إيران.. دخول مثقفين وفنانين معسكر المعارضة والاحتجاج

الحفلات الموسيقية ليست فقط ما يُمنَع ويُلغَى في اللحظات الأخيرة بل امتدّ الأمر إلى الأفلام فقد احتجّ مئات من صانعي الأفلام على منع أفلامهم بعد أن حصلت على تصريح بالموافقة من هيئة الرقابة السينمائية، متهمين حكومة روحاني بأنها لا تقدم أي حلول لمشكلاتهم ولا لكل تلك المعوقات التي يتعرضون لها، دون أسباب حقيقية ومُعلَنة.

يملك الفنان والمثقف سلطةً على الحراك الاجتماعي وانفعالاته، لربما أكثر من السياسيّ، نظرًا إلى حاسَّته الاستشعارية والاستشرافيَّة، فكثير من الأعمال الإبداعية استطاعت بشكل أو بآخَر صناعة التغيُّر على أرض الواقع وإزاحة القمع عن الذات الاجتماعيَّة، إذ إن رسالة الفنان والمثقف -وَفْقًا لفرويد وكارل يونغ وآخرين من علماء النفس- ليست رسالةً فرديَّة، بل هي متعلقة بشكل أساسيّ بالمجتمع وأزماته.

المثقف والفنان الإيراني لا ينفصل عن هذه المعطيات، إذ كان مُسهِمًا في التعبير عن مشكلات مجتمعه، بل ومتحيزًا لها على أقل تقدير ففي يوم 28 مايو 2018 دعا مكتب الرئيس حسن روحاني عددًا كبيرًا من الفنانين والمثقفين إلى حفل إفطار جماعي في شهر رمضان، إلا أن عددًا كبيرًا ممن دُعُوا فاجؤوا الرئيس والمجتمع الإيرانيّ برفض الدعوة، ولم يكتفوا بذلك بل أعلنوا عن أسبابهم على مواقع التواصل الاجتماعي.

قائمة الضيوف من الفنانين والمثقفين وصانعي الأفلام الذين دُعُوا كانت كبيرة إذ ضمت أسماء مهمَّة، أمثال الممثل المسرحي والتليفزيوني برويز برستوئي، والمخرج مازيار ميرى، والممثلة شيلا خداداد، والممثل برزو ارجمند.

هذه الدعوة احتفال تقليدي يقيمه الرئيس كل سنة في شهر رمضان، إلا أن الأمر كان مختلفًا هذه المرة، فتحت هاشتاق «لن نذهب للإفطار»، كتب الممثلون وصانعو الأفلام أسباب رفضهم دعوة الرئيس، ويتلخص أغلبها بفشل روحاني في «حل مشكلات الشعب الاقتصادية والاجتماعية، وعدم اتخاذ الحكومة بقيادة روحاني أي خطوات جادَّة لفعل ذلك».

اعتقال النشطاء والظروف الاقتصادية سيئة

على الرغم من أن أغلب الفنانين الذين رفضوا دعوة روحاني كانوا من الداعمين له في حملته الانتخابية بين عامَي 2013 و2017، إلا أنهم شعروا باليأس وخيبة الأمل بسبب وعوده التي لم ينفذ أيًّا منها. إذ كتبت مهناز أفشار، الممثلة السينمائية: أشكر لحضرتكم هذه الدعوة، وأطلب منكم أن تُوجهوها بدلًا مني إلى «آتنا دائمي» الناشطة في مجال حقوق الإنسان والسجينة السياسية، التي بلغت مؤخَّرًا الثلاثين من العمر في سجن قرتشك بمنطقة ورامين. إنها ليست مجرمة، بل ترغب فقط بـــتطبيق حقوق الإنسان في البلاد.

والتليفزيونية الشهيرة، تغريدة على حسابها بموقع «تويتر»، تشرح فيها لروحاني سبب رفضها دعوته إلى حفل الإفطار، منتقدةً في الوقت ذاته اعتقال النشطاء الحقوقيين في إيران أمثال آتنا دائمى الناشطة في مجال حقوق الطفل والمحكوم عليها بالسجن لمدة 14 عامًا.

أما الممثل برويز برستوئي فبرَّر رفضه دعوة روحاني بالظروف الاقتصادية السيئة التي تمرّ بها إيران، وقال: «إن مثل تلك الاحتفالات تكلّف كثيرًا من الأموال، وأنا أرى أنه لا داعي لإنفاق كل تلك النفقات وسط الظروف الصعبة التي يمر بها الإيرانيّون».

