إيران والعراق.. تجارب شيعية في الإسلام السياسي

تعويلُ  إيران الإسلامية بشكلٍ أساسٍ على تنظيم الإخوان المسلمين لإحداث متغيّرات داخل الدول العربيّة وتركيا بغية تحويل أنظمتها إلى نُظم إسلاميّة وقد ارتدّ هذا الشكلُ من التعويل سلبًا على إيران خصوصًا بعد أن استطاعت بعضُ هذه التنظيمات الوصولَ إلى السلطة.

بقلم: أحمد الدرزي

انقسم المسلمون حول تصوّرهم لـ"مسألة الحكم" إلى مدرستين أساسيّتين هما: مدرسة الخلافة، ومدرسة الإمامة. فذهب المعتقدون بأحقيّة عليّ بن أبي طالب في الحكم إلى تبنّي مدرسة الإمامة، وجعلوها من صلب الدين وأساسه، وتعدّدتْ مدارسُهم فيها، فأصابهم الانقسامُ والتشظّي كغيرهم من الفرق الإسلاميّة. ولم تتمكّن نظريّتُهم هذه من النجاح الظاهريّ إلّا خلال فترة الدولة الفاطميّة التي أسّسها الشيعةُ الإسماعيليّون في شمال أفريقيا ووادي النيل وبلاد الشام والحجاز واليمن، ودامت من الفترة الممتدّة بين العاميْن 990 و1111، وكانت عاصمتُها القاهرة. وعلى الرغم من اختلاف التجربة الإسماعيليّة في الحكم عن بقيّة التجارب الإسلاميّة، من حيث القبول بالتعدديّة الثقافيّة والتسامح، فإنّها لم تخرج عن بقيّة التجارب البشريّة، خصوصًا في ما يتعلّق بالصراعات على الحكم وبعض التصفيات.

سيطرتْ عقيدةُ "الانتظار" على أتباع المدرسة الشيعيّة الإثنيْ عشريّة، وابتعدوا عن الخوض في السياسة والحكم آنذاك من منطلق تحريم التعاطي مع الحاكمين وظلمِهم. واستمرّوا على هذه الحال منذ لحظة الغيبة الكبرى للإمام الثاني عشر في العام 923 إلى ما بعد معركة جالديران سنة 1541، أيْ ما بعد هزيمة الشاه إسماعيل الصفويّ، حين عاد إلى داخل فارس ليؤسّس بنيانَ الدولة المتعدّدة القوميّات والشعوب واللغات، وذلك من خلال نقطتين جامعتين وإلزاميّتين:

أ. اللغة الفارسيّة، على الرغم من أصوله التركيّة وتحدُّثِه بها تداولًا وشعرًا وأدبًا.

ب. فرض المذهب الشيعيّ الإثنيْ عشريّ على معظم الشعوب داخل الدولة. وهنا كان الدخولُ الأوّلُ للشيعة في مجال السياسة بعد استعانة الشاه ببهاء الدين العامليّ،[3] والمحقّق الكركيّ،[4] لفرض المذهب ونشره.

ظهر الإشكالُ الأول أمام الإسلام السياسيّ الشيعيّ في إيران في تجاوزه لمسألة الركون إلى الحاكم وانتظار عودة الإمام محمد بن الحسن من غيبته الكبرى. فكان لا بدّ من ثقافة جديدة تحوِّل "الانتظار" من المعنى السلبيّ إلى المعنى الإيجابيّ، إذ إنّ فكرةَ الانتظار الجديدة تحمل في طيّاتها مشروعَ التمهيد للحضور والظهور.

أمّا الإشكال الثاني فكان يستند إلى نظريّة الإمامة في الحكم ومرجعيّتها السياسيّة والدينيّة. فكان الحلُّ بتبنّي مسألة "ولاية الفقيه" التي تتيح للمرجع الفقهيّ الولايةَ العامّةَ عن الأمّة في غيبة الإمام المنتظَر.

وأمّا الإشكال الثالث فيتعلّق بطريقة التعامل مع بنية الدولة الحديثة ذاتِ المنشأ الغربيّ، وغيابِ تصوّر إسلاميّ تفصيليّ يستطيع التعاملَ معها. فكان الحلّ بأنْ جرى الدمجُ  بين المفهوم الإسلاميّ للحكم، ومبادئ الدولة الحديثة التي لا يمكن تجاوزُها. وهو ما أدّى إلى تبنّي نظام الجمهوريّة الإسلاميّة، حيث تتّبع الدولةُ الجديدةُ كلَّ المفاهيم الحديثة التي تستند إلى فكرة الاختيار الشعبيّ، والتي على أساسها استُحدثت المؤسّساتُ الاختياريّة (رئاسة الجمهوريّة، مجلس الشورى، مجلس خبراء تشخيص مصلحة النظام، مجالس المدن، استقلاليّة الجامعات.... الخ)، بالإضافة إلى إشراف مجلس الخبراء على صحّة عمل الوليّ الفقيه. وهذا كلّه أسّس لبناء دولة ثيوقراطيّة لناحية شكلها الظاهريّ، لكنّها في واقع الأمر - ومن خلال سيرورتها الممتدّة أربعين عامًا - لم تكن سوى دولة مدنيّة حديثة، استندتْ في عمليّة التأسيس إلى عنصرين أساسيّين، هما العنصران اللذان اعتمد عليهما الشاه إسماعيل الصفويّ في بناء الدولة الصفويّة؛ عنينا: المذهب الشيعي الإثنيْ عشري، واللغة الفارسيّة.

