"أين أبي" وقتل المأساة

في رواية جهاد الجفري السرد يتكىء على تاريخ حقيقي يبدأ عقب استقلال جنوب اليمن عن الاستعمار البريطاني سنة 1967.
المناضلون يختلفون ضد الاستعمار وتتعدد وجهاتهم بين ديني وقومي وبعثي وشيوعي
حين يتغلب التيار اليساري يبدأ في اضطهاد خصومه نهباً لأموالهم وتصفية للشخصيات القوية منهم

في الحياة كل شيء قابل للسرد، لكن السرد نفسه يختلف باختلاف المسرود، وباختلاف السارد أيضاً، السارد كاتبة ناضجة ذات وضع اجتماعي ووظيفي مميز، المسرود مأساتها الذاتية وحزنها المقيم. الأبطال: أبوها عبدالله صالح الجفري، وأمها صفية بنت حسين وإخوانها وأخواتها، بما فيهم أخ لم يكن أخاً فعلياً، لكن الكاتبة تربت وهو في البيت واحد من إخوتها، بل هو كبيرهم، والقيم عليهم. 
وثمة شخصيات أخرى في المسرود "ح ص"، "أ ع" وهما شخصيتان نافذتان اشتركتا في التآمر على والد الكاتبة، أيضاً العلامة أحمد بن صالح الحداد أحد ضحايا تلك الفترة، المسلماني، ناصر اليافعي، زينب وشيماء زميلات الجامعة، ومجموعات أخرى من الشخصيات تتمثل في الجيران وزميلات المدرسة والمدرسات والمدرسين وأبناء الحافة "والمقصود بها الحارة".
وبما أن السرد يتكىء على تاريخ حقيقي يبدأ عقب استقلال جنوب اليمن عن الاستعمار البريطاني سنة 1967، حيث يختلف المناضلون ضد الاستعمار وتتعدد وجهاتهم بين ديني وقومي وبعثي وشيوعي، وحين يتغلب التيار اليساري يبدأ في اضطهاد خصومه نهباً لأموالهم وتصفية للشخصيات القوية منهم. 
وكان والد المؤلفة من تلك الشخصيات القوية التي طالتها التصفيات، لكن المأساة التي تعرضت لها الأسرة لم تكن تتركز في تصفية الأب وكفى بل في إخفاء ما حدث، وإيهام الأسرة أنه مسجون وزيارته ممنوعه، وقد ترتب على هذا أن قضت الأسرة أكثر من عقد ونصف العقد تبحث في السجون وتتسول المجرمين طرف خيط يوصلها إلى كبيرها المختفي.
شجون الكتاب كثيرة ومقاربتها كلها في عجالة كهذه ستبدو صعبة وغير مستوفية الأركان غير أنني سأقدم بعض الملاحظات التي أعتبر - من وجهة نظر خاصة وجهة نظر شخصية وليست نقدية – أنها جديرة بالقراءة.
الملاحظة الأولى: تتمتع الكاتبة بقدرة كبيرة على الوصف فهي أثناء استحضارها لتفاصيل المأساة التي فتحت عيونها عليها تقدم لنا معلومات كثيرة عن المكان، وهي تقدم تلك المعلومات من خلال إطار سردي فيه مسحة من الشعر، انظروا مثلا كيف وصفت الحي الذي تسكن فيه، وهو حي اسمه المعلا "أنا بنت المعلا، والمعلا أجمل مدن عدن كلها، بيتنا يقع في الخلفي الصعيدي ولمن لا يعرف المعلا فهي في رأيي لا حدود لجمالها، وهي تتكون من عدة مناطق مثل دكة الكباش "الفرضة" - الرئيسي "مدرم" - الكبسة - حجيف - حافون - القلوعة "الروضة" - الشيخ إسحاق - كاسترو - المعلا كشة "ردفان"، ومن أهم شوارعها الرئيسية: الرئيسي "مدرم" - الدكة - الخلفي "الصعيدي" - السواعي - شارع شعبان "سوق المعلا". 
وهناك مرويات تقول إن أصل اسمها المحلة وأن الأجانب الذين يفدون دائماً إلى الميناء كانوا ينطقونها المعلا "أما شارعها الشهير فقد بناه الانجليز في منتصف القرن الماضي، وكان حتى وقت قريب أطول شارع في عدن تصطف على جانبيه تلك المباني الساحرة المتناسقة التي تجعله من أهم معالم المدينة وأجملها على الاطلاق. نحن سكان المعلا وعشاقها، نعتبر المعلا روحنا ونحن روحها هي منا ونحن منها، كل شيء فيها ومنها ذكرياتنا، أفراحنا أحلامنا أحزاننا لهفتنا ابتسامتنا دمعاتنا، كل شيء، كل شيء أحسه يختلج في روحي هو من المعلا، طفولتي واللعب في الحافة والجري هنا وهناك بكل أمان وسعادة لا أجد له الآن مثيلاً، أين سيتكرر ذلك في هذا الزمان الذي يخاف فيه الآباء على أبنائهم من اللعب في الحافة؟".
الملاحظة الثانية: يحفل الكتاب باستعراضات واسعة للعادات والتقاليد في مدينة عدن، وهي عادات وتقاليد تسردها الكاتبة بلغة مشبعة بالحنين، واللافت أن الكاتبة في سردها الغنائي لتلك العادات والتقاليد تربط بينها وبين ماضي مدينة عدن أو ماضي حي المعلا، بمعنى آخر فهي تربطها بزمن الأب والزمن الذي تلى خطفه، وكأن غياب الأب يرتبط شرطياً بغياب جملة من تجليات الحياة كان لها أن تختفي باختفائه، كمثال على على ذلك وصف المؤلفة للعادات والتقاليد المرتبطة باستقبال العلماء لشهري شعبان ورمضان في الأربطة العلمية في اليمن، وكذلك تقليد العواف، وهو تقريباً شاي الخامسة مساءً، ولعل عدن تعودته من الإنجليز الذين حكموها قرنا وبضع عقود من الزمن "العواف يرتبط بفترة بعد العصر كما يرتبط بتقليد من أشهر تقاليد عدن أعني تجهيز الشاي الملبَّن "شاي الحليب العدني" حيث يجب أن يقدم معه شيء ما، أي نوع من المأكولات البسيطة والسريعة مثل السمبوسة أو الخمير، العواف هو نفسه تسمية لأكل العصر، وهو يطلق على أي شيء يؤكل في الساعة الخامسة مع الشاي الملبَّن، وعادة ما كان العواف يطلق على المدربش الذي يعمل في البيوت، أما الأطفال فحين كانوا لا يرغبون في عواف البيت، فإنهم يعطونهم فلوساً ليشتروا عوافهم من برا من الدكاكين، أو من الأطفال الذين يبيعون المأكولات في الشوارع، مثل بطاط أبو حمر وبطاط بالكاري وخمير، وآيس كريم بأكياس، وهي مأكولات خفيفة تعمل في البيوت.

