إيران ونظرية الحزام الناسف وحافة الهاوية

النظام الإيراني لن يخسر إذا ما قرر التراجع بمسؤولية تُقدر أمن ومصالح شعبه بالدرجة الأولى الانسحاب إلى داخل حدوده ويترك المنطقة تهتم بأمرها وينصرف إلى بناء دولة متحضرة تساهم بالاستقرار والتقدم وتترك لعبة المقاومة الموهومة التي ثبت أنها تديرها لبناء وهم الإمبراطورية البائدة.

بقلم: جعفر المظفر

بعد ان قامت أمريكا بتحريك أساطيلها وقواعدها العسكرية العائمة ووضع الأخرى المنتشرة في المنطقة في موضع الاستعداد فإن المواجهة مع إيران دخلت في مساحة كسر العظم، ولأن الحرب هنا هي حرب إرادات، فلا أظن أن أمريكا، إدارة ودولة، مستعدة لأن تخسر حرب الإرادات هذه، وتعود تاركة المنطقة للإرادة الإيرانية لكي تلعب على راحتها.

وفي كل الأحوال فإن افتراض إيران لنفسها الخروج من المواجهة منتصرة إنما يحكمه وهم نظرية حافة الهاوية، وهي ذات النظرية التي عمل بها صدام حينما أوهم نفسه أن امريكا ستكتفي بالتهديد دون أن تدخل في حرب فعلية، ولو أنه كان قد درس التاريخ ولو بشكل سطحي وسريع لتعلم حينها من أزمة الصواريخ الروسية في كوبا، والتي كادت أن تفجر حربا نووية بين العملاقين السوفيتي والأمريكي في بداية الستينيات من القرن الماضي، أن تسيير حشود عسكرية أمريكية هائلة ونوعية لم يكن قد جرى ضمن نظرية حافة الهاوية وإنما جاء ضمن نية وعزم لقبول تحدي الذهاب إلى الهاوية نفسها.

ولمن يعود إلى ذلك المشهد الستيني المفصلي سيكتشف سريعا أن السوفيت، وقد عرفوا بحسهم العسكري والسياسي السليم آنذاك، أن القضية لم تعد تقبل المزاح، سرعان ما أعلنوا عزمهم على الاستجابة للشرط الأمريكي وقاموا فورا بتفكيك منظومة صواريخهم النووية التي اقاموا قواعدها على الأرض الكويبة، وهي ارض لم تكن تبعد عن سواحل فلوريدا بأكثر من أربعمائة ميل.

لا يزال أمام إيران الوقت الكافي لكي تدرك ان سياسة حافة الهاوية لم تعد تثمر، وأن تراجعها، وحتى تلبيتها لأكثر الشروط الأمريكية شراسة سيكون لصالح شعبها ولجميع شعوب المنطقة أيضا، وإن النصر في بعض حالاته هو أن لا تخسر كثيرا .

نعم هناك مكامن للضعف في الخطاب السياسي الأمريكي تجاه إيران، إن الديمقراطيين الذين يملكون أغلبية في الكونغرس لا بد وأن يعتقدوا بأنهم مسؤولون سياسيا وأخلاقيا عن صفقة الاتفاق تلك التي تمت في عهد الرئيس اوباما وهذا يشي بإمكانية أن يقوموا بأداء دور ما لتعطيل قرار الرئيس ترامب خاصة وهم يعتقدون بكل تأكيد أن النصر الناجز ضد إيران سيضيف لترامب والجمهوريين نقاط تفوق في جولة الانتخابات الرئاسية التي باتت على الأبواب. وكذلك قد يقف بعض الجمهوريين أيضا ضد تصعيد المجابهة إلى حد إعلان حالة الحرب، وقد يحسب ترامب نفسه أن المجابهة مع إيران قد تفتح الباب امام مفاجآت غير محمودة

الأمر الذي قد يحتم عليه الوقوف طويلا عند حافة الهاوية دون الدخول إلى مساحتها.

