إسماعيل فهد إسماعيل .. الروائي والتجربة والناس

الكاتب الراحل كان علامة وأيقونة على الإنتاج الأدبي الجاد، ونموذجا ناجحا في الاجتهاد والقراءة وتراكم الإنتاج الإبداعي.
لم يكن يبخل في المشورة على أحد، ولا يرد شخصا قصده
ما أكثر ما كان يسمعه من أحاديث النميمة والغيبة، وغالبيتها تشير إلى ضغائن في نفوس قائليها

بقلم: د. مصطفى عطية جمعة 
تفاجأت الأوساط الثقافية العربية والخليجية برحيل الأديب الكويتي الكبير إسماعيل فهد إسماعيل، والذي كان علامة وأيقونة على الإنتاج الأدبي الجاد، ونموذجا ناجحا في الاجتهاد والقراءة وتراكم الإنتاج الإبداعي، ولأنني - كاتب هذه السطور - قد عاشرتُه عن قرب لسنوات ممتدة، فإن وفاته تركت آثارا عميقا في نفسي، وأعادت طرح أسئلة كثيرة حول دور الأديب والمثقف، ورسالته المجتمعية والتنويرية، وأبرز القيم والسلوكيات التي ينبغي أن يتحلى بها المبدع / المثقف، كي يكون دوما مرجعا في الحياة الثقافية لشباب الأدباء والفنانين. وهي أسئلة قديمة جديدة، ولكن وفاة  كان علامة وأيقونة على الإنتاج الأدبي الجاد، ونموذجا ناجحا في الاجتهاد والقراءة وتراكم الإنتاج الإبداعي إسماعيل فهد ذكرتنا بها، وهو الذي لم يتواجد في أي تجمع ثقافي إلا وحظي باحترام وتقدير لكل الحاضرين، وقد كان على قلة كلماته في مداخلاته، يقدم دائما رؤية جديدة، تستند غالبا إلى خبرة حياتية وإبداعية وثقافية واسعة. 
كان إسماعيل فهد إسماعيل شخصية استثنائية في الحياة الثقافية العربية عامة، وفي الكويت والخليج العربي خاصة، وذلك لامتلاكه سمات عديدة على المستوى الشخصي، وعلى مستوى العطاء الأدبي، وهو ما جعله محط احترام الجميع وإن اختلفوا معه، وموضع تقديرهم وإن تباينت انتماءاتهم، ومقصدهم وقت الاستشارة وطلب الرأي، ونادرا ما خلا مكتبه من زائريه، من الشباب أو الكهول على السواء، يسامرونه، أو يحكون له عن جديدهم، أو يتركون له مخطوطات لإبداعاتهم، ولم يكن يبخل في المشورة على أحد، ولا يرد شخصا قصده، لا يميّز ولا يمايز في تعاملاته مع الناس، فكلهم في نفسه سواء. 

المتأمل في إصداراته التي تربو على الأربعين كتابا: رواية، مجموعة قصصية، مسرحا، نقدا ..، يجد عمقا فكريا، وقيما إنسانية رفيعة، وقراءة للمجتمع الكويتي والعربي بشكل مختلف، ومن زوايا جديدة، والأهم حرصه على العمل بشكل منظم