The Yemeni Novel
قدرة الكتاب على الإدانة

ومازال هناك في عدن إلى اليوم خاصة في المعلا من يحافظون على عادة العواف يأكلونه مع البسباس الأحمر والشاي الملبَّن في الساعة الخامسة عصراً وحدهم المخزنون الذين يتناولون القات من تخلوا عن هذه العادة الجميلة التي كانت ميسماً لعدن وسمة من سمات خصوصيتها. جمال هذا التقليد أنه كان جامعاً يصنع الألفة ويبهج القلوب ويجعل الأطفال يكبرون في مناخ طبيعي ومميز.. كانت تلك أيام لا تعوض ويا ليتها تعود".
الملاحظة الثالثة: أن صورة الأب المخطوف في مخيلة المؤلفة، هو مجرد مخلوق سماوي لطيف لذيذ ومثالي وجميل، والسبب بسيط ولكنه مؤلم جداً فهي لم تعرفه، لم تره ولم يقيض لها أن تستمتع وتنعم بمناداته بكلمة "أبي" أو بالنوم في أحضانه، أو بسماع نصائحه والشعور بقوته وحمايته وقدرته على مد ظل الأمن عليها، لكن المخلوق الأرضي الواقعي الملتحم بالحياة المخلوق الذي رسمته الكاتبة من لحم ودم هو أمها صفية بنت حسين تلك المرأة القوية التي شاركت زوجها النضال ضد الإنجليز، وأخفت ذلك عن أولادها بعد خطف والدهم، ولم تكتشف ابنتها ذلك إلا بعد زمن طويل حين جاء ناصر اليافعي رفيق زوجها في النضال، وقد كشفت فلتة لسان منه ذلك السر. فقدت إحدى عينيها حين كانت راعية صغيرة ترعى الغنم ولم يعلم بذلك أحد حتى عرفته الكاتبة صدفة في موقف رعب أصابها وأصاب أمها داخل البيت. تخلى عنها أقرباؤها الذين تماهوا خوفاً وطمعاً، أو رغبة ورهبة من السلطة بعد خطف زوجها فلم ترهبهم ولا خضعت لهم ولا تخلت عن إيمانها بقضية زوجها.
تعرضت لعشرات بل مئات المواقف وهي تبحث عن زوجها في السجون دون كلل أو ملل، يقنعها أبناؤها بالكف عن البحث، بسبب ما يترتب عليه من صدمات تلم بها ومشاكل تتعرض لها، ثم ما يلبث أن يعنّ لها بصيص أمل حتى تبادر للبحث ضاربة عرض الحائط بأي تحفظات أو تخوفات. 
وعلى الرغم من أن عنوان الكتاب "أين أبي" إلا أنني أشعر أنه كان يجدر به أن يحمل اسم "كفاح أمي" فبمقدار ما نجحت الكاتبة في رسم صورة رومانسية وجميلة لأبيها الشاعر المنافح عن المظلومين الكريم المعين للضعفاء والمساكين، فإنها نجحت حقيقة في رسم صورة لامرأة حديدية هي أمها التي حاربت الدنيا كلها وفاءً لزوجها من جهة وإصرار على النجاة بأطفالها من تبعات ما حصل للأب من جهة ثانية، دون أن تنسى بواقعية بالغة أن تعبر عن لحظات الهشاشة التي كانت تمر بها الأم، فهي تبالغ في غلق الأبواب خشية تعرض أطفالها للخطف والتغييب أسوة بوالدهم، تكره الظلام كثيراً خشية أن يحدث ما تخشاه أثناء سدوله على البيت، تكره أن يطلع أولادها على كتب أبيهم ووثائقه، وأن يحاولوا الحصول على معلومات عنه من الآخرين خشية من مصير مجهول  الخ مما لا يمكن ذكره كله في هذا المقام.
الملاحظة الرابعة: قدرة الكتاب على الإدانة، فكمية الوجع الذي تسكبه الكاتبة في سطور السرد تجعلنا لا نملك إلا التعاطف معها، ولعن سنسفيل من عرضوها وعرضوا أسرتها لتلك المأساة المؤلمة. 
أخيراً أريد الإشادة بعدم إثقال الكاتبة لمؤلفها بالتواريخ، فهو بوصفه فناً سردياً وتوثيقاً غير مباشر أجدى وأفضل مما لوكان كتاباً مثقلاً بالتاريخ وبالإحالات المرجعية.