برستوئي أضاف: «إذا كان روحاني يريد من تلك الدعوة أن يعرف آراء ومشكلات الشعب من الفنانين والمثقفين، فلا بد أنه يعرف الآن كل ما يدور؛ فالإيرانيّون يعبرون عن أزماتهم بطرق مختلفة كل يوم».

أثار رفض السينمائيين دعوة روحاني كثيرًا من النقاشات، فبعض المحسوبين على التيَّار الإصلاحي رأوا أن تلك الخطوة التي قام بها المثقفون والفنانون سيئة للغاية، ولا تصبّ في مصلحة البلاد، بل هي تصعيد للمشكلات وإعادة لطرحها على مواقع التواصل الاجتماعي لإثارة البلبلة في وقت حرج تمر به البـــلاد.

أما التيَّار المحافظ فشعر بسعادة كبيرة بتلك الخطوة، مُستغلين إياها لإثبات أن «حكومة روحاني فشلت في كل شيء لدرجة أن جعلت من كانوا يؤيدونه وانتخبوه بالفعل مرتين ينقلبون ضدّه وأمام الجميع».

ووسط هذين الصوتين ظهر صوت محايد أكـثر عقلانية، رأى أن هذا الرفض مؤشّر صحي على المناخ السياسي في إيران، وأن تأييد المجتمع الفني والثقافي للرئيس ليس معناه عدم انتقاده، بل إنه حقّ من الحقوق الدستورية التي من المفترض أنها مكفولة للجميع.

ومن بين كل تلك الآراء رأت الحكومة أنها لا بد أن تدافع عن نفسها، إذ صرح محمد باقر نوبخت المتحدث باسم الحكومة قائلًا: «إن الحكومة تبذل قصارى جهدها من أجل تنمية الاقتصاد الإيرانيّ، وقد أنفقت الحكومة أكثر 97 تريليون تومان لتوفير الرعاية الاجتماعية اللائقة للإيرانيّين».

ودافع باقر ردًّا على تصريحات بعض الفنانين الذين انتقدوا انت شار معدَّلات الفقر بين الإيرانيّين بقوله: «إن طاولات طعام الإيرانيّين أصبحت أكثر غِنًى منها العام الماضي».

ليست المرة الأولى

لم تكُن هذه المرة الأولى التي يحتجّ فيها المجتمع الثقافي والفني على روحاني، ففي مايو 2017 بعد إعادة انتخاب حسن روحاني لفترة رئاسية ثانية وجد مثقفو وفنانو إيران أنه الوقت المناسب لتذكير روحاني بدعمهم له في المرتين الأولى والثانية بالانتخابات، وأيضًا تذكيره بعدم وفائه بشعاراته للمجتمع الإيرانيّ بشكل عامّ ووعوده لهم بشكل خاصّ، وأنهم ما زالوا محاطين بالقيود واليأس، إذ كتب الصحفي الإيرانيّ حسين علي زاده في صحيفة «وقائع اتفاقيه»، تقريرًا يشير فيه إلى زيادة منع الحفلات الموسيقية بإيران في عهد الرئيس حسن روحاني، ذاكرًا أن «أغلب المغنين والموسيقيين يعانون قيودًا كثيرة على إقامة حفلاتهم الموسيقية على الرغم من وجود رئيس معتدل مثل روحاني في الحكم».

ويصف علي زاده في ذلك التقرير أسباب منع الحفلات الموسيقية بأنها تعسفية فيقول: «إن الحفلات جميعًا التي أُلغِيَت كانت حاصلة على التصاريح اللازمة من وزارة الثقافة والإرشاد، ولكن الأوامر تأتي من الهيئة القضائيَّة دون شرح».

ولكن ليست الحفلات الموسيقية فقط ما يُمنَع ويُلغَى في اللحظات الأخيرة، بل امتدّ الأمر إلى الأفلام، فقد احتجّ مئات من صانعي الأفلام على منع أفلامهم بعد أن حصلت على تصريح بالموافقة من هيئة الرقابة السينمائية، متهمين حكومة روحاني بأنها لا تقدم أي حلول لمشكلاتهم ولا لكل تلك المعوقات التي يتعرضون لها، دون أسباب حقيقية ومُعلَنة.

في ظلّ هذه التداعيات انتقد المترجم والناقد الإيرانيّ البارز خشايار ديهيمي عدم تلبية روحاني مطالب الأدباء والمثقفين قائلًا: «إن مطالب المجتمع الثقافي الإيرانيّ مستمرة دائمة لأنها لم تلقَ اهتمامًا من المسؤولين».

