إطلالة عميقة للناقد د.صباح إسيود على مزايا شعر الخليج
يكتنف الحديث عن الشعر العربي لحديث في منطقة الخليج العربي صعوبة مشوبة بشيئ من الغموض، لخصوصية شعر هذه المنطقة وندرة الدراسات الخاصة بأدبائها التي يمكن أن تسبر غور مغاليق الشعر فيها، وتبدد ما يمور حوله من تكهنات، بأفق راصد لمعالم هذا الشعر وآفاقه المستقبلية.. هذه الرؤية للناقد العراقي د.صباح عبد الرضا إسيود كانت دافعا لهذا الكتاب "دراسات في شعر الخليج العربي"، حيث أكد أنه يأتي كمحاولة لتشكيل إطلالة على مزايا شعر الخليج تمتد إلى أكثر من قرن من الزمان، بانتخاب مجموعة من شعرائه المجيدين الذين يمكن أن ينضووا تحت باب المبدعين في الشعر العربي الحديث لا الخليجي منه فحسب. ما دام شعرهم يمور بالقضايا التي تتردد في الشعر العربي نفسها، فضلا عن أنه يشكل رافدا من روافد الشعر العربي الحديث.
ويضيف إسيود في كتابها الصادر عن دار كنوز المعرفة "وهذا لا يدل على أن التجارب الشعرية المذكورة في ثنايا الكتاب هي الوحيدة في شعر الخليج، وإنما يدخل ذلك في غضون عوامل الاختيار التي تنجر وراء ذوق الدارس والسمت الشعري الجديد المتبع في أنظمة الشعر العربي الحديث الذي يحدد اتجاهات دراسية محددة في أغلب الأحوال. إن عملا من هذا النمط لابد أن يتمخض عن دور مهم لشعراء الحقبة المدروسة، وهي حقبة طويلة تؤكد أن الدور الذي سلكه هؤلاء الشعراء يضارع الدور الذي أداه الشعراء العرب المحدثون، سواء أكان ذلك في بداياتهم الأولية أم ما حصل من قضايا في الشعر العربي الحديث حال تفتح أكمام القصيدة ومرورا بما مر في تضاعيف أنساغها المتعددة، بدءا من قصائد التقليد العمودية، ومرورا بشعر التفعيلة الحر، وختاما بما سمي بقصيدة النثر".
وفي ضوء ذلك قسم إسيود بحوث كتابه إلى ثلاثة محاور أساسية، يمثل شعر جيل البدايات الأولية المحور الأول منها، حيث وقف فيه عند القصيدة العمودية لتكوين فكرة أو شكل عام للقصيدة الخليجية إبان المرحلة الأولى من مراحل عمرها الحديث. وهو يكشف أيضا عن أن الموضوعات التي تناولها شعراء الخليج العربي في إرهاصاتهم الأولية تدل في معظم الأحيان على محاكاة أنموذج معين، وهو بالضرورة أنموذج عربي يشير بوضوح إلى انحسار وعقم ثقافي شديدين. كان الشاعر الخليجي يعاني منهما في الحقبة الأولى من النشأة الأولية.
ويقول "من هنا ألفينا شعر الخليج العربي يدور في حلقة التقليد في بداياته الأولية، ولم يسلم من هذه الحلقة سوى نزر يسير من النتاج الشعري. ويتحدد الشعر في ضمن أطر واتجاهات شعراء العربية الأكثر حداثة وتطورا، ويمثلهم شعراء العراق ومصر والشام بالدرجة الأولى. ولم يبق لشعراء الخليج سوى التعبير عن البيئة الخليجية في أشكال ومضامين وأطر مسبوقين إليها في الغالب. وفي هذا دلالة على كساد ثقافي عام. والقصيدة الخليجية تحاول أن تنفس عن كربتها من جراء ضيق أفقها كي ترتقي إلى مصاف ما بلغته نظيراتها في الوطن العربي، من دون أن تتمكن من بلوغ ذلك المستوى في أغلب الأحيان. ويكشف دور الشاعر الإماراتي (سالم بن علي العويس) عن المظهر الثاني من مظاهر المحور الأول، بوصفه أنموذجا للشعراء الأوائل ـ الرواد ـ في شعر الخليج العربي، ينم عن موقف بالغ الخطورة والأهمية، في ضوء ما نعرفه عن طبيعة الظروف السياسية والملابسات التي بلغت شأوا مهما في مدة حياته وأثرت في شعره مباشرة.