وهذا ناتج – في رأيي – عن طبيعة شخصيته الموقرة، وتفكيره الرصين، وإعلائه لقيمه الإبداع والفن الجاد، على أي عوامل أخرى، وارتقائه بنفسه فوق أية اختلافات أو تعصبات أو عراكات. 
على المستوى الشخصي، امتلك إسماعيل الهدوء الدائم، ولم يحدث ذات مرة أن رأيتُه عصبيا أو محتدا، وإنما كانت سعة الصدر وقبول المختلِف؛ وحسن الإنصات والكلام بتؤدة وبشاشة أهم ما يميزه. لا يعرف انحيازا لرأي أو توجه فكري أو إيديولوجي، وفي ذلك لم يكن يرد على أي تخرصات أو أقاويل يسمع بها من هنا أو هناك، وإنما يهز رأسه ويبتسم، وقد يغير الموضوع.
  وما أكثر ما كان يسمعه من أحاديث النميمة والغيبة، وغالبيتها تشير إلى ضغائن في نفوس قائليها، الذين يتوقعون أن إسماعيل سيكون طرفا معهم، ويتبنى مواقفهم، وهم لا يعلمون أنه يعرف الكثير من دخائل النفوس، ونزعاتها. ويحزنه أن ينشغل المثقفون والأدباء بمعارك أسبابها صراعات شخصية، ويضيّعون سنوات العمر، دون إنجاز أدبي ملموس، أو قراءات معمقة. وبعض الأدباء يتخيل أن الضجيج الذي يفجره من آن لآخر ، سيكون سببا في شهرته، خاصة إذا لعب اللعبة المعروفة، بأن قال رأيا صادما لأعراف المجتمع وقيمه وعقيدته، وراح يدافع عنه، ويبرر وجهة نظره، متمسكا بشعارات حرية الرأي وما شابهها. 
على المستوى الثقافي، كان إسماعيل شخصية مثقفة من الطراز الأول، ذواقا للفنون التشكيلية، كيف لا، ولديه تجربة في الرسم منذ بواكير شبابه، ونادرا ما يترك معرضا للفن التشكيلي في الكويت إلا ويذهب له، ويشتري لوحة أو أكثر منه، يقتنيها بعض الوقت، حتى يتشبع بما فيها، ثم يبيعها أو يهديها. 
أما عشقه للسينما العالمية، فهذا نراه في اقتنائه مكتبة كبيرة، تصل لآلاف من شراء الفيديو كاسيت، تحوي أهم أفلام السينما العالمية والعربية، ناهيك عن مكتبته الخاصة، والتي يملأها بكل جديد من الكتب. وهو ما جعله في حالة من التفرد والإضافة الإبداعية، وسعيه دائما إلى إنجاز مشروعاته الأدبية، والتفرغ للاستمتاع والتلقي والقراءة بشكل دائم. وبالطبع لم يكن يبخل على أحد إذا استعار منه كتابا أو أكثر.

ومن الطرائف، أن إسماعيل كان يضع الكتب في كل مكان يتواجد فيه، ففي شركته الأولى "ضفاف الكويت" بشارع فهد السالم، كان مكتبه يضم مئات الكتب المتنوعة، وإن كان يهتم بشكل أكبر بالروايات والقصص، فكان يقرأ معظم الوقت، وعادة ما يبدأ بالصحف اليومية، ثم ينصرف منها إلى مواصلة قراءة ما خطط له، فإذا انتهى من بعضها، أعادها إلى مكتبة منزله الكبرى. 
وقد يكون هذا مستغربا من قبل البعض، ولكن نسوقه هنا، كمثال على سبب تميز إسماعيل إبداعيا، فقد كان مطلعا بشكل جيد على المشهد الإبداعي عربيا وما يترجم أيضا من إبداعات عالمية، بجانب صداقته الشخصية لغالبية المبدعين العرب المعاصرين، خاصة المجايلين له، وكان يحرص على استضافة بعضهم. 
وأذكر أنني حضرت ندوة في مكتبة الكويت الوطنية، لمناقشة رواية لكاتب أميركي معاصر، نشرت ضمن سلسلة إبداعات عالمية عن المجلس الوطني للثقافة والفنون والآداب بالكويت، وقد نظم الندوة أحد أندية القراءة، الذي يضم عددا من الشباب المحب للقراءة، فوجدت إسماعيل مدعوا، وحاضرا، وقارئا بدقة، واطلع أيضا على النص الإنجليزي، وقارن بينه وبين الترجمة العربية. فقد كان مرحبا بأي نشاط جاد، مهما صغر أو كبر من قام به، وتلك من أهم سماته. 
أما إبداعه، فقد كان مفارقا، لم تكن بداياته القصصية تقليدية، وإنما ولج الإبداع الروائي والقصصي والمسرحي، من حيث انتهى الآخرون من أبناء جيله، والجيل السابق عليه في الساحة العربية، وهذا ما جعله في مكانة أدبية متفردة، خليجيا وعربيا، كتب النص الحداثي بروح حكائية مشوقة، وصاغ سردا الكويت والعراق وبلدان العروبة وأيضا بعض دول شرق آسيا التي زارها وعاش فيها سنوات، مؤكدا على انتمائه لكل الأمكنة التي أقام فيها، وحبه للناس جميعا دون تمييز. 
والمتأمل في إصداراته التي تربو على الأربعين كتابا: رواية، مجموعة قصصية، مسرحا، نقدا ..، يجد عمقا فكريا، وقيما إنسانية رفيعة، وقراءة للمجتمع الكويتي والعربي بشكل مختلف، ومن زوايا جديدة، والأهم حرصه على العمل بشكل منظم، ودقة كبيرة، وكانت لديه الشجاعة أن يعترف بخطأ ما، وقد يصحح ما أخِذَ عليه في الطبعات التالية، فهمه الأول الإضافة الإبداعية، وتجويد النص.