وفي مقابلته مع وكالة «إيلينا» أضاف: « إن أحد أهم مطالب المثقفين في إيران هو أن تبقى القضايا الثقافية في أيديهم، لا في أيدي مجموعة من الموظفين والإداريين، ولا تحت سيطرة وزارة الثقافة والإرشاد التي يسيطر عليها رجال النِّظام».

كذلك طلب خشايار من حسن روحاني أن يولي الحياة الثقافية اهتمامًا خاصًا، لأنها «هي ما يعكس آراء ومطالب الشعب بكل صدق وأمانة، لا التقارير التي يكتبها السياسيون».

الاحتجاجات الأخيرة.. أجراس الخطر تدقّ

في آخر عام 2017 خرجت مظاهرات كبيرة بأغلب المدن الإيرانيَّة احتجاجًا على سوء الأحوال الاقتصادية واعتراضًا على السياسة الخارجية للبلاد، وقد تفاعل عدد كبير من الفنانين والمثقفين مع تلك الاحتجاجات، مؤيدين ضرورة إجراء الإصلاحات في أقرب وقت، كما طالب عدد منهم بـ«إجراء تغييرات جذرية في النِّظام الإيرانيّ».

وفي 18 يناير 2018 أصدرت رابطة الكتاب الإيرانيَّة بيانًا عقب الاحتجاجات التي مرَّت بها إيران تَضمَّن مطالب عِدَّة، من أبرزها «الإفراج الفوري وغير المشروط عن جميع المعتقلين السياسيين السابقين ومن اعتُقلوا مؤخَّرًا في المظاهرات».

وانتقدت الرابطة في بيانها استخدام قوات الأمن العنفَ تجاه المتظاهرين، كما أكَّد البيان «تَعرُّض المتظاهرين السلميين للقمع، على الرغم من حقهم الدستوري في التعبير عن رأيهم».

وفي الوقت ذاته أصدرت مجموعة منفصلة من الشعراء والأدباء الإيرانيّين بيانًا آخَر شديد اللهجة، واصفًا المظاهرات الأخيرة بأنها أجراس الخطر التي بدأت تهزّ الأرض تحت أقدام المسؤولين، ومنددين بـ«الفساد المنتشر في كل مؤسَّسات الدولة الذي يقتل حقّ الإيرانيّين في الحياة».

كما أن المجتمع الثقافي وخلال مظاهرات ديسمبر طالبوا أيضًا بتغيرات في النِّظام الإيرانيّ وضرورة تحسين الوضع الاقتصادي ورفع الظلم الاجتماعي عن النساء الإيرانيّات، وإنهاء التمييز الديني والعرقي.

وواجه الإصلاحيون على وجه الخصوص انتقادًا لاذعًا من المخرج السينمائي المعارض محسن مخملباف، الذي كتب رسالة مطوَّلة موجهة إلى سياسيِّي التيَّار الإصلاحي، جاء فيها: «إنني أكره الحكومة الإصلاحية التي لم تفعل شيئًا للإيرانيّين، رغم تولي روحاني رئاسة إيران منذ سنوات» حسب تعبيره. واتهم مخملباف التيَّار بأنه «لا يعرف شيئًا عن الإصلاح إلا في أثناء الانتخابات، التي يقع مصيرها في نهاية الأمر بيد خامنئي».

في 30 مايو 2018، وبعد أن رفض عدد من الفنانين والمثقفين تلبية دعوة روحاني لحضور حفل الإفطار الجماعي، أرسل نحو 100 مخرج سينمائي رسالة إلى المسؤولين في الحكومة الإيرانيَّة مطالبين بوضع حدّ للقيود المفروضة عليهم داخل وخارج إيران، وأرسلوا رسالة ثانية إلى مديري السينما في وزارة الثقافة والإرشاد اعتراضًا على الإجراءات التعسفية التي يواجهها المخرجون والمصورون في أثناء تصوير أعمالهم الفنية، ومنع بعض المخرجين من السفر، أمثال «جعفر بناهى». ومنذ اندلاع الثورة في إيران يتعرض الفنانون والمثقفون للتقييد والهجوم النفسي، وأحيانًا للسجن، ومن وقت إلى آخر يحاولون أن يعترضوا على سوء الأحوال وعلى النِّظام الإيرانيّ وسياساته تجاه الحياة الثقافيّة.

عن المعهد الدولي للدراسات الإيرانية