إيران في لبنان: حقيقة صعبة لا بد من مواجهتها

إيران على مدى العقدين الماضيين أرست حالة شاذة في لبنان هي التعايش القسري بين دولة تسعى اسميا إلى الحداثة والاستقرار وفق إرادة مجتمعها فيما إيران تمعن بالإقطاعية والطائفية لضمان وجودها.

بقلم: حسن منيمنة

ما قاله مستشار قائد الحرس الثوري الإيراني اللواء مرتضى قرباني عصي عن التأويل أو التبديد: "في حال ارتكبت إسرائيل أصغر خطأ تجاه إيران، سنسوي تل أبيب بالتراب انطلاقا من لبنان دون الحاجة لمعدات أو إطلاق صواريخ من إيران".

قد يكون الأمر حاجة داخلية إيرانية إلى شد العصب الشاهنشاهي لجمهور يزداد نفورا مما آلت إليه الأوضاع في ظل الجمهورية الإسلامية، فتتراجع حينها اعتبارات حفظ ماء الوجه للأتباع وحلفاء الأتباع. أو قد يكون الأمر أن الرجل، من فائض استقواء، ليس مطلعا أو معنيا أصلا بدقائق التركيبة الإعلامية الهادفة إلى تورية الاستيلاء الإيراني على القرار في الإيالات العربية التابعة، ولا حرج لديه بذكرها، العراق، لبنان، سوريا، اليمن.

يستطيع وزير الدفاع اللبناني أن يعترض، بلطف وأدب، وأن يزعم، من باب الخيال العلمي، أنه "لا يجوز أن تمس استقلالية القرار اللبناني بأي شكل من الأشكال". بل ربما تصدر عمّن هو أكثر صراحة في تبعيته التوضيحات والتنويهات. ولكل مقام مقال. على أن الأرجح، إزاء هذا التصريح كما كان الحال مع ما ماثله في مرات سابقة، هو اعتماد الصمت والتجاهل، لاختصار فترة بروزه الإعلامي، لتعزيز إمكانية إنكاره أو إثارة الشبهات حوله، ولعدم إثراء الخطابيات المعادية بمادة سجالية.

الحقيقة الموضوعية التي ينطلق منها تصريح مستشار القائد هي أن لبنان هو موقع متقدم للحرس الثوري، وأن الصواريخ، والقوات المسلحة التي تتولى تجهيزها، تمتثل صراحة للقرار الإيراني، بل ثمة اعتزاز في كلامه بأن إيران قادرة على تجنيب نفسها المشقة والعواقب. أما لبنان، فمنصّة وحسب، ولا اعتبار هنا لما قد يتعرّض له نتيجة انفلاش الجبروت الإيراني المزعوم على إسرائيل.

إيران ليست من أنشأ النظام النهبي في لبنان، بل هذا النظام والمبني أساسا على إقطاعية ضاربة في عمق التاريخ، قد استفاد من ثغرات وهفوات، وأخطاء وخطايا، ضمن الجمهورية الثانية، ليعود إلى البروز ويستتب ويمعن في الاستيلاء على أموال اللبنانيين، المتحققة والموجودة منها بالتأكيد، ولكن كذلك من خلال استغلال تركيبات مالية قائمة على الاستدانة من المستقبل بحجة التنمية والاستثمار، لتوريط أجيال ناشئة وأخرى لم تلد بعد.

وإيران لم تكن هي المسؤولة عن أوضاع التهميش والاستهتار والإهمال والتي طالت حزام البؤس الكبير في جمهورية الاستقلال، إذ شهدت تحبيذا لجبل لبنان وبيروت في الإنماء والإعمار، على حساب الجنوب والبقاع والشمال، ما دفع المحرومين في هذه المناطق إلى اصطفافات يسارية، قبل أن يرسو الخيار، بفعل ظروف تاريخية، إلى إعادة إنتاج الوعي الطائفي.

وإيران ليست مسؤولة عن الحروب والمآسي التي تكبدها لبنان نتيجة للقضية الفلسطينية، وصولا إلى الاحتلال الإسرائيلي على مدى عقدين، لأجزاء واسعة من أرضه وشعبه. بل هي إيران، رغم شوائب عميقة في دعمها هذا، هي من مكّن المقاومين من أهل الجنوب والبقاع الغربي، بعد غربلتهم وتأطيرهم طائفيا، لتحقيق دحر للاحتلال عام 2000.

على أن إيران، وعلى مدى العقدين الماضيين، وللمحافظة على ما اكتسبته من مواقع، أرست حالة شاذة في لبنان، هي التعايش القسري بين دولة تسعى اسميا إلى الحداثة والاستقرار والرخاء، وفق إرادة مجتمعها، فيما هي تمعن بالإقطاعية والطائفية لضمان قدرة الشريحة السياسية فيها على النهب الممنهج، وبنية سياسية أمنية اقتصادية تابعة للولي الفقيه في طهران دون حرج قادرة على فرض إرادتها بقوة السلاح، غير خاضعة للمساءلة من أي طرف داخل لبنان، ومشارِكة بالحروب الخارجية غب الطلب بما يتوافق مع المصلحة الإيرانية.

الخطير في هذه المعادلة الإيرانية في لبنان هو أن الطبقة السياسية في لبنان، والتي تماهت بفعل تركيز النفوذ مع شريحة المتمولين، قد استفادت جهارا ومن منطلق خطابي طائفي مبطّن حينا مكشوف أحيانا، من هذه الحالة الشاذة لتنتقل من الاختلاس الخجول للأموال العامة إلى الجشع والفجور في استباحة المال العام. فمقابل الاضطرار المفترض من جانب نخب الطوائف الرضوخ لاستئثار طائفة دون غيرها بالسلاح، جرى تزيين التناطح الاستيلائي على الأموال والأراضي من جانب الطبقة الناهبة على أنه تحقيق لحقوق الطوائف.