وعلى صعيد آخر هناك ظن أن ترامب سيحسب الأمور بطريقة متأنية، فالدول الأوربية لها موقفها المناوئ للحرب ليس من واقع كونها كانت شريكا فعليا في العقد الذي تم من خلاله الاتفاق النووي مع إيران فحسب وإنما لأن أغلب حكوماتها الديمقراطية لا بد وأن تتوجس خيفة حقيقية من صعود اليمين الترامبي إلى الحد الذي يضيف كثيرا من النقاط لصالح اليمين الأوروبي نفسه الأمر الذي يتهدد أمنها ومستقبلها الاجتماعي والسياسي، إضافة لتقديرها لعمق الأخطار الإستراتيجية التي قد تنشأ ضد أمنها واقتصادها في حالة قيام الحرب نتيجة لتوقف إمدادات النفط من منطقة ترتبط عضويا بأداء آلتها الصناعية، إذ ما زال النفط يشكل مصدر الطاقة الأول، كما أن الانفجارات التي ستعانيها المنطقة الشرق أوسطية برمتها سوف تؤدي بكل تأكيد إلى تصاعد موجات الهجرة إلى أوروبا الأمر الذي سيفاقم أزمة هذه الأخيرة مع مشكلة اللاجئين ويعود ليزيد من مخاطر تراجع أرصدتها قواها الديمقراطية اللبرالية امام أرصدة اليمين الأوروبي.

وبإمكان إيران نفسها أن تظن أن حالتها ليست شبيهة من زوايا مختلفة مع تلك التي كان قد خلقها صدام لنفسه وأدت بدورها إلى حرب عالمية ضده، ذلك أن مجلس الأمن الذي وقف برمته ضد قيام صدام باجتياح الكويت أصدر قبل المواجهة الفعلية وما بعدها قراراته بالإجماع ضد الموقف العراقي.

في الحالة الإيرانية فإن المجلس ملزم بطبيعة الحال باحترام دوره في إبرام الاتفاق وسيقف كما يمكن أن تعتقد إيران بكل حزم لإدانة أي خروج على قراراته السابقة. إن من الوهم أن تدفع إيران بكل هذه المعطيات لزيادة رصيدها في المقاومة إضافة للحسابات التقليدية التي لن تختلف بطبيعة الحال عن حسابات صدام بشأن تقدير خطورة شن الحرب على أمن دول الخليج نفسه وعلى استمرار تدفق النفط نتيجة إغلاق مضيق هرمز. وهناك أمر آخر قد يدخل في تركيب القرار الخاطئ وهو حساب تأثير أذرع إيران الممتدة في مناطق إستراتيجية هامة كالعراق ولبنان وحتى سوريا واليمن، والمستعدة نظريا لنصرة إيران في حربها ضد المصالح والوجود العسكري والاقتصادي لأمريكا بدءا من الخاصرة السعودية والخليجية الرخوة.

إن هذه الحسابات كلها قد تزيد من تهوين الأمر لدى صانعي القرار الإيراني المتطرفين وربما ستدفعهم لحساب نتيجة المعركة بطريقة غير متوازنة، اي بالاتجاه الذي يؤكد على ان الحرب لن تقع، وهو حساب قد ربما يكون قد تم تأسيسه دون الوقوف جديا أمام السؤال الذي يقول وماذا سيحدث لأمريكا والخليج، وحتى لإسرائيل، فيما لو أن أمريكا قد قررت الأمثال للإرادة الإيرانية والعودة إلى من حيث أتت. إن الإجابة على أمر كهذا ليست بالمتعذرة كما أنها ليست صعبة، فالأمر يعني في حالة النكوص والتراجع الأمريكي ان إيران قد ربحت الحرب فعليا وإن بإمكان عالم جديد أن يتشكل وما على أمريكا غير ان تنسحب إلى ما وراء البحار لكي ترضى بدورها ما قبل الحرب العالمية الثانية.