واجهتْ إيران جملةً من التحدّيات الداخليّة والخارجيّة. من التحدّيات الداخليّة نذْكر التحدّي الاقتصاديّ. إذ لم يتمكّن النموذجُ الإسلاميّ الإيرانيّ من تقديم نموذج إسلاميّ للاقتصاد، ولم يستطع الخروجَ عن النماذج الاقتصاديّة العالميّة ذاتِ الطابع الليبيراليّ. وترافق ذلك مع ظهور طبقة جديدة من الأثرياء، أصبحتْ تشكّل تهديدًا متراكمًا لتوجّهات الدولة الإيرانيّة على الصعيد الداخليّ من خلال ما تحمله من تطلّعاتٍ يَغلب عليها طابعُ الفساد، وتشكّل امتدادًا ممكنًا لأنماط العولمة الاقتصاديّة.

إلى هذه التحدّيات الداخليّة تضاف تحدّياتٌ خارجيّة. وهذه التحدّيات تنبع من خصوصيّة إيران، ومن موقعها الجيوسياسيّ الأخطر في قلب أوراسيا. وقد أدركت التجربةُ الإيرانيّة للإسلام السياسيّ الشيعيّ، منذ اللحظات الأولى لانتصارها، أنّها تحتاج إلى امتدادٍ في محيطها الإسلاميّ يشترك وإيّاها في "حاكميّة الإسلام للدولة،" و"يحمي" الداخلَ من التحوّل نحو النماذج الليبراليّة والعَلمانيّة المحتملة. من هنا جاء تعويلُها بشكلٍ أساسٍ على تنظيم الإخوان المسلمين، لإحداث متغيّرات داخل الدول العربيّة وتركيا، بغية تحويل أنظمتها إلى نُظم إسلاميّة. لكنْ لم يفُت إيرانَ الالتفاتُ إلى سياق تشكّل مثل هذا التنظيم، وأنّه قد تمّ في إطار الرعاية الغربيّة له - تأسيسًا ودعمًا سياسيًّا وماليًّا. وقد ارتدّ هذا الشكلُ من التعويل سلبًا على إيران، خصوصًا بعد أن استطاعت بعضُ هذه التنظيمات الوصولَ إلى السلطة في العقد الأخير.

لكنْ، على الرغم من تبنّي المجتمع الإيرانيّ مشروعَ الجمهوريّة الإسلاميّة بعد الثورة، وبنسبةٍ تفوق 79%، فإنّ مساراتِ السياسات الداخليّة والخارجيّة على مدى أكثر من أربعين عامًا تعطي مدلولاتٍ  لتغيّر عميق وهادئ في مفهوم "الإسلام السياسيّ" وحاكميّته، داخليًّا وخارجيًّا.

اختلفت التجربةُ الإسلامية الشيعية العراقيّة عن التجربة الإيرانيّة من حيث التأسيس في محورين جوهريّين:

1) معارضة المرجعيّة النجفيّة لمسألة الخوض في العمل السياسيّ من منطلقات دينيّة صرفة.

2 ما زالت تحكمه سبعَ عشرةَ هويّةً فرعيّة. وهذا ما ترك انعكاسًا صارخًا على تجربة حزب الدعوة الإسلاميّ. المعلوم أنّ هذا الحزب تشظّى، إلى مجموعة من حركات الإسلام السياسيّ التي يَغْلب على سلوكيّاتها استحضارُ المصالح الضيّقة؛ ما أدّى إلى سقوطها المروّع في فخّ الاحتلال الأمريكيّ، والمساهمة في استحضاره. كما أنّها قبلت "العمليّة السياسيّة" الأمريكيّة التي شلّت العراقَ، وقبلتْ مبدأ المحاصصة السياسيّة وما ترتّب عليها من تشظٍّ للمجتمع العراقيّ، وهيمنةٍ لمنظومات الفساد على المشهد العراقيّ الداخليّ والخارجيّ. وأدّى ذلك كلّه إلى ردّات فعل مجتمعيّة أسقطتْ تجربةَ الإسلام السياسيّ الشيعيّ العراقيّ، وجعلتْ قابليّتَه للاستمرار شبهَ مستحيلة. ولم يكن "الإسلام السياسيّ الإخوانيّ" بعيدًا عن هذه النتيجة أيضًا.

ملخص بحث نشر في الآداب اللبنانية

الشيعة والإسلام السياسي