ويرى إسيود أن العويس يؤكد تضلعه بما كان سائدا عن شعراء جيله، ويتابع "حاولت في دراسة العويس تحديد ما طرحه من قضايا ومعان أولية شكلت مرتعا خصبا ينهل منه الشعراء اللاحقون في بحثهم عن أطر جديدة. فالعويس يغمس ريشته فيما يسمى بشعر الاستنهاض الوطني والقومي والاجتماعي، الذي كان يلبي حاجات ومتطلبات مرحلته. لذا يعد يوانه سجلا وافيا لأحداث عصره وقضاياه التي ظل الحس القومي مشدودا إليها، يعزف عليه في شتى المناسبات وبمختلف صيغ المعالجة وأشكالها، وهو في ذلك يذعن لنفسه وبيئته أيضا... ثم ثنيت بدراسة تجربة الشاعر السعودي حسين عرب. وهو من الشعراء الرواد أيضا، والمتتبع لشعره يقف على دقائق حياته النفسية، وتتكيف قصائده وفقا لهمومه القومية، وهو يتخذ من النبرة الوطنية والقومية صيغة ثورية لكشف وتعرية الواقع العربي الملوث بكثير من الزيف والخداع.
وفي المحور الثاني توجه إسيود إلى تجربة الجيل المجدد والطموح للتجديد، الذي مثلته تجارب بعض شعراء البحرين بصفة خاصة، ولا سيما الشاعرين علوي الهاشمي وقاسم حداد. وكانت دراسة (تجربة علوي الهاشمي) إيذانا بتتبع المظهر الأول من مظاهر هذا المحور، وهو محور المعاصرة المتفتق عن أسس شعرية جديدة، تنم عن دور واعد لشعراء ظلوا بحاجة ماسة إلى تناول وتأكيد الذات العربية الخليجية من خلال تتبع صيرورة النفس الخليجية في هذا الصدد، وهي تنطوي على أسس تحاكي الأسس التي انطلقت في الشعر العربي الحديث أولا. وقد وجد في تجربة الهاشمي ثمة مظاهر متعددة اتخذها الشاعر وسيلة للوصول إلى مبتغاه، وهي تنبع شعر المقاومة الفلسطينية في أغلب الأحوال، لتكشف عن بذرة مهمة من بذار الشاعر الخليجي المعاصر، تؤهله إلى ريادة فنية وموضوعية، مع أنها تصانع شعراء جيله والشعراء السابقين عليه في آن واحد. ومن الجانب الآخر فأنها تفضي إلى الثورة العربية المعاصرة التي يؤكدها شعراء البحرين في قصائدهم بصفة خاصة.
ويوضح أنه إمعانا في بحث الجوانب الموضوعية المتكررة في شعر الخليج استلهم الشعراء قضايا ترتبط بالتغير الاجتماعي الذي صاحب اكتشاف النفط، وعنوا كثيرا بقضية المدينة الجديدة فوصفوا ما التصق بها من تغير عمراني هائل، وتغير في القيم والعادات المتوارثة ومن ثم أسلم ذلك المجتمع إلى التفكك والانحلال الأسري. ولعل من نافلة القول أن نشير إلى أن هذه البذرة في تجربة حداد الموسيقية ونفر آخر من شعراء الخليج ظلت تجوس وتبحث عن وليد متجدد، حتى تشكل أولا بانعطافة الشاعر بقصيدته نحو المصايرة الصوفية المتعلقة بأجواء ميتافيزيقية وخيالية في أحيان كثيرة. ومن ثم أثمرت نبتا مشاكسا لما عرفته السليقة العربية، بل أنه يخرج عن إطار الشعر في العرف العربي الملتزم بآفاق ثابتة لا يقبل أن تمس، ولاسيما عند الشعراء الملتزمين بأعراف ثابتة وأطر واحدة لا يقبلون لها أن تتنوع. بيد أنه يشكل ظاهرة في الشعر العربي، لاسيما عند من هضم تقنياته الجديدة وعند الشعراء الواعدين، بعد أن دفعت إلى وجوده حاجات الشاعر الحديث. ويلوح لنا أن "قاسم" من الشعراء الذين تتوشح قصائدهم وتصطبغ بثيمات تجديدية وأفكار تنويعية جمة، وبصفة خاصة في تجربته التي تؤهله لريادة قصيدة النثر في الشعر الخليجي المعاصر.
ويقول "لابد أن يشير المرء وهو يستلهم تقنيات هذا النمط من الأدب العربي الحديث إلى أنه على وفق أشكال متقدة ومتعددة، لا يمكن أن تحتويها أوراق قليلة، لأنها بحاجة ماسة إلى تقنين وتتبع دقيق لذلك النمط من الأدب لا الشعر فحسب. لذلك توجهنا إلى معاينة أحد مظاهرها عن الشاعر قاسم حداد، وهو هيكلها، وأرجأنا الحديث عن تجليات قصيدة النثر إلى دراسة أخرى، لتحتفل بآلية هذا الشكل الفني الذي غزا الشعر العربي في الأونة الأخيرة. ومن هنا تفتقت القصيدة العربية عن برعم جديد من براعم جيل الطموح والانفلات في الشعر العربي الحديث".