لا أحد يقول بأن إيران لا تملك أوراق قوة. في الظروف الاعتيادية يمكن لإيران أن تناور وتحاور بهذه الأوراق وحتى أن تكسب من خلالها، لكن حينما يخرج الأمر من دائرة التراشق التكتيكي ويدخل في مساحة كسر العظم فإن كثيرا من العوامل التي كانت تشتغل قبل المواجهة سيتم تعطيلها، أو أن أمر تعطيلها قد تم فعليا واولها سقوط ورقة التوت التي تغطي عورة المغامرين في منطقة الخليج، اي تلك التي تعتمد على نظرية الحزام الناسف التي كان صدام قد آمن بها من قبل والتي تقول أن أمريكا ستفكر ألف مرة قبل أن تتخذ قرار المواجهة انطلاقا من حساباتها لطبيعة الأخطار الفعلية التي ستجابهها دول الخليج التي ستدفع هي نفسها باتجاه أن لا تحدث المواجهة لأجل ان لا ينفجر الحزام الناسف فيدمر عموم المنطقة.

كل هذه الأوراق هي في يد اللاعب الإيراني في أوقات التراشق التكتيكي، لكن على هذا اللاعب أن يدرك أن كثيرا من هذه الأوراق سيتراجع تأثيرها حتما حين ينتقل الأمر من ساحة التراشق التكتيكي إلى ساحة التراشق الإستراتيجي، وحينما ينتقل الأمر من مساحة صراع الألسن إلى مساحة صراع الأيدي، ومعنى ذلك بكل تأكيد أن خصمك وقد أتخذ قرار المواجهة قد حسب تماما أوراقه وأوراقك.

إن لدى إيران فرصة كبيرة لمراجعة أوراق القوة التي كانت لديها قبل أن تتخذ امريكا قبولها المنازلة في منطقة الخليج ذاتها، وإن أول ما يجب ان تراجعه هي تلك الدروس التي تجمعت لديها عن قوى واساليب الصراع في الوقت الحالي.

تستطيع مثلا وبحسابات بسيطة أن تفحص مواقف أوروبا الأخيرة بما يتعلق بمسألة استعدادها للتعاون مع معها بوجود عقوبات أمريكية صارمة تهدد اقتصادياتها. أمام مراجعة كهذه لن يكون صعبا معرفة أن أوروبا سوف تطلب من إيران الإذعان للموقف الأمريكي، فما دامت إيران تحارب من خلال سيف المصالح فهي لا بد وانها قد تعرفت إلى حقيقة ان لهذا السيف حدين، وإن انسحاب كبرى الشركات الأوروبية من اتفاقات التعاون مع إيران معناه إن السيف الموجه ضد النحر الإيراني هو الأكثر قربا وحِدَّةً وخطورة. كما أن لنظرية الحزام الناسف تهافتها أيضا لأن الحزام لن يؤذي حال انفجاره دول الخليج وحدها بل لعله سيؤذي إيران أكثر، خاصة وإن دول الخليج ذاتها ربما تكون قد وصلت إلى القناعة التي تؤكد على ضرورة أن يسقط مفعول تلك النظرية إلى الأبد لأن بقاؤها سوف يُبقي السيف الإيراني مسلطا على رؤوسها، وما دامت أمريكا قد تعهدت بإبطال فاعلية ذلك الحزام فما الذي يمنعها بالتالي من قبول التحدي خاصة وإن أمر القبول أو الرفض ليس في يدها وإنما في يد ذلك الذي يعتقد بأنه مكلف بتنفيذ إرادة الرب.

إن النظام الإيراني لن يخسر إذا ما قرر بواقعية أن يتراجع بمسؤولية وطنية تُقدر أمن ومصالح شعبه بالدرجة الأولى، أن ينسحب إلى داخل حدوده وأن يترك المنطقة حتى تهتم بأمرها وأن ينصرف إلى بناء دولة إيرانية متحضرة تساهم باستقرار وتقدم وانتعاش المنطقة وتترك لعبة "المقاومة" الموهومة التي ثبت انها تديرها لبناء وهم الإمبراطورية البائدة، والتي تأكد من خلالها أن إيران لا تريد إنصاف العرب في معركتهم ضد إسرائيل، وإنما هي تحاول انتصاف العرب مع إسرائيل. وما نظنه حقيقةً أن العرب مع وجود نظرية المقاومة بطبعتها الإيرانية قد بات عليهم أن يخسروا مرتين، مرة لإسرائيل ومرة لإيران.