إذا كان في زمن ما قد سجّل للجهة التابعة لإيران أنها ترفّعت عن الفساد في أشكاله الفجّة، مستعيضة عنه بتجيير الأموال العامة لصالح بيئتها (بما يعزز الولاء لها في حين يمعن في توسيع الشروخ على مستوى الوطن)، فإن تلك مرحلة غابرة قد ولّى عليها الزمن، بل في سياق التعويض عمّا فات، ثمة جنوح سافر إلى توظيف الاستقواء لتحصيل المزيد من المكاسب المالية.

أي حتى دون كشف قرباني عن الحقيقة التي ثمة إصرار في التعامي عنها، حقيقة أن لبنان إيالة تابعة للشاهنشاهية الإيرانية الجديدة، سواء تزيّت بالزيّ الإسلامي أو المقاوم في ترويجها للخارج، أو أدرجت نفسها في إطار الماضي الفارسي المجيد في حديثها مع جمهورها الداخلي، وحتى دون الاستفاضة فيما يترتب عن تبعية سلاح المقاومة في لبنان لقرار طهران، أي إقحام لبنان بمنازلة تجرح شعور إسرائيل وتتسبب بعض الإضرار بموسمها السياحي مقابل الفتك الكامل بأهل لبنان وخراب عيشهم ومستقبل أولادهم، مع العزاء الطيب الجميل بأن إيران بألف خير، فإن عمق الضرر الذي تتسبب به إيران لا يقتصر على الجانب الحربي، بل يطال ديمومة لبنان وقدرته على الاستمرار.

"إلا سلاح المقاومة"، "إياكم وحرف الثورة عن مطلبها الاقتصادي الاجتماعي"، "حلم إبليس في الجنة"، هذا طبعا بالإضافة إلى التهويل والترهيب. بل المسألة هي سلاح إيران في لبنان، مع كل المحبة لمن يعترض، ودون تطاول على الأشخاص والقناعات والمعتقدات.

إذا كان استثمار إيران في لبنان هو فعلا من باب الدعم لأهله، وإن اقتصر على بعضهم، فالمنطق يظهر أن الاحتفاظ بالسلاح لا يحمي لبنان من إسرائيل، بل الاتفاقات الدولية هي التي تؤطر منع حرب يتسبب بها سلاح إيران في لبنان مع إسرائيل، في حين أن للبنان مكانة دولية وعلاقات واسعة لتحقيق مصلحته حيثما كانت، الدائمة في مياهه البحرية والطارئة في مزارع شبعا. والمنطق يظهر كذلك أن الاحتفاظ بهذا السلاح هو ما يضاعف من الأزمة الاقتصادية إذ يعزل لبنان عن العالم وتفرض عليه العقوبات.

في مضاعفة للإنكار، يستعرض البعض في لبنان، بناء على أفكار طرحها الأمين العام لـ"حزب الله"، إمكانية استدارة لبنانية باتجاه "الشرق" للتخلص من الرأسمالية الغربية. الغريب في هذا الطرح، والذي يجعل من الصين خشبة الخلاص، ليس في غياب الأسئلة عن تحفّظ الصين عن الاستثمار في إيران نفسها أو في سوريا، تجاوبا مع رغبتها الاندراج في المنظومة الرأسمالية الغربية، بل عن التغاضي التام عن واقع لبنان كساحة حرب موعودة، لصالح إيران، عند السعي إلى التأسيس لهذا التوجه الشرقي.

لا تبدو الصين، والتي زارت وفودها المنطقة تباعا، بأنها ترى في هذا المشرق المنهك فرصة رئيسية للاستثمار، وإن كان يندرج، شأنه شأن غيره، في إطار رؤية عالمية للاستثمارات على المدى البعيد. صوابية مد اليد إلى هذا المسعى، لاعتبارات المردود والطبيعة المجحفة للعقود الصينية، كما لاعتبارات الفائدة المتواصلة في الإطار الدولي الغربي، تبقى موضوع بحث ونقاش. أما بناء قصور الرمال إلى جانب سكك الحديد التي تقوم الآمال على أن تنشئها الصين دون اعتبار للتوعد الإيراني بأن هذه السكك، وما يجاورها من قصور، عرضة للتدمير ساعة يشاء الحرس الشاهنشاهي ضرب الكيان الصهيوني، فهو من باب الإفراط في الإنكار، أو من باب تسويق الخرافة.

ساعة تعود صواريخ إيران إلى الممالك المحروسة، ومعها كافة العتاد، وتنتفي عن لبنان صفة الموقع المتقدم لحرب السيد قرباني وزملائه، ويزول عن هذا الوطن خطر أن يدمّر عن بكرة أبيه في معركة ليست معركته، فداء لاستكبار من يدعي محاربة الاستكبار، عندها يجوز الحديث عن استدارة نحو الشرق أو غيره من الجهات الست.

أما اليوم، فالحقيقة الصعبة التي لا بد من مواجهتها هي أن هذا السلاح ليس عرضيا في أذاه. وأن المطالبة بإنهاء الحالة الشاذة في لبنان، والقائمة على وجوده، هي من صميم القضية اللبنانية.

كاتب لبناني