إنِ الْحُكْمُ إِلَّا لِلَّهِ.. ليست سياسة

إنِ الْحُكْمُ إِلَّا لِلَّهِ فسرها من وضع نفسه ليكون المرشد والولي الفقيه فكل منهما وارث أول مَن فُرز زعيماً على أساس المعنى السِّياسي للآية وهو الخليفة الخارجي عبد الله بن وهب الرَّاسبي وكأن المكان مازال حروراء مِن الكوفة والزَّمان في العام 37 هجرية حين معركة صفين.

بقلم: رشيد الخيُّون

اعتبرت أغلب أدبيات الإسلاميين الآية: «إِنِ الْحُكْمُ إِلَّا لِلَّهِ» تعني السلطة السياسية، وعلى هذا تبنوا «الحاكمية الإلهية» سياسياً. ينتقل الحُكم وفقها إلى التنظيم الإسلامي عند «الإخوان المسلمين» وبقية التَّنظيمات، وإلى نيابة الإمام وإرث النَّبوة لدى «ولاية الفقيه»، ولتحقيق ذلك تشكلت تنظيمات الإسلام السِّياسي على اختلاف مشاربها، لكنهم لم يتوقفوا في ما تقدم وتأخر مِن الآية، والذي يُشير إلى قدرة الله على الفعل، وفك النزاع، خلافاً لما اتخذوه مبرراً للسلطة، بتفسير مفردة «الحكم» على أنها السِّياسة.

فعندما نادى بها «الخوارج» خلال معركة «صفين»(36-37هـ)، كان المقصود في البداية التحكيم لا الحُكم، حين رُفعت المصاحف وعُين الحكمان عمرو بن العاص(نحو43هـ) عن الشَّام الأموي، وأبو موسى الأشعري(نحو44هـ) عن العِراق العلوي، وحصل ما حصل مثلما ورد في أُمهات التَّاريخ.

وردت الآية في ثلاث سور: «إِنِ الْحُكْمُ إِلَّا لِلَّهِ يَقُصُّ الْحَقَّ وَهُوَ خَيْرُ الْفَاصِلِينَ»(الأنعام: 57)، و«إِنِ الْحُكْمُ إِلَّا لِلَّهِ أَمَرَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ»(يوسف:40)، و«وَقَالَ يَا بَنِيَّ لَا تَدْخُلُوا مِنْ بَابٍ وَاحِدٍ وَادْخُلُوا مِنْ أَبْوَابٍ مُتَفَرِّقَةٍ وَمَا أُغْنِي عَنْكُمْ مِنَ اللَّهِ مِنْ شَيْءٍ إِنِ الْحُكْمُ إِلَّا لِلَّهِ»(يوسف:67). فلم تُطرح في التفسير على أنها السلطة السياسة مثلما يطرحها الإسلاميون كأحد أهم مبرراتهم.

فسرها أيضاً الإمام علي بن أبي طالب (اغتيل40هـ)، مميزاً بين الحُكم في النِّزاع والإمرة أي السُّلطة السِّياسية، عندما ناداه الخوارج بالقول: «لِمَ حكمتَ الرِّجال، لا حكم إلا لله»(الشَّهرستاني، الملل والنَّحل)! فأجابهم: «كَلِمَةُ حَقٍّ يُرَادُ بِهَا بَاطِلٌ! نَعَمْ إِنَّهُ لا حُكْمَ إِلاَّ للهِ، ولكِنَّ هؤُلاَءِ يَقُولُونَ: لاَ إِمْرَةَ، فَإِنَّهُ لاَبُدَّ لِلنَّاسِ مِنْ أَمِير بَرّ أَوْ فَاجِر، يَعْمَلُ فِي إِمْرَتِهِ الْمُؤْمِنُ، وَيَسْتَمْتِعُ فِيهَا الْكَافِرُ، وَيُبَلِّغُ اللهُ فِيهَا الأجَلَ، وَيُجْمَعُ بِهِ الْفَيءُ...»(نهج البلاغة، خطبة رقم 40)

