إنهم يكرهون بغداد

هراء طائفي مقيت يعلي من أئمة لم يفعلوا شيئا مقابل النيل من ذكرى خلفاء شيدوا وأداموا عاصمة الاسلام لقرون.

المشكلة ليست في بغداد بل في مَن يكرهها. ولكن تلك المشكلة تصبح أكثر تعقيدا إذا ما عرفنا أن من يكره بغداد صار الآمر الناهي فيها.

هناك محاولة للانتقام من عاصمة الرشيد لأنها احتضنت في سالف أيامها العصر العربي ـ الاسلامي الذهبي. وهو ما يشير إلى مزاج انتقامي يسعى إلى طمس واحد من أعظم عصور الحضارة في المنطقة.

يبدو الغطاء الطائفي متهالكا وهزيلا حين يستعمل للتستر على ذلك المزاج. لم تكن دولة بني العباس دينية بشكل مطلق، لذلك فإنها لم تتعامل مع خصومها السياسيين على أساس طائفي.

بغداد التي استخرجها أبو جعفر المنصور من العدم ولمعها هارون الرشيد بذهب فتوحاته وانجازات عصره الثقافية وفتح ابنه المأمون أبوابها على العالم من خلال الترجمة، هي مدينة كل الملل والنحل. وهي المدينة الممكنة بالنسبة لمتاهة الفكر الإنساني.

كانت أكبر من أن تكون محطة للارتزاق الطائفي.

ما شهدته بغداد أيام المنصور والرشيد والمأمون هو خلاصة فريدة من نوعها لما يمكن أن يفعله العرب حين تكون الحضارة هاجسهم في التواصل مع العالم الخارجي. كانوا رياديين وطليعيين وفاتحين في فكرهم النقدي وعبقرية رؤاهم وهي تتخطى حدود ما فعله الأسلاف لتنفتح على العالم الخارجي الذي لم يخفها بل كان هو الآخر دار سلام وهو ما الهمها فكرة ترجمته والتعلم من فلسفته في النظر إلى الحياة.

بغداد يكرهها الظلاميون لا لأنهم لا يعرفونها حسب بل ولأنهم أيضا لا يرغبون في أن تكون حجة لفضح هرائهم الطائفي المقيت.  

يضع الطائفيون الأئمة المكرسين دينيا من وجهة نظر مذهبية في مقابل الخلفاء العباسيين الذين أرسوا قواعد دولة قومية عظيمة. وهي مقارنة خاسرة ولا يقبلها إلا عقل قاصر عن فهم معنى التاريخ وبناء الدولة والنهوض بالمجتمعات. فمَن هو موسى الكاظم الرجل الذي لا أثر ملموس له في التاريخ في مقابل هارون الرشيد الذي وصلت تقنيات علمائه إلى فرنسا؟

معادلة ليست صائبة. علينا هنا أما أن نختار الخرافة او الحقيقة. علم التاريخ لا يكذب. هناك شيء اسمه التدوين، يمكننا من خلاله أن نقتفي الأثر فتظهر لنا الوقائع كما هي وليست كما نتمنى.

اما المصادر التي يعود إليها كارهو بغداد متهمين من خلالها خلفاء بني العباس الثلاثة بأنهم كانوا مجرد قتلة فهي مجرد مرويات، دست في زمن متأخر لتكون مادة للفتنة والهدم وتشويه الحقائق عبر إشاعة روح الخرافة التي كان من شأنها أن تخلب لب عقول البسطاء من الناس.

ولكن هل تصلح الحكايات الساذجة التي يتداولها البسطاء أداة لمعرفة التاريخ ومن ثم الحكم على أبطاله ووقائعه وما نتج عنها؟

مناقشة ذلك الأمر هو شيء في غاية السذاجة. ولكن بغداد تبدو اليوم كما لو أنها الضحية الممكنة في ظل سيادة روح انتقامية، اتخذت من المسألة الطائفية عصا تتوكأ عليها للوصول إلى أهدافها في إزاحة بغداد من الجغرافيا، بعد أن تبين لها أن ازاحتها تلك المدينة الخالدة من التاريخ أمر يقع خارج ما هو مستطاع.

وما الصوت الذي علا تحت قبة البرلمان العراقي مطالبا بالانتقام من بغداد كونها وديعة بني العباس في الزمن إلا خلاصة لما يفكر فيه الكثير من ساسة العراق الجديد الذين يتملكهم الرعب حين يتحتم عليهم ذكر اسم المدينة التي يكرهونها.

لم تتحول بغداد إلى واحدة من أقبح المدن في العالم إلا بسبب ذلك الهاجس الجمعي الانتقامي لدى حكام العراق الجديد الذين يعرفون أن واحدة من أهم المهمات التي أوكلت إليهم تكمن في إزالة بغداد، كونها العلامة الباقية من عراق موحد، يفخر أهله بأمسهم الذي لا يزال يمشي حييا مثل طالب علم قُبل لتوه في المدرسة المستنصرية التي هي الأثر الكامل الوحيد المتبقي من العصر الذهبي.

بغداد التي أضحت بعد الاحتلال الأميركي حلما صار المطلوب من منفذي مشروع الاحتلالين الأميركي والإيراني أن يحولوها إلى شظية في كابوس ذاهب إلى العدم.

فإذا ما كان بانيها قد استخرجها من العدم فإن اعداءه يسعون إلى إعادتها إلى ذلك العدم.