كانت تعاني منه الأم العنيدة من معاملات سيئة.
"جلسنا على الكنبة، نظر إلينا بضيق وقال يخاطب أمي: إلى متى ستبقين تبحثين عن زوجك؟
كان سؤاله صادماً لا إجابة له.
قالت أمي: إلى أن أموت!
قال لها: كم مرات جئت إلى هنا؟
قالت: مئة أو مئتين لا أتذكر".
الأم التي سنكتشف أثناء السرد أنها كانت تحارب في الجبهات إلى جانب زوجها، لن يقتصر نضالها من أجل استعادته على البحث في السجون، بل ستطرق أبواب صف طويل من أقاربه وأقاربها النافذين الذين لعبوا دوراً كبيراً في إلحاق المأساة بها وبأسرتها.
كما سيكشف السرد لنا أن شقاء الأم من أجل سلامة أسرتها المكونة من أربعة ذكور وثلاث إناث كان أكبر كثيراً من معاناتها في البحث عن الأب. فقد تم استهداف أبناء الأسرة من أجل إبعادهم عن التفكير بماضيهم، ومن أجل إقناعهم بأن ضرورات الواقع الجديد كانت تقتضي التخلص من أبيهم.
هكذا عانت الأم من ويلات الخيانات وتخلي الأقارب عنها والهلع تجاه ما يمكن أن يحدث لأبنائها. 
نحن إذن أمام نصوص وثائقية، منسوجة بلغة فنية عالية تجمع بين بساطة السرد واكتنازه بالعواطف الجيّاشة حتى المكان عدن وصنعاء والكود وبالذات حي المعلا الذي نشأت فيه الكاتبة وعاشت تفاصيل طفولتها وصباها بين جنباته يحضر موثّقاً بشكل نوستالجي عال يضفي على السرد شجناً يعمق الألم ويوسع دائرة التفتيش في الذاكرة، لكنه يحيي المكان ويستحضر أجمل ما فيه في الآن نفسه.
"هذه المعلا الجميلة وناسها الأجمل كانت مقسّمة حوافي، وكل حافة لها اسم، وكل الناس تعرف بعضها، خاصة الأقران في المدارس يعرفون بعضهم البعض والمحلات مشتركة للجميع فدكان باموسى ودكان باوزير ودكان باعوشة من أشهر دكاكين المعلا والثلاثة في حافتي أنا، ودكان باحكيم في الشارع الرئيسي، وهي بالمناسبة كلها دكاكين حضارم (بقالات)، والمقلاية كانت أشهر مقلاية في حافتنا وكل أصحاب المقلاية من تعز والفرن الشهير فرن شاهر كان في حافتنا، فحافتنا كانت سنتر الحي كله، وما كنت أعرف هذا حين كنت صغيرة، أما المساجد ففي حافتنا اثنان، مسجد الصومال "للصلاة البطيئة" ومسجد الفقيه نعمان "للصلاة السريعة".
حضور الحافة بألقها وجمالها سيشكل ضدية دائمة للسجون التي تزورها الأم باستمرار، وحضور الأقارب الذين ساهموا في مأساة الأسرة سيشكل ضدية دائمة للجيران الطيبين "كانت عمارتنا الخضراء أشبه ما تكون بنموذج مصغّر لمدينة عدن، عدن بتنوعها المبهر تتمثل إلى حد كبير في عمارتنا، ليس التنوع وحده، بل مدنية عدن وتعايشها وتحضّرها، في هذه العمارة كان الدور الأول تسكنه عائلة حضرمية تجاورها عائلة من الحجرية، أما الدور الثاني فتسكنه عائلة من كمران بجوار عائلة من تعز، فيما تسكن الدور الثالث عائلة جنوبية من كل الجنوب بجانب عائلة من زبيد.
كنا مثالاً مصغَّراً لمدنية عدن حافتنا الحبيبة أيضاً وبشكل أوسع يسكنها خليط من حضرموت وأبين ويافع وتعز والهند والصومال وتهامة والبيضاء. كنا متآلفين متحابين متراحمين، ورغم أن حياتنا بحكم طبيعتنا كبشر لم تكن تخلو من اختلافات ومنغصات أحياناً، لكنّ ذلك كان دائماً يأتي بشكل عابر، كل سلبي يزول وتبقى المحبة دائمة، وتبقى الحافة هي الحضن الأوسع لنا".
المزاوجة بين السرد السيري والوصف القصصي بموازاة التضمينات التاريخية والإشارات السياسية المرتبطة بزمن الحدث ترتفع بأهمية الكتاب وتعلّي من قدره، على أن عمليات ما يمكن أن نسميه منتجة اللحظات والوقائع في إطار شاهق من الإدانات الدامعة لكل لحظة ولكل واقعة ترتفع هي أيضاً بالسرد مرات كثيرة إلى مصاف الشعر.  

رواية يمنية
إلى كل أسرةٍ توجّعت كأسرتي

وبنظرة شمولية إلى الكتاب بدءاً من عتبته الأولى "أين أبي" تتضح الرسالة فالسؤال يتحول إلى همّ وجودي لا ينقطع، ومن خلال المتن السردي الكامل تتكشف التداخلات: الاجتماعية – السياسية – الفكرية؛ التي باكتشافها نمسك العمود الفقري للعمل.
من جهة أخرى فإن حضور الجانب التفاعلي بوصفه موجهاً للنصوص سيعتبر سمة أخرى في المكتوب، وهي سمة تؤشر على المدى الذي تلعبه وسائل التواصل الاجتماعي في التأثير على كتاباتنا اليوم، لقد نشرت الكاتبة قرابة 90% من نصوص لوحات الكتاب على صفحتها بموقع التواصل الاجتماعي فيس بوك.
وكان الإقبال على قراءتها واسعاً كما تضمن التفاعل معها سيلاً هادراً من المقترحات والوثائق والاستحضارات الخاصة بالأوجاع الموازية وكلها كانت تدفع بالسرد إلى اتخاذ منحى علائقي واسع يتلمس فيه القارىء شيئاً من الكاتبة، مقابل ذلك تتلمس الكاتبة شيئاً من القارىء.
وإذن فإن النص الذي بين أيدينا اليوم هو بوجه ما نص جدلي تبادلت فيه الكاتبة مع القارىء الرؤية والموقف والتذكر والتذكير؛ على سبيل المثال هناك ثلاث لوحات بطلها المسلماني وهو إسكافي طيب ومثقف من أصل يهودي كان يسكن نفس الحافة "الحارة" التي تسكنها الكاتبة في المعلا بعدن، تعلق الإسكافي بالطفلة الساردة وتعلقت به حد أنه طلب منها أن تناديه "أباه" – يا أبي -، لكن علاقتها به استهدفت من قبل الأسرة المشبعة بالحس القومي والشحن الإعلامي الممنهج من قبل إذاعة جمهورية اليمن الديمقراطية الشعبية في عدن آنذاك حيث اعتبرت علاقة الطفلة بالمسلماني خطأ كبيراً فهو يهودي يقتل الفلسطينيين، الطفلة التي تعتبر نفسها منذورة للقضية الفلسطينية أقدمت بشكل دراماتيكي على قطع علاقتها بالمسلماني الذي أجبرته الصدمة على الاختفاء من عدن. وعندما نشرت اللوحات الثلاث الخاصة بالمسلماني شهدت تفاعلاً واسعاً تخللتها مناشدات من أجل البحث عنه. 
على هذا النحو يتآزر الوعيان الذاتي والجماعي، ليلعبا دوراً حاسماً في تشكيل النص، وفي طريقة التفكير فيه، قيمة النص – أي نص إبداعي – تأتي من أصالته من رصيده في الذات وفي الواقع، من ضديته وانتمائه في الوقت نفسه.
وهكذا فثمة مواقف كثيرة يحضر الأب المخطوف فيها بطريقة أو بأخرى تنتقل المؤلفة إلى صنعاء للدراسة، وذات يوم تذهب إلى محل اتصالات لتهاتف أمها في عدن، أثناء انتظار دورها تتعارف مع امرأة كانت تنتظر تلك المرأة خطف أبوها أيضاً، وهي تفتح للمؤلفة باباً للبحث عن أبيها في مستشفيات المجانين وبين مشردي الشوارع فهؤلاء كان معظمهم من المخطوفين وهم يعانون تبعات التعذيب النفسي والجسدي. 
ومرة يتواصل معهم قريب لهم في الخارج ليقترح عليهم البحث في سقطرى، وهكذا حتى نصل إلى الخاتمة وهي ذروة الكتاب حين تكتشف المؤلفة عن طريق إحدى زميلاتها في الجامعة أن بحث الأسرة عن الأب كل تلك السنوات كان جرياً وراء سراب بقيعة، فقد تمت تصفية الأب مباشرة بعد خطفه بإلقائه مكمماً ومكتفاً من أعلى بناية في المعلا.
أثناء السرد تحضر ذات الكاتبة واضحة غير متخفية بدءاً من العنوان "أين أبي" ثم الإهداء "إلى كل من حُرم من أبيه مثلي، إلى كل أمٍ عانت كأمي.
إلى كل أسرةٍ توجّعت كأسرتي – جهاد".
وهكذا يتوالى حضورها من خلال كونها الراوي بضمير المتكلم، ومن خلال مخاطبة الشخصيات المسرودة لها باسمها حتى نهاية الكتاب "كنت هادئة أكثر من اللازم، هدوئي أخافها، لم تكن تعلم أن الضجيج الذي في داخلي يكفي العالم كله، كان في داخلي أبي يصرخ.. كان يتألم، كان حزيناً، وحيد اً ومقهوراً، كان أبي في داخلي أراه يسقط من سطح العمارة، وأنا لا أستطيع أن أمنع سقوطه، أن ألتقطه أو أحتضنه أو أمسح الدم والتراب عن جبينه، أن أقبّله وأقول له: أحبك يا أبي. أنا ابنتك جهاد". 
لقد كان هدف الكاتبة حرق ركام هائل من الألم اختزنته ذاكرتها وامتلأ به وجدانها سنوات طويلة، لكن الهدف الأكبر كان رسم صورة أبيها الذي لم تره وإدانة من حرموها منه، والهدف الأهم إنصاف أمها الشجاعة المكافحة وتخليد صراعها من أجل استعادة زوجها، ولعمري فقد نجحت الكاتبة في كل ذلك، فالكتاب أغنية للمكان "المعلا" وصرخة في وجه الظلمة والايديولوجيات المدججة بالجهل والطيش والعمه الزائد عن الحد.