قديماً، وقف عندها عزّ الدين بن أبي الحديد(ت656هـ)، شارح «نهج البلاغة»، وكان شافعياً ومعتزلياً من معتزلة بغداد المتأخرين، شارحاً ما قَصدتْ به الآية، وفق ما وردت العبارة (إِنِ الْحُكْمُ إِلَّا لِلَّهِ) في النص الكامل لا مقطوعة من سياقها، فمَن جعل «الحاكمية الإلهية» عقيدةً سياسية أخذها مقطوعة من السياق وقرر عليها حاكميته، لأن المعنى والمدلول عندها يكون مختلفاً. قال ابن أبي الحديد- قبل أن تُعلن «الحاكمية» بأكثر من سبعة قرون- بأنها تعني قدرة الله على فعل ما يُريد، وليس السُّلطة السِّياسية: «أي إذا أراد شيئاً من أفعال نفسه فلا بد من وقوعه، بخلاف غيره من القادرين بالقدرة، فإنه لا يجب حصول مرادهم إذا أرادوه، ألا ترى ما قبل هذه الكلمة(ما ورد في سورة يوسف): (يا بَنَيّ لا تدخلوا من باب واحد، وادخلوا من أبواب متفرقة، وما أغنى عنكم من الله من شيء، إن الحكم إلا لله). خاف عليهم من الإصابة بالعين إذا دخلوا من باب واحد، فأمرهم أن يدخلوا من أبواب متفرقة»(شرح نهج البلاغة).

أكثر وضوحاً، يشرح ابن أبي الحديد خطبة علي بن أبي طالب، التي تناولت نداء الخوارج في معسكره، وعلى أساسها تشكلت الفرقة المذكورة، ولما لم يُستجاب لهم بإلغاء التَّحكيم، شكلوا كيانهم السياسي، وعينوا خليفةً لهم، خارج ما فسرته أصحاب الحاكمية مِن معنى الآية. قال: «ثم قال لهم: وما أغنى عنكم من الله من شيء، أي إذا أراد الله بكم سوءاً لم يدفع عنكم ذلك السوء، ما أشرت به عليكم من التفرق، ثم قال: إن الحكم إلا لله أي ليس حيٌ من الأحياء ينفذ حكمه لا محالة، ومراده لما هو من أفعاله إلا الحي القديم وحده، فهذا هو معنى هذه الكلمة»(المصدر نفسه).

ولما لم يؤخذ برأيهم، مثلما تقدم، حوَّلت فرقة الخوارج، التي تشعبت بعدها إلى عشرات الفُرق، الشّعار، وفق تفسير الآية، إلى سُلطة سياسية، فحسب ابن أبي الحديد: «وضلت الخوارج عندها فأنكروا على أمير المؤمنين عليه السلام موافقته على التحكيم، وقالوا كيف يحكم وقد قال الله سبحانه: إن الحكم إلا لله، فغلطوا لموضع اللفظ المشترك، وليس هذا الحُكم هو ذلك الحُكم، فإذن هي كلمة حق يراد بها باطل، لأنها حق على المفهوم الأول، ويريد بها الخوارج نفي كل ما يسمى حكماً إذا صدر عن غير الله تعالى، وذلك باطل، لأن الله تعالى قد أمضى حكم المخلوقين في كثير من الشرائع»(المصدر نفسه).

نجد لشَّرح ابن أبي الحديد أهمية، بحصر المعنى بقدرة الله، بينما مازال خطباء الإسلام السِّياسي، على منابرهم الفضائية، يقصدون المعنى الذي قال فيه علي بن أبي طالب: «كلمة حقّ يُراد بها باطل»، وبينهم مَن يعتبر نفسه مِن أتباع عليٍّ. ليكون المرشد والولي الفقيه، كل منهما، وارث أول مَن فُرز زعيماً على أساس المعنى السِّياسي للآية، وهو عبد الله الرَّاسبي(قُتل37هـ)، وكأن المكان مازال «حروراء» مِن الكوفة، والزَّمان في العام 37 هجرية!

نشر في الاتحاد